أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 06، 2012

هل الشعب الفلسطيني موحَّـد ؟!


الانقسام السياسي الذي نشأ عن "الحسم العسكري" في غزة، ونجمَ عنه انفصال شطري الوطن، وتشكُّل نظام سياسي برأسين، ليس هو الشكل الوحيد من أشكال الانقسامات داخل المجتمع الفلسطيني؛ فأي متتبع للوضع الفلسطيني بإمكانه تشخيص حالات عديدة، وتصنيفات غير محدودة تعبّر عن أشكال مختلفة من الانقسام والتشرذم.

وليس في هذا الطرح تقليل من خطورة الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس، أو تجميلا له، فمخاطره على القضية الفلسطينية تدركها كافة قيادات العمل السياسي، ومساوئه السياسية والاجتماعية يعاني منها كافة قطاعات المجتمع. ولكن التصنيفات التي نتحدث عنها – وأغلبها ذات بعد اجتماعي – من نوع آخر، منها ما هو قديم قِدم المجتمع الفلسطيني، ومنها ما هو جديد وطارئ، ومنها ما هو خاص بالمجتمع الفلسطيني، ومنها ما هو طبيعي وتعاني منه أغلب المجتمعات الإنسانية.
في المجتمع الفلسطيني، لكل فرد أو فئة منه نصيبٌ من الانقسام، وتصنيف ثابت وآخر متغير، وسيلٌ من التهم الجاهزة والمتبادَلة - ونحن هنا لا نتبنى أيٍ من هذه التصنيفات، ولا نقبل بها، ولكنّا نوردها لتسليط الضوء على هذه الظاهرة المقلقة والخطيرة – فعلى سبيل المثال هناك تفرقة بين فلسطينيي الداخل والخارج؛ من هم في الخارج يعتبرون من في الداخل متخلفين، ومن في الداخل ينظرون لمن هم في الخارج على أنهم مزاودون ولا يأبهون بمعاناتهم. في الخارج أيضا يتكتل الغزاويون والضفاويون كلٌ على حدة. وفي داخل فلسطين، يَعتبر أهل الضفة وغزة أن أهلنا داخل الخط الأخضر باتوا إسرائيليين، وأنهم يأتون لمدنهم فقط للتسوق لأن الأسعار فيها أقل. وينظر بعض الضفاويون لأهل القدس نظرة ريبة وشك، ويقولون أن تمسكهم بهوية القدس لدواعي المصلحة فقط، بينما يتعالى أهل القدس على أهل الضفة، وعلى المستوى العملي يرفض الطرفان أهل غزة. ثم نجد التفرقة بين الشمال والجنوب، سواء في قطاع غزة أم في الضفة الغربية.
في رام الله يسمّون أهل الشمال "تايلنديين" بحجة أنهم أتوا للمدينة للعمل بأجور زهيدة وأن هذا تهديد لمصالحهم، بينما يرى أهل الشمال أن أهل رام الله تجار جشعين، وأنها مدينة لا ترحم. ثم نجد التصنيف بين الفلاح والمدني، وهو من أقدم التصنيفات، وكان من بين أسباب فشل ثورة ال 36. وهناك التمييز المزمن بين النابلسي والخليلي، واتفاق الطرفان على نبذ القرويين، فإذا دخل تاجر "غريب" ببضاعته أسواق الخليل مثلا فلن يجد من يشتري منه. وعلى مستوى القرى سنجد التهم الجاهزة؛ فالقرى الحدودية متهَمة بالعمالة والتأثر باليهود، وقرى الجنوب متهَمة بالتخلف، وقرى المشاريق متهَمة بالجهالة والتعصب. وهناك من يمنح لكل قرية صفات محددة وسمات ثابتة، وكأن جميع سكانها من طينة واحدة. وفي داخل القرية وأيضا في المدن ستجد التفرقة بين العشائر والحمايل. ثم هناك التفرقة البغيضة ضد أهل المخيمات، والنظر إليهم كآفات اجتماعية. وهناك من ينظر للريحاويين على أنهم أفارقة أو عبيد، وهذه أسوأ أنواع التمييز العنصري. وهناك نظرة استعلاء ضد البدو والفئات المسحوقة. وعند قدوم السلطة دخل تصنيف جديد حيث صار التمييز بين المواطن والعائد؛ أحد الأصدقاء روى لي أنه بعد عودته للوطن زار إحدى القرى بسيارته التي تحمل "نمرة سلطة" فسارع الأولاد لشخطها بالمسامير بتشجيع من الكبار.
وحتى داخل المجتمع المسيحي هناك تفرقة طائفية بين الروم الكاثوليك والأرثوذكس واللوثريين والأرمن (وهي امتداد لمشكلة عالمية). وهناك رفض من الكل للطائفة الدرزية وتشكيك بوطنيتهم وحتى بإسلامهم، علما بأنها تضم خيرة المناضلين، وأبرزهم الشاعر الكبير سميح القاسم. ولعل أخطر هذه التصنيفات هو نظرة العداء المبطن بين المسلمين والمسيحيين.
على المستوى السياسي والثقافي هنالك الانقسامات الواضحة وحالة الاستقطاب الحادة؛ فمثلا هناك حربٌ ضروس بين العلمانيين والمتدينين، وبين اليسار واليمين، وبين التنظيمات السياسية وفصائل العمل الوطني. من المفترض أن تكون هذه الخلافات طبيعية ودليل على حيوية المجتمع وتنوعه، إلا أنها تصل أحيانا حد التخوين والتكفير والرغبة الجامحة في إقصاء الآخر.
هذه التصنيفات مرفوضة ومدانة، وهي طبعا لا تنسحب على الكل، وتبقى نسبية، لكنها موجودة ومن الصعب إنكارها، ولا يحوز تجاهلها أو السكوت عنها. فهي من ناحية تلغي الفوارق الشخصية بين الأفراد، وتصدر أحكاما مطلقة غالبا ما تكون غير صحيحة، ومن ناحية ثانية تؤجج من عوامل التفسخ والتشرذم، وتضعف من قوة الهوية الوطنية الجامعة، بل وتضعف من الجبهة الداخلية، وتسمح للعدو بالنفاذ من نقاط الضعف. وهي مدانة لأنها ضرب من التمييز العنصري، يفتح المجال لكل شخص أن يحكم على الآخر، وأن يصنفه بكل خفة ودون أن يهتز له جفن.
لحسن الحظ، فإن المجتمع الفلسطيني لم يصل في أي مرحلة من تاريخه إلى مستوى الاقتتال الطائفي، ولا حتى مستوى الانفصال والتجاذب على أسس مذهبية أو قبائلية أو مناطقية، وهو بالعموم نسيج متجانس؛ ورغم أن الأكثرية مسلمين ومن نفس الطائفة (السنية)، إلا أن الوجود المسيحي لم يكن يوما غريبا أو طارئا أو موضع تساؤل، ولا يوجد أقليات مضطهَدة، وهناك حالة تعايش رائعة بين المسلمين والمسيحيين. ومن ناحية ثانية فإن طبيعة الاقتصادي الفلسطيني والواقع العام لا يسمحان بنشوء تكتلات اقتصادية متناحرة أو حتى متنافسة. كما أن الفرز الطبقي (في المجتمعات شبه الرأسمالية) لا يصل إلى درجة من العمق تؤدي إلى نشوء طبقات شديدة التباين، رغم وجود تباين فاحش في المستويات الاجتماعية. فالأغلبية الساحقة تقريبا تعيش بنفس المستوى، وبسبب عوامل عديدة منها طبيعة البلد ومحدوديته لا نرى نفس أشكال الفرز الطبقي الموجود في الدول الأخرى، حيث تجد في نفس المقهى أثرياء ومتنفذين ورجال سلطة وعاطلين عن العمل وطلاب جامعة .. وهذه العوامل تحصّن المجتمع من السقوط في مستنقع الاحتراب الداخلي .. لكنها لا توفر ضمانات أبدية ومطلقة.
وقوع الشعب الفلسطيني برمته تحت الاحتلال الإسرائيلي من المفترض أن يوحّده، وأن يفرض عليه عقدا اجتماعيا بعقل جمعي مشترك، يؤدي إلى إلغاء الفوارق الشخصية والاجتماعية، والتقليل من أهمية التناقضات الموجودة داخل المجتمع؛ فمرور أي شعب في مرحلة التحرر الوطني يذوّب جميع فئاته وشرائحه في بوتقة العمل الوطني، ويصهرهم جميعا في مهمّة النضال لنيل الحرية وتحرير الأرض المغتصبة، بحيث تصبح جميع الاختلافات الطائفية والأيديولوجية والطبقية خلافات ثانوية، تختفي ليحل محلها ما هو أكثر أهمية، وتصبح كل الجهود والطاقات موجهة ضد التهديد الخارجي، أي ضد الاحتلال. ولذلك فإن تحقيق الوحدة الوطنية يعد شرطا أساسيا لخوض المعركة، وبدونها لا يمكن الظفر بأي نصر. والوحدة الوطنية ليست فقط بوابة الانتصار، بل هي بوابة الدخول للحالة الإنسانية بمعناها التقدمي والحضاري الذي يسمو على كافة أشكال التمييز العنصري؛ لأن كافة أشكال التمييز والتصنيف تعد نقيضاً للإنسانية، وهي خطيرة مهما بدت صغيرة وتافهة؛ ففي مناخ الاستقطاب والتعصب وغياب التسامح قد يصبح التحيز لِ "برشلونة" أو "ريَال مدريد" مقدمة لما هو أخطر مما نتوقع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق