مع تصاعد الاحتجاجات في
المدن الفلسطينية ضد الغلاء وضد تدهور الأحوال المعيشية، صار واضحا أن أطرافا
عديدة ومختلفة تسعى جاهدة لأن تدخل على الخط، ولأن لهؤلاء غايات ومنطلقات متباينة؛
من الصعب حصرها في نقطة واحدة، إلا أنه من السهل تحديد هدف مرحلي محدد لها وهو
إسقاط حكومة فياض، ومن المؤكد أن لبعضهم أهدافا أخرى تتجاوز فياض، وقد تصل إلى حد
الإجهاز على المشروع الوطني برمته، من خلال الإجهاز على منظمة التحرير الفلسطينية.
ومع التأكيد على حق
الجماهير بالتعبير والاحتجاج والتظاهر؛ إلا أن المفارقة أن هؤلاء المندسون الذين
يستغلون التسهيلات التي تقدمها الأجهزة الأمنية للمتظاهرين هم الذين يسيئون إلى
هذا الحق؛ حيث يقومون بأعمال تخريبية واعتداءات على الأملاك العامة والتهجم على
مقرات الشرطة والبلديات ويغلقون الشوارع ويحرقون الإطارات ... وبهذه الإساءات
فإنهم يحرفون مسار التظاهرات ويخرجونها عن أهدافها التي انطلقت من أجلها، ويجعلون
الناس تنفر منها، وتعزف عن المشاركة فيها؛ لأن الناس بطبيعتها ترفض التخريب، كما
أنهم يزودون السلطة بمبررات موضوعية لقمع هذه التظاهرات، بعد أن تحولت إلى أعمال
شَغَب.
والأهم من هذا أن هؤلاء
المندسون يحرفون البوصلة الوطنية نحو الاتجاهات المشبوهة؛ والتي لا تخدم أحدا سوى
مصلحة العدو؛ فبدلا من تحليل أسباب الغلاء وتوجيه الجهود باتجاهها، استغل هؤلاء
فقر الناس وجوعهم وغضبهم وجيّروه لخدمة أجنداتهم الخاصة، والتي في النهاية لن تطعم
جائعا ولن تأوي مشردا.
أبرز مثال على ذلك شعار
"إرحل"، وهو شعار كان مناسبا لثورات شعبية جرت في بلدان عربية أخرى،
ولكنه ليس بالضرورة مناسبا للحالة الفلسطينية، وما جرى هو نسخ هذا الشعار وتقليد
لمن رفعوه من قبل. وهو غير مناسب لحالتنا لأن تغيير سلام فياض لا يحتاج ثورة شعبية،
فهو مجرد موظف حكومي برتبة رئيس وزراء يمكن إقالته بقرار من الرئيس، أو سحب الثقة
منه من قبل المجلس التشريعي (المعطل)، أو بالضغوطات الشعبية والحملات الإعلامية
والمسيرات السلمية، وهذه الوسائل إذا كانت غير متاحة الآن لأسباب مختلفة، فإن
السبيل الأهم والأكثر نجاعة هو إجراء الانتخابات.
فإذا كان من يرفع شعار
"إرحل" صادق في دعوته وحريص على مصلحة بلده ويريد التغيير للأحسن؛ فعليه
أولا تغيير هذا الشعار والمطالبة بدلا منه بإجراء الانتخابات، لأنها المخرج الوحيد
من الأزمة، والوسيلة الأفضل للتغيير، والطريقة الأسهل لتداول السلطة .. الانتخابات
هي التي تعبر عن إرادة الشعب الصادقة الحرة الواعية دون الوقوع في فخ الانفعالات
والتهييج وتصيد الأخطاء والانتهازية السياسية، وهي التي تتيح للجماهير أن تعبر عن
نفسها بوسائل حضارية، وهي التي تجنب البلاد العنف والتخريب والفوضى.
ولما كانت الانتخابات
هي التي تعطي جميع الأطراف فرص متساوية لاستلام السلطة ودون دماء وخراب، فإن
"إرحل"، هكذا بدون انتخابات وبدون توفير البدائل ستعني جـر البلد نحو
الفوضى والفلتان، وستعني أيضا هدم كل المنجزات، وتقويض كل ما يمكن إنجازه، يعني
عبقرية الفشل بامتياز.
الانتخابات هي القادرة
على تغيير كل القيادة، من الرئيس عباس وحتى أصغر رئيس مجلس قروي، مرورا بالمجلس
التشريعي والمجلس الوطني، وهذا يعني القدرة على تغيير النظام، والخط السياسي
العام، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، وتغيير الخارطة السياسية داخليا
وخارجيا، وهي التي ستمكن من وضع أسس جديدة للمحاسبة والمسائلة ومكافحة الفساد.
لكن الانتخابات ستغيّبُ
وجوهاً كثيرة تتشبث بالسلطة، وستضع كل النظريات العبقرية والشعارات الكبيرة موضع
الاختبار، وستغيب حتما كل المتاجرين بجوع الشعب وأصحاب الخطابات والشعارات .. لهذه
الأسباب هناك أطراف ترفض الانتخابات وتخشاها .. لأنها ستكشف كذبهم، وستميز الخبيث
من الطيب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق