كما كان
"اسبارتاكيوس" رمزا لثورة العبيد في روما القديمة؛ فقد مثّلَت قصة
"كونتا كنتي" ملحمة العبودية والعذاب في أمريكا الحديثة، وهي ملحمة
إنسانية امتدت على مدى قرنين من الزمان، تفيض بالتفاصيل المدهشة والتناقضات
الغريبة وصور فظيعة من العذاب والقسوة، وقد خلدها حفيد "كونتا" عندما
تتبع جذوره، حتى وصل إلى "جوفور" في غامبيا، تلك القرية التي كانت تموت
تحت وطأة الجفاف والجوع، حين مر بها "كنتي" فمكث فيها سبع أيام بلياليها
يدعوا خالقه أن يفك كرب الناس، فهطل المطر في اليوم الثامن، ليصبح من بعدها قديسا
مباركا.
وكعادة الأفريقيين، حمل الأب مولوده
الجديد في اليوم السابع ولوّح به صوب السماء ليؤذن في إذنه ثلاثة: اسمك
"كونتا"؛ فلا شيء يوازي أهمية الاسم في "جوفور" إلا قدرة
الرجل على الإنجاب. في صبيحة ذلك اليوم، وبينما نساء القرية يطحنَّ الحبوب بالهاون،
ويعددن الإفطار المكون من العصيدة أخذت الطبول تقرع بصوتها المهيب لتنشر الخبر.
وفي الطرف الآخر من الأرض، وبعد
نصف قرن من العذاب، حمل "كونتا" ابنته، متبعا نفس الطقوس، ولوح بها تحت
ضوء القمر ليهمس في إذنها الصغيرة: اسمك "كيزي"، ويعني بلغة "المانديكا"
ستظلين معي أمام عيني. كان يعلم أن تسمية المواليد الجدد من حق السيد، وأن ممارسة
أي طقس أفريقي أو التحدث بلغة غريبة كافية لإنزال أشد العقوبات، وبالرغم من ذلك
فقد خاطر وأصر على منح ابنته اسما إفريقيا، لتنبت أشجار الوطن في خلاياها.
لم يكن هذا تمرد
"كونتا" الأول؛ فقد رفض من قبل اسم "طوبي"، وتحمل جولات من
الجلد ليجبروه على تقبل اسمه الجديد. بل إنه ما أن وطأت قدماه أرض
"أنابوليس" وحرروه من القيود ليُعرض للبيع في المزاد حتى فـرَّ هارباً،
وبعد إعادته تحت وابل من السياط، فـرَّ ثانية ما أن هبط عليه الليل، ثم كرر
المحاولة خمس مرات، كانوا في كل مرة يسومونه سوء العذاب، وفي المرة الأخيرة قطع
صيادو العبيد قدمه اليمنى، لكن ألمها الذي لا يوصف كان لا يضاهي ألم فكرة أنه
سيعجز عن الهروب مرة ثانية.
كان هواء إفريقيا يملأ رئتيه،
ونمورها تزمجر في دمه، ووفقا لعادة قديمة كان في نهاية كل شهر قمري يضع حصاة صغيرة
في جرة فخار، وفي نهاية كل سنة مطيرة يضع حصاة أكبر، كان يعد أيامه في الأرض
الغريبة، ليعرف ما تبقى منها، مفعما بأمل لحوح أنه سيطأ أرض "جوفور" قبل
أن يحين أجله، وإذا غدرت به الأيام كما فعلت من قبل حينما خرج للغابة باحثا عن جذع
شجرة ليصنع منها طبلا تدق له يوم زواجه وتعلن الخبر في القرى المجاورة، إلا أن شِباك
الخونة باغتته يومها ليصل "فرجينيا" عبدا ذليلا، كان يأمل أن
"كيزي" ستعود يوما لتحكي لأبناء عمومتها قصتها الحزينة.
كانت "كيزي" فقط هي
من تعطيه سببا للحياة، كما كانت قلقه الموجع، ذات يوم رأى في السوق مجموعة من
البيض يتجمهرون حول رجل يعرض بضاعته: طفلة سوداء بالكاد تكور ثدياها، كان يصيح
كالمهرج: خمسمائة، ستمائة .. من يزيد ؟؟ ثم بحركة واحدة نزع عنها ملابسها قائلا
إنها عذراء حارة، ولولا بضعة جروح على ظهرها من أثر السياط لما قبلت ثمنا لها أقل
من ألف دولار .. في تلك الليلة لم يغمض "كونتا" جفنيه، ولا في اليوم
الثاني، ولسنة كاملة لم يغب هذا المشهد عن مخيلته، كان يخشى أن تواجه
"كيزي" نفس المصير ..
لكن صاحب المزرعة كان من
النوع الذي لا يفرط بعبيده، ولم يسبق أن باع أحدهم، إلا سائقه الخاص، لأنه حاول
الهرب، هذا ربما ما كان يبعث في نفسه بعض الطمأنينة، ويمنحه الأمل بأن
"كيزي" ستكبر أمام عينيه، وسيزوجها بنفسه، كان واثقا أنها ستسمي مولودها
على اسمه.
كبرت "كيزي" وتعلمت
القراءة خفية، وكان أباها يصطحبها من حين لآخر، يتمشون معاً .. فيغني لها أغاني
"غامبيا"، ويؤشر على الشجرة ويقول هذه "بيرو"، ثم يشير إلى
الطريق ويقول هذا "سيلو"، ثم يشير للشمس ويقول هذه "تيلو"،
وكانت تردد من خلفه وتضحك.لم ينغص على احتفاله بها سوى خوفه من بيعها ذات يوم.
بلغت "كيزي"
السادسة عشر، كانت رشيقة فاتنة، يفيض قلبها بالحنان، أحس أبوها أنها نضجت دفعة
واحدة، نظر إليها بحزن وقال في نفسه، لو كنا في "جوفور" لقامت أمها
بتعليمها كيف تلمع جلدها بزبدة شجرة الشيا، وكيف تسوّد شفتيها وتحنّي كفّيها
وكعبيها .. فهي الآن بعمر يجتذب العرسان الذين يبحثون عن عروس جميلة حسنة التربية.
في صبيحة يوم شتائي كئيب، لم
يكن "كونتا" يعلم أنه سيواجه أسوأ مخاوفه؛ فقد جاء الشريف غاضبا بعد أن
عرف أن "كيزي" زورت تصريح مرور لحبيبها "نوح" لتساعده على
الهرب، بعد أن وعدها أنه سيشتري حريتها قريبا، أما "وولر" فقد كان قراره
سريعا وحاسما: سيبيعها في أول مزاد.
دخل كونتا إلى غرفة "وولر"
لأول مرة في حياته وهو مجتمعا مع الشريف، وقال بنبرة غير معتادة ممزوجة بين الرجاء
والغضب: أين ابنتي ؟ أريد أن آخذها الآن مهما كان الأمر. صك "وولر" على
أسنانه بغيظ وقال له أخرج الآن، بينما مد الشريف يديه إلى جراب مسدسه، عادت
"بيل" ترجوه وتذكّره أنها وزوجها وابنتها خدمته كل هذه السنين، وتتوسل
إليه أن يصفح عنها، كان نحيبها يقطع نياط القلب، لكنه أجاب ببرود أنتم كنتم تقومون
بواجبكم، وهي أخطأت ويجب أن تعاقب، وأنا سأبيعها، وهذا كل ما في الأمر.
زمجر الأبوان بغضب وهجما على
العربة التي كانت ستقل "كيزي"، ضرب "كونتا" سيده لكمة طرحته
أرضا، وقبل أن يستدير كان قبضة مسدس الشريف تهوي على رأسه بضربات سريعة متتالية أفقدته
توازنه، نهض يترنح ويركض غير آبه بتهديد المسدس وهو يصيح كالمجنون، بينما العربة
تبتعد مسرعة وصوت "كيزي" الجريح يختفي شيئا فشيئا.
ومضت في ذهنه أسطورة كان
يرددها أسلافه أن أثر التراب عند آخر موضع قدمٍ للمسافر إذا حُفظ في مكان آمن يضمن
له أن يعود، أمسك حفنة من التراب الذي كان آخر ما داست عليه قدمي
"كيزي"، وخطر له أن المكان الآمن لحفظه هو الجرة.
في ذلك المساء عاد
"كونتا" إلى كوخه محطما يائسا، كان الدم ينـزف بغزارة من مواضع كثير من
جسمه، لكن آلام روحه كانت أشد وجعا، وما أن دخل الكوخ حتى أيقن أنه لن يرى ابنته
بعد الآن، شهق بحزن وبكى بصوت مخنوق، نثر التراب على رأسه، ثم أمسك بجرة الفخار وبكل
قوته ألقاها أرضا؛ فتحطمت وتناثرت حصياته في كل اتجاه، كانت ستمائة واثنتين وستين
حصاة، كل واحدة منها تشهد على ضياع شهر من عمره في الأرض الغريبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق