كان
تجار العبيد يأتون من وراء البحار، بسفن ضيقة تنبعث منها روائح كريهة، تدفعها رياح
أطماعهم التي لا تعرف حدا، كانت وجوههم بلون الغبار، وقد خبا بريق عيونهم، وصار
شررا ينذر بالحريق .. كان السكان يسمونهم "الطوبوب"، ويحذرون أبناءهم أن
يمشوا فرادى في الغابات، حتى لا يختطفهم الطوبوب فيأكلونهم، أو يرسلونهم إلى الطرف
الثاني من الكوكب، حيث السماء صفراء، والأرض يباب قاحلة ممتدة بلا نهاية، والهواء
مثقل برائحة البارود، ولا يُسمع في مدى الصمت إلا فحيح الأفاعي، وقصص العصابات،
ومن يصل هناك لا يعود أبدا.
في
الليالي الظلماء التي امتدت مائة عام، كان الطوبوب يصطادون الرجال بشباك الخونة،
النساء والأطفال كان صيدهم أسهل، يقتادونهم فرادى وزمرا مقيدين بسلاسل من حديد،
يملئون بهم السفن، ثم يمضون. في الطريق الطويل نحو المجهول بدى المحيط أكبر بكثير
مما كانوا يظنون، وأكثر قسوة، كانوا مكدسين على رفوف معدنية وهم مكبلين، كما لو أنهم أكياس بطاطا،
يخرجونهم بين فينة وأخرى لتنهال السياط على ظهورهم، وتحفر فيها أخاديد متفاوتة
العمق، وترسم على جلودهم خطوطا في كل الاتجاهات، وعندما تتقيح جروحهم يرشقونها
بماء البحر المالح، فتكمل الشمس جريمتهم.
مزق
أبيضٌ ثياب إحداهن، وتجمهر بيض آخرون من حولها، بدأت تغني بنحيب، بلغة إفريقية لا
يفقهونها: أقتلوا الطوبوب اقتلوا الطوبوب .. لكن أخوتها كانوا عاجزين حتى عن
سماعها، قالت لهم بأسى: دعوني أريكم رقصتي، تباعدوا من حولها، قفزت إلى الماء، كان
لونه أزرقا كسحابة خجولة؛ فصار بقعة حمراء تحوم حولها أسماكا لها زعانف مثلتة
سوداء .. كانت رقصتها الأخيرة.
على امتداد أشهر ثقيلة، بطيئة، ظنوا أن أنهم
سيقضون ما تبقى من حياتهم في هذا المحيط، لكنهم تفاجئوا أن للطوبوب يابسة، وأنهم
لا يريدون قتلهم، بل يريدونهم عبيدا، وعرفوا فيما بعد أن هذه اليابسة اسمها
"أريزونا"، وذاك النهر اسمه "الميسيسبي"، وهؤلاء القوم بلا
رحمة، وأن مستقبلهم قد تحددت ملامحه بكل قسوة وبمنتهى الصرامة.
منحهم
الطوبوب أسماء جديدة، وأكواخ من صفيح، ومعاول يحرثون بها مزارعهم، حاولوا الهروب
بلا جدوى، أين المفر في هذه الأرض الغريبة ؟؟ منهم من رُوِّضت روحه تحت لهيب
السياط، ومنهم من أبى، ثلاثون عبدا اتفقوا دون أي اجتماع، أمسكوا بأيادي بعضهم،
وتعانقوا، وراحوا يمشون باتجاه النهر، وهم يصدحون بأغاني أسلافهم، وقد زأرت في
دمائهم أسود إفريقيا، ظللوا يمشون ويغنون غير آبهين بتهديدات أسيادهم، حتى وصلوا
النهر، ضحك البيض عليهم وهم موقنين أنهم وصلوا طريقهم المسدود، وأنهم سيلهبون ظهورهم
هذا المساء، لكنهم واصلوا السير .. وقد صار صوتهم أعلى، ولحنهم يقطر بالحنين ..
استمروا بالغناء حتى ابتلعهم هذا النهر الذي لم يعرفوا كيف يلفظون اسمه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق