في العام 1989 ألّف الأديب الهندي
البريطاني "سلمان رشدي" روايته الشهيرة "آيات شيطانية"، وفي
العام 2005 رسمت مجموعة من الفنانين الدنماركيين رسوما كاريكاتورية لنبي الإسلام
محمد (ص)، وفي هذا العام 2012 قامت مجموعة من الهواة في أمريكا بإنتاج فيلم قصير
يسيء للرسول محمد (ص)، وفي الحالات السابقة كانت تعم المدن الإسلامية احتجاجات
شعبية عارمة ومسيرات سخط وغضب، غالبا ما تتضمن أعمال عنف وحرق وتخريب، وهجوم على
السفارات الأجنبية، وينجم عنها قتلى وجرحى وخسائر عديدة، فضلا عن التداعيات الأخرى
الإعلامية والدبلوماسية.
بداية، لا جدال على أن حرية الرأي لا
تبرر التطاول على الرموز الدينية للشعوب، وأنه لا يوجد عربي أو مسلم واحد يقبل
بتوجيه أي إهانة للرسول الكريم ( ص )، ولكن هل مجرد رواية، أو بضعة رسوم، أو فيلم
سينمائي يعد سببا كافيا لتلك الموجات العاتية من السخط والغضب ؟ وكيف تمتلك تلك
الأعمال الصغيرة القدرة على تهييج المسلمين ؟ أم أن بعض الإسلاميين يخشون أن تهتز
صورة الإسلام في أذهان أبنائه ؟ أم أن هناك أطرافا خارجية تدير اللعبة، فتثير
الإعلام وتحرض الناس على الخروج ؟ مع العلم أن رفوف المكتبات تمتلئ بمئات الكتب
والروايات والرسومات والأفلام التي يمكن اعتبارها مسيئة للإسلام، أو فيها تطاولا
على النبي، أو حتى تجرؤا على الله سبحانه. فلماذا لم يسمع بها أحد ؟! ولم تخرج
مظاهرة واحدة تستنكرها ؟!
وإذا ما اعتبرنا أن ما يستفز المسلمين
هو التعدي على الرموز الدينية فقط، فهنا ستثور حزمة أخرى من الأسئلة المحيرة: كم
مرة داس الجنود الصهاينة المصحف الشريف تحت بصاطيرهم في السجون الإسرائيلية ؟ كم
مرة أحرق الجنود الأمريكان صفحات من القرآن الكريم في معتقل جوانتنامو ؟ كم مسجدا
أحرقه المستوطنون في الضفة الغربية هذا العام لوحده ؟ وقبل هذا ألم يحرق
الإسرائيليون المسجد الأقصى، بعد أن احتلوه ودنّسوه ؟؟ وبعد ذلك استمروا في تهويد
القدس ؟ فلماذا قوبل كل هذا بالصمت المريب ؟!
وإذا انتقلنا لمستوى استفزازي من
المفترض أنه أعلى من مسألة احترام الرموز الدينية، فلنا أن نتساءل: ألم يقتل متطرف
إسرائيلي عشرات المصلين الفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي وهم سجود ؟؟ ألم يُنتَهك
الشرف العربي بالمعنى الحقيقي والمباشر في معتقل أبو غريب على يد مجندة أمريكية
معتوهة ؟؟ ألا يرى العالم الإسلامي الذل والهوان الذي يكابده الفلسطينيون يوميا
على الحواجز!؟ ألم تجتاح الدبابات الإسرائيلية المدن الفلسطينية ؟ ألم تسقط بغداد
أمام أعيننا وعلى الهواء مباشرة دون أن نحرك ساكناً ؟ ومن قبلها سقطت بيروت ؟ ألم
تصبح أفغانستان والعراق في القبضة الأمريكية تسرح وتمرح فيها جيبات الهمر كيفما
تشاء ؟ ألا يعتبر احتلال فلسطين وتدنيس المقدسات إساءة لمشاعر المسلمين ؟؟!! ألم
يكن موت مئات آلاف العراقيين وأكثرهم من الأطفال بسبب الحصار كافيا لاستفزاز
المشاعر الإسلامية ؟ ألم نخسر نصف السودان ؟ ألم يحزن أحد على ضحايا المجاعات في
الصومال التي مزقتها حروب الطوائف ؟ ألا يكفي مسلسل القتل اليومي في سوريا
لاستفزاز مشاعر المسلمين ؟ هل من الضروري أن يتم تصوير تلك المآسي والمخازي
والهزائم في فيلم لكي يثور المسلمون ؟!
غريب جدا كيف نجح بضعة ممثلين مغمورين
بتصوير مقاطع فيديو بأسلوب بدائي سطحي، وبتكلفة لا تتجاوز مئات الدولارات، وتسميته
فيلما، ورفعه إلى "اليوتيوب"، وهو عمل قمة في الابتذال والسخافة، ويصعب
وصفه بالفني بأي مقياس، كيف نجح هؤلاء الحاقدون بتحريك العالم الإسلامي ودفعه إلى
حافة الجنون ؟؟! فيما لم تحركهم أحداثا جسيمة، ولم تهزهم هزائم منكرة ؟؟
أجزم بأن أحد من جموع الغاضبين من
جاكرتا إلى الرباط لم يشاهد الفيلم، ولم يشاهد أحد من قبل تلك الرسوم
الكاريكاتورية، ولم يقرأ أحد رواية رشدي ؟! وكان سهلا على الإعلام في تلك الحالات
فقط تثوير الناس واستفزاز مشاعرهم. ولولا ما أحدثوه من ضجة لبقيت كل تلك الأعمال
الصغيرة في عالم النسيان، ولما انتبه لها أحد، ولكنها - بفضل ذكائنا - صارت فيما
بعد الأكثر مبيعا والأكثر مشاهدة.
وما يثير الريبة في الاحتجاجات الحالية
أنها خلت تماما من دعوات مقاطعة المنتجات الأمريكية ! علما بأن الاحتجاجات السابقة
على رسوم الكاريكاتير كانت تتركز على الدعوة لمقاطعة المنتجات الدنماركية، التي
وصلت عند البعض حد التحريم ! ألا يعني ذلك أن تلك الموجة الغاضبة ضد الدنمارك كانت
مجرد هبة عاطفية صُبت في مصلحة حرب تجارية كانت تقودها وتؤججها الولايات المتحدة
لخدمة أهدافها ومصالحها ؟
والغريب أيضا هذه المرة، أن من هجموا
على السفارات الأميركية، هم من يقفون طوابير أمامها طلبا للهجرة إليها، ومن أحرقوا
مطاعم الوجبات الأمريكية هم من يتلذذون بها في الأيام الأخرى، ومن يسبونها نهارا
هم من يفضلون صناعاتها على غيرها ليلا، الا يُعد هذا تناقضا وانفصاما في الشخصية
؟!
وبدلا من أن يوظف المسلمون ما حدث
بإظهار الفلم كجزء من ممارسات عنصرية دأبت عليها دوائر الغرب، حصل العكس؛ حيث استفادت
أمريكا مما حدث على المستوى الإعلامي، وعززت قناعات العالم بأن حربها المزعومة على
الإرهاب مبررة، وأظهرت الجانب الغوغائي والهمجي في تصرفات المتظاهرين، سيما وأنها
جاءت في ذكرى 11 أيلول، وكانت ذروتها مقتل السفير الأمريكي في ليبيا.
أما على المستوى الاستراتيجي، فصار
واضحا لدى المخططين وصناع القرار ما يستفز المسلمين، وما لا يستفزهم، وأن بإمكان
أمريكا المضي قدما في مشروعها الإمبريالي شريطة أن لا تتبنى أي فيلم، أو تدافع عن
صورة فيها إساءة للرسول.
أرجو أن يكون العالم الإسلامي قد راكم
تلك الإهانات في ذاكرته، وتنبه هذه المرة، وبدأ يصحو ويعبر عن غضب حقيقي، وأتمنى
أن يرى بوضوح المصائب والمخاطر التي تحيط به من كل الاتجاهات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق