بعد أن كتبت مقالتي الأخيرة عن مذابح بورما، تلقيت ردود
أفعال وتعليقات متباينة، ما بين مؤيد ومعارض، لكن أكثر ما أقلقني أن يكون هناك
بالفعل مذابح مروعة يروح ضحيتها أبرياء ولا أُدين القتلة، أو أساهم في إخفاء
الجريمة أو التقليل من شأنها؛ لذا كان لا بد من مراجعة الموضوع والبحث فيه بشكل
أعمق.
ما حيرني - وأشرت إليه في المقال السابق - أنّ أخبار
المذابح لا تذكرها وكالات الأنباء المعروفة، وربما يوافقني الكثيرون أن نشرات
الأخبار في مختلف الفضائيات وعناوين الصحف المشهورة – وغير المشهورة – لا تتناقل
هذه الأنباء، أو تذكرها بشكل عرضي ودون تركيز يتناسب مع ما يُنشر على صفحات
الفيسبوك، وما زاد من تعقيد الصورة أن معظم الصور مفبركة ومزورة، وقد التقطت في
أماكن أخرى في زمن آخر. ولكن بالاطلاع على تقارير صحافية يمكن الوثوق بها تبين لي
بالفعل أن هناك مذابح حقيقية تجري بحق أقلية الروهينجا المسلمين في ميانمار (بورما
سابقا). لذا اقتضى ذلك مني التنويه، وقيل: الرجوع للحق فضيلة.
للإعلام لعبته وسياساته وأجنداته، وهو غالبا موجه، ويخدم
دول وجماعات معينة، فيركز على مقتل قطة ويجعلنا نذرف الدموع عليها، وقد يتجاهل
مأساة شعب بأسره وكأن شيء لم يحدث، وبالتالي فإن إخفاء قضية ما، أو تجاهلها لا
يعني أنها ليست موجودة، أو أنها غير مهمة. فكل جهة تحدد مدى أهمية الحدث وفقا لما
يخدم مصالحها.
صحيح أن عدد الضحايا المسلمين في بورما أقل بكثير مما يشاع
على الفيسبوك، ولكن سواء كانوا بالعشرات أم بالمئات فذلك لا يقلل من حجم الجريمة،
ويستدعي منا جميعا إدانتها، خاصة أن معظم الروايات تؤكد على حرق وتدمير مئات
المنازل وتشريد آلاف العائلات، ومن وجهة نظري فإن تشريد عائلة بدون ذنب هو أكبر
وأخس جريمة بحق الإنسانية.
ما يجري في
ميانمار التي تبنت الديمقراطية حديثا بعد عقود من حكم العسكر الديكتاتوري، أن
الرئيس الجديد "ثين سين" رفع مستوى عمليات التمييز العنصري التي كانت ترتكب
ضد الأقلية المسلمة في إقليم أراكان إلى مرتبة سياسة دولة ممنهجة ومعلنة، بإبلاغه
مفوض الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن "الحل الوحيد لأفراد عرقية الروهينجا
المسلمة يقضي بتجميعهم في مخيمات للاجئين، أو طردهم من البلد"، وعلى ما يبدو
أن الحاكم الجديد أراد استغلال موجات المديح التي انهالت على بورما بعد تبنيها
الديمقراطية بإطلاقه مثل هذه الأقوال العنصرية المتطرفة. لكن أجهزة الأمن والغوغاء
لم يكتفوا بذلك؛ إذ أوصلوها إلى مرتبة التطهير العرقي. فوفقا لمنظمة العفو الدولية
وهيومن رايتس ووتش، ذكرت تقارير أن قوات أمن الدولة قامت بحملات اعتقال جماعية للمسلمين،
وأنها دمرت آلاف المنازل، ومع أن الحكومة أعلنت حالة الطوارئ وأوقفت عمليا أعمال
العنف إلا أن أحوال الروهينجا ما تزال تثير القلق، والناجون منهم يتناقلون روايات
مرعبة.
وبغض النظر عن الأسباب المباشرة لاندلاع أعمال العنف في
البلاد؛ فإن ما كشفته أن أوضاع الروهينجا أقل ما يقال عنها أنها بائسة، وأن حقوقهم
مهضومة، ويتعرضون لمعاملة قاسية لا تحترم إنسانيتهم، بل أنهم لا يعتبرون مواطنين،
حيث يغلق دستور ميانمار كافة الخيارات المتاحة أمامهم ليكونوا مواطنين، باعتبار أنهم
من أصول بنغالية، وأن أجدادهم لم يعيشوا في بورما، وأنهم جاؤوا مع الاستعمار البريطاني
في القرن 19.
هذه الممارسات التمييزية ضد الروهينجا هي سياسة حكومة
يمينية بامتياز، وتنطلق من أسس عرقية عنصرية، يسعى البعض لإلباسها ثوبا آخر، وإذا
كان من يقترف جرائم التطهير العرقي من الأغلبية البوذية، فإن هذا لا يعني أنها حرب
دينية؛ فالبوذية ترفض العنف كليا، ومن يمارس العنف والقتل لا ينطلق من وحي تعليمات
دينية، بل يمارس جرائمه مدفوعا بغرائزه وساديته وأمراضه النفسية التي تغذيها أفكار
التطرف والتعصب.
الجهات التي تنقل صور المذابح وتهول من الأخبار وتبالغ في
تصويرها، هي إما جهات سياسية تريد صرف الأنظار عما يجري في منطقتنا، وتشتيت الجهود
بعيدا عن قضايانا الرئيسة. أو جهات من الإسلام السياسي الذين يرغبون دوما بتصوير
أي حادثة تجري ضد أي مسلم في أي بلد كأنها حرب صليبية أو عدوان على الإسلام.
وللأسف في الحالتين تضيع الحقيقة؛ فإما أن ينجح الأعداء بتوجيهنا بعيدا عنهم (كما
في الحالة الأولى) وقد رأينا في العقود الماضية أمثلة كثيرة على ذلك؛ حين كانت
الحكومات العربية المأزومة تصدر أزماتها إلى أفغانستان وغيرها من مناطق الحروب
الأهلية، وكانت إسرائيل تسلم من هجمات "المجاهدين" الذين صوبوا بنادقهم
بعيدا عنها آلاف الأميال. وفي الحالة الثانية كان يتم التمويه على العدو الحقيقي،
واختلاق أعداء افتراضيين، أو تكريس الطائفية بأبشع أشكالها.
إذا أردنا نصرة مسلمي البورما باعتبارهم أقلية مظلومة ومضطهدة؛
فإن ذلك يكون بطرح قضيتهم في المحافل الدولية، وإظهار معاناتهم للرأي العام،
وتنظيم حملات إعلامية بطريقة محترمة وموضوعية، لا تستخدم فيها الصور المفبركة
وعبارات التحريض الطائفي التي تدعو للكراهية والعنف، ولا تخدم قضيتهم بشيء؛ بل
تخدم دعاوى المحرضين الذين يتاجرون بعذابات الآخرين.
وقبل أن نتحدث عن مظالم المسلمين في بورما وغيرهم من
الأقليات المضهدة، علينا أن نتذكر أن في بلادنا العربية فئات اجتماعية محرومة،
وأقليات طائفية وإثنية يتم سحقها وحرمانها من أبسط حقوقها، وعلينا أن نخجل من
أنفسنا قبل أن نهاجم الآخرين.
وقبل أن نتحدث عن حرب على الإسلام، أن نتذكر أن من يسمون
أنفسهم إسلاميين من الشيعة والسنة في العراق (على سبيل المثال لا الحصر) قد قتلوا من
المسلمين الأبرياء المدنيين مئات الآلاف في حرب طائفية قذرة، ودمروا عشرات المساجد
والحسينيات وهم يهتفون الله أكبر، وكان كل طرف منهم يدعي أنه ممثل الإسلام الصحيح
والناطق باسمه. هذا دون أن نذكر الضحايا المدنيين الأبرياء من الديانات والطوائف
الأخرى.
وقبل أن نوجه أنظارنا صوب بورما أو غيرها من المناطق
المنكوبة، علينا أن ندرك حساسية المرحلة التي نمر بها، وخطورة الأحداث التي تتشكل
من حولنا، وأن هذا يتطلب منا تركيز كل الجهود والطاقات على قضايا الحقيقية الملحة،
وإنقاذ ما تبقى من روح الربيع العربي، مع ترحّمنا وتعاطفنا مع كل المظلومين في
العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق