مقدمـة
بعد أن
حَسَم الرئيس عباس موضوع حل السلطة، وأعلن أنه لن يُقْدم على هذه الخطوة مهما كانت
نتائج التصويت في مجلس الأمن، هل يكون بذلك قد أغلق هذا الملف نهائيا ؟ أم أن
السلطة الوطنية ما زال يتربص بها مستقبل مجهول؟! خاصة مع تصريح الرئيس لصحيفة
الشرق الأوسط: إنه لا وجود لسلطة وطنية فعلية، وأنه لن يقبل القيام بأعمال "رئيس
بلدية"، وكذلك دعوته في اجتماع المجلس الثوري لحركة فتح إلى البحث في مستقبل
السلطة، وأن هذا سيكون أحد المواضيع التي سيناقشها مع خالد مشعل عندما يلتقي به.
هل يمكن الجزم بأن حل السلطة لم يعد واردا ؟ أم
أن مجرد ذِكر مثل هذا الحل في خطاب المستويات السياسية الفلسطينية المختلفة، يعني
أنه خيار سياسي ممكن، وأنه احتمال واقعي ؟ رغم صعوبته ورغم مأساويته.
على أية
حال، فإن هذا الموضوع شغَل الشارع الفلسطيني مؤخرا، وخلَق حالة من القلق
والانتظار، خاصة في ظل تلميح القيادة بوجود قرارات هامة وخطيرة، وأن لديها خيارات
عديدة رفضَت الإفصاح عنها، وتركَت الباب مفتوحا للتحليل والتأويل.
وفي
الآونة الأخيرة، طَرح عدد من المثقفين والسياسيين الفلسطينيين موضوع مستقبل عملية
السلام، بل ومستقبل السلطة الوطنية ككل، وذلك على ضوء توقف المفاوضات، وتوقف
المقاومة (المسلحة). وترددت الكثير من التصريحات والتلميحات الصادرة عن قيادات
فلسطينية عديدة بإمكانية حل السلطة الوطنية، كأحد الخيارات التي يمكن طرحها في وجه
إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة في حال مواصلة إسرائيل لتنفيذ مخططاتها الاستيطانية،
وتراجُع الدعم الأمريكي لجهود السلام، وقد تزايدت مثل هذه الدعوات بعد إخفاق مجلس الأمن
في الاعتراف بدولة فلسطينية كاملة العضوية في الأمم المتحدة. وظهور أمريكا بوجهها
السافر المنحاز كليا للمطالب الإسرائيلية.
ويرى البعض
أن التصريحات والتلميحات بحل السلطة إنما تعكس حجم الأزمة التي بلغها المسار
التفاوضي بعد عقدين من المفاوضات، انتهت بنتائج شديدة التواضع[1]. وأن هذه الخطوة إذا ما
حصلت، ستكون قفزة في الظلام، وخروج عن المألوف والمتوقع في السلوك السياسي للقيادة
الفلسطينية، فيما اعتبر آخرون أن الحديث عن حل السلطة من ناحية والدعوة لانتخابات
رئاسية وتشريعية من ناحية ثانية، يعد نوعا من الشيزوفرينيا الفلسطينية، التي تعكس
حالة من الارتباك[2].
حل
السلطة .. التوقيت والأبعاد، والخيارات المتاحة
مع
مواصلة الولايات المتحدة تعاملها مع الصراع القائم في فلسطين، من باب إدارة الصراع
فقط، وليس من باب إيجاد حلّ عادل وجذري له، دون
أن تخفي انحيازها الكامل للطرف الإسرائيلي، وبعد موقفها – المخيب للآمال -في مجلس
الأمن بشأن التصويت للاعتراف بالدولة الفلسطينية. ومع مواصلة الحكومة اليمينية في إسرائيل
تعنّتها وإصرارها على الاستيطان، وفرضِها وقائع مادية على الأرض، وتجاهلها مساعي
المجتمع الدولي واللجنة الرباعية، للبدء في مفاوضات جدية، وفق قرارات الشرعية
الدولية تُفضي لحل الدولتين، فإنهما بذلك لا يكونان قد خفّضا سقف التوقعات المرجوّة
من المفاوضات، بل يكونان قد وجها ضربة مباشرة للعملية السلمية برمتها، أصابتها في
مقتل. وعلى ضوء ذلك، بدأت القيادة الفلسطينية بتصعيد خطواتها الاحتجاجية، فلجأت
للتهديد بحل السلطة، في محاولة منها لقلب الطاولة على كل اللاعبين.
فقد ذكرت
مصادر صحافية نقلا عن أعضاء من اللجنة التنفيذية أنهم أكدوا بأن الرئيس عباس كان
قد أرسل مبعوثاً خاصاً إلى الإسرائيليين يبلغهم نيّتهِ بحل السلطة. وأنه أبلغ
"نيته" هذه إلى الرئيس أوباما أيضا في نيويورك على هامش دورة الأمم
المتحدة. ولكن الإسرائيليين استقبلوا الرسالة الفلسطينية بأعصاب باردة، وردوا بما
يوحي بأن لديهم بدائل عن السلطة وعن عباس معاً، بحيث يستمر الوضع في الضفة على ما
هو عليه، مع شيء من التغيير، مع الاستفادة من تجارب الماضي، بما فيها تجربة روابط
القرى. ويُعتقد أن هذا ما دعا عباس للعودة عن "نيته" بحل السلطة،
والاستماع، بدلاً من ذلك، إلى اقتراحات فلسطينية تدعوه إلى تحرير السلطة من قيود
الاتفاقات مع الاحتلال، خاصة في مجالات الأمن والاقتصاد.[3]
وربما يكون أكثر الفرحين بتهديدات
الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بالاستقالة أو حل السلطة الفلسطينية، هو وزير
الخارجية الإسرائيلي ليبرمان، الذي قال إن "استقالة أبو مازن ستكون نعمة، لأنه
يمثل أكبر عقبة أمام السلام".[4]
لكن
القيادي البارز في فتح "محمود العالول" بدّدَ كل التكهنات التي تتحدث عن
حل السلطة الوطنية، موضحا أن خيار حلها غير وارد، وأن المقصود من التصريحات
المختلفة هو التركيز على وصف الحالة الفلسطينية الراهنة بأنها تمثل سلطة بلا سيادة،
مسلوبة الصلاحيات، وتعمل تحت سيطرة الاحتلال، الأمر الذي أدى إلى تفريغها من محتواها،
وأن هذا الوضع مرفوض ولا يمكن القبول باستمراره.[5]
عضو
مركزية فتح، "د. نبيل شعث" كشف في مقابلة خاصة معه عن أهم الأفكار
والبدائل المتاحة أمام السلطة الوطنية، مؤكداً أن حل السلطة ليس من بينها. موضحا
أن هناك من يفكر بالتدويل وطلب وصاية دولية, وهناك دعوات لتصعيد المقاومة الشعبية ضد
الاحتلال، ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية, ووقف المفاوضات، وهناك التوجه لتكثيف
الهجوم السياسي والدبلوماسي في الساحة الدولية، والدعوة لمؤتمر دولي يتبنى حل
الدولتين، وهناك من يفكر بحل الدولة الواحدة, وهناك من يدعو للتحرر من كل
الالتزامات السابقة, وهناك من يفكر بإعادة القضية إلى مرجعيات جديدة كالأمم
المتحدة، وهناك من يطالب إسرائيل بتحمل كامل المسؤولية القانونية والمادية عن
الشعب الفلسطيني القابع تحت الاحتلال[6].
ويدرك
المراقبون أن الخيارات المطروحة أمام السلطة الوطنية، خيارات صعبة وخطرة، وقد تأتي
على عكس ما تخطط له تماما، ذلك أنه بعد عقدين من بدء العملية السلمية في مدريد،
طرأت على المنطقة تغييرات جذرية غيرت من خارطتها السياسية، وأوجدت حقائق ومعطيات
جديدة على الأرض بالغة التشابك والتعقيد، شملت بنية النظام السياسي الفلسطيني،
وخطابه، وتحالفاته، وشبكة علاقاته الدولية.
ومع وجود
الأزمة السياسية الراهنة، فإنه لا مناص أمام القيادة الفلسطينية من طرح خيارات
جديدة، بدل الارتهان لخيار المفاوضات. وهذا يعني أن على السلطة أن تستفيد من
التغيرات الحاصلة في البيئة السياسية المحيطة، والمحمولة على رياح الثورات الشعبية
العربية. وأن تضع المجتمع الدولي - المتحمس للتغيرات الديمقراطية - أمام الحقيقة
ليتحمل مسؤولياته، وأن يكون أكثر عدالة في الموضوع الفلسطيني، وأن يكف عن محاباة
إسرائيل التي تصرّ على كونها دولة يهودية (دينية)، وتحتل أراضي الغير، وتصادر
حقوقهم، وتمارس التمييز ضدهم[7].
وبدلاً عن
حشر الفلسطينيون أنفسهم في دائرة الخيارات المتطرفة: إما مفاوضات تستبعد كل الخيارات
الأخرى، وإما حل السلطة؛ على الفلسطينيين الخروج من هذه الدائرة الضيقة، والتفكير بالخيارات
الأخرى البديلة، والتي يمكن أن تؤدي الغرض نفسه وأكثر، ومن دون أن تقدم لإسرائيل
هدية مجانية تتمثل بإنهاء الكيان السياسي الفلسطيني، أو منحِها الوقت والغطاء
لتمرير سياساتها. فمثلا، بدلا من حلّ السلطة، يمكن تغيير صيغة علاقتها الوظيفية
والأمنية مع إسرائيل، أي إلغاء الاتفاقات الاقتصادية المجحفة (بروتوكول باريس)،
ووقف التنسيق الأمني، وبهذا المعنى ستقوم السلطة ككل بإدارة حالة عصيان مدني ضد
الاحتلال. أي إشهار السلطة كتحدّ يرمز إلى الكيانية السياسية للفلسطينيين، ويرسخ
نزعتهم للتحرر من الاحتلال.
ويتفق
العديد من المراقبين على أن بقاء السلطة الفلسطينية، رغم انسداد الأفق السياسي
حاليا، يعد ضرورة وطنية، بل إن بقائها يمثل فرصة حقيقية لاكتشاف الإمكانات الخلاقة
لدى العقل الفلسطيني في اجتراح مخارج كفاحية حيوية، سلمية، ومؤثرة، بعيدا عن مجرد
التفكير في أي خيار قد يقوّض المصير الفلسطيني برمته.[8]
فيما وصف
آخرون فكرة حل السلطة، بأنها فكرة انتحارية وانهزامية للذات الفلسطينية، تقوّض
المنجزات الوطنية الفلسطينية على الأرض، وتعيد النضال الوطني الفلسطيني إلى المربع
الأول. بل وأن النضال الوطني الفلسطيني إذا ما عاد إلى مربعه الأول، فإنه لن يعود
بنفس القوة، ولن يفضي بالضرورة إلى إحقاق الحقوق الفلسطينية كاملة.
وشكّك
البعض بصوابية قرار حل السلطة، باعتبار أنه من حيث المبدأ، سيكون هروباً قاتلا
لكلّ القضيّة الفلسطينية، ستكون إسرائيل المستفيد الأول منه، والفلسطينيون هم
الخاسر الأكبر. حتى لو اعتقد البعض متسرّعاً، ومتحمساً لما يجري في بعض الدول
العربية، بأن الفلسطينيين هم من سيكونون أكثر المستفيدين من حلّ السلطة، لأن هذا
يخرجهم من المأزق التفاوضي، وأن إسرائيل ستكون الخاسر الأكبر، لأنها ستُحرَج،
وبالتالي ستتحمّل (مسؤولياتها) تجاه الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي، كدولة تحتلّ
أراض الغير. [9]
عضو
المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني "نافذ غنيم" قال في كلمته أمام حشد
من مؤيدي الحزب في رفح: "المطلوب فلسطينيا ليس حل السلطة التي هي إنجاز وطني
في كل الأحوال، وإنما تعزيز سياسة المواجهة الموحدة مع الاحتلال الإسرائيلي على
كافة الصعد، من خلال إستراتيجية وطنية متفق عليها، تستند إلى مصالحة وطنية عاجلة،
لتعزز نهج المواجهة السياسية والدبلوماسية مع إسرائيل في كافة المحافل الدولية".
كما حذر غنيم من عواقب أن نبدو أمام العالم في حال حل السلطة، كما أننا لم نستطيع
إدارة شئوننا، أو قد دعونا لعودة الاحتلال الإسرائيلي من جديد.[10]
القيادي في حماس "د.صلاح
البردويل" أوضح أن حركته تساند أي عمل يقوم على إنهاء الاتفاقيات الموقعة
مع إسرائيل، وأهمها إنهاء التنسيق الأمني، ورفض المساعدات المشروطة، داعيا إلى تطوير الموقف الفلسطيني من خلال إيجاد بديل يعتمد على البعد العربي والإسلامي. وأعلن البردويل عن رفض حماس لأي أفكار سياسية من شأنها أن 'تعيد الاحتلال للمناطق الفلسطينية'، وقال إن حركته ترفض أي قرار لحل السلطة، وترفض تسليم المناطق الفلسطينية للسيطرة الإسرائيلية. وقال: "ليس من المنطق أن نعيد الاحتلال الإسرائيلي ليستولي على كل مناطقنا مجدداً".[11]
مع إسرائيل، وأهمها إنهاء التنسيق الأمني، ورفض المساعدات المشروطة، داعيا إلى تطوير الموقف الفلسطيني من خلال إيجاد بديل يعتمد على البعد العربي والإسلامي. وأعلن البردويل عن رفض حماس لأي أفكار سياسية من شأنها أن 'تعيد الاحتلال للمناطق الفلسطينية'، وقال إن حركته ترفض أي قرار لحل السلطة، وترفض تسليم المناطق الفلسطينية للسيطرة الإسرائيلية. وقال: "ليس من المنطق أن نعيد الاحتلال الإسرائيلي ليستولي على كل مناطقنا مجدداً".[11]
هل
السلطة غاية أم وسيلة ؟
ارتكزت إستراتيجية إسرائيل
طوال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بشأن الأراضي التي احتلتها في
حرب ال 67 على نقطتين: ( الضم أو الترانزفير )، ولكن بعد فَشَلْ هاذين الخيارين اتخذت
القيادة الإسرائيلية قرار الفصل بين الشعبين، والبحث عن بدائل أخرى. وفي نفس الوقت
كانت القيادة الفلسطينية بحاجة للأرض لاستكمال مشروعها الوطني، وللتحرر من
الجغرافيا السياسية، ولإنقاذ الشعب الفلسطيني من براثن الاحتلال، ولإعادة الثورة
إلى قلب فلسطين، وفلسطين إلى قلب الحدث.
وكان لالتقاء المصالح
بهذه الطريقة، بعد أن عجز الطرفان عن تحقيق غاياتهما بعد تاريخ من الصراع المرير،
قد خَلق الأرضية التي قامت عليها اتفاقية أوسلو، والتي على أساسها تأسست السلطة
الوطنية، وفي فضاء هذا التحليل يتوجب النظر إلى السلطة كمرحلة مؤقتة، وخطوة مهمة
في المشروع الوطني. وهذه الخطوة رغم نواقصها وعيوبها جاءت لتنهي عقودا من الاحتلال
المباشر للشعب، كان الاحتلال خلالها منغمسا في مخططاته لطمس الهوية الوطنية للشعب
الفلسطيني، وإفراغها من محتواها القانوني والسياسي، وخلق قيادات محلية مرتبطة.
وجاءت
السلطة الوطنية تجسيدا لاتفاقية أوسلو كمرحلة انتقالية، وقد أنيط بها مهمتين: الأولى
أن تتحمل بعض المهمات الأمنية والإدارية والخدماتية، بحيث يتقلص الاحتكاك المباشر
بين الاحتلال والفلسطينيين، تمهيداً لتحقيق السلام. والثانية بناء المؤسسات اللازمة لقيام
الدولة الفلسطينية في فترة أقصاها خمس سنوات، كان من المفترض أن تنتهي في أيار
1999.
النائب
د. مصطفى برغوثي قال في لقاء خاص معه: "لم تكن السلطة الوطنية بحد ذاتها في
ذهن القيادة الفلسطينية هدفا تسعى له، بل كانت تمثل حالة انتقالية تمهد لقيام
الدولة المستقلة". واعتبر البرغوثي أن "عملية بناء الدولة المستقلة بدأت
منذ أن قرر الشعب الفلسطيني أخذ زمام المبادرة بيده، وانطلق صانعا ثورته، وعندما أسس
منظمة التحرير الفلسطينية، وأنشأ مؤسسات السلطة الفلسطينية لتكون نواة لبنى الدولة
المستقلة"[12].
القيادي البارز في فتح أبو علي شاهين أوضح أن السلطة الوطنية جاءت نتاج تراكم طويل
من العمل النضالي، وأنها حصيلة كفاح خاضَهُ الشعب الفلسطيني بكافة شرائحه وطوائفه،
ووصَفها بأنها "إنجاز وطني نعتز به، ونسعى لتطويره"، وأضاف:
"السلطة في الأساس حاجة وطنية أملتها الظروف السياسية، جاءت لتلبي طموح الشعب
الفلسطيني في توقهِ للحرية والاستقلال وكمقدمة لبناء الدولة المستقلة"، وأضاف
شاهين: "إن السلطة باعتبارها جزء من منظمة التحرير، ومنبثقة عنها، فهي بهذا
المعنى تمثل الكيان السياسي الفلسطيني، والتعبير المادي عن الهوية الوطنية"[13].
سيناريوهات
محتملة لمرحلة ما بعد السلطة
قد يكون
قرار حل السلطة من أخطر القرارات التي يمكن أن تتخذها القيادة الفلسطينية، ذلك
لأنه سيترك آثارا بالغة الأهمية، ستطال بتأثيراتها المنطقة بأسرها ولأمد طويل. وعن
التداعيات السياسية والسيناريوهات المتوقعة في حال اختارت القيادة الفلسطينية هذا الحل،
قرأ بعض المراقبين والمحللين تأثيرات تلك الخطوة وانعكاساتها على المشهد السياسي
الشرق أوسطي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص، في ظل الظروف الراهنة والمتوقعة[14].
وحسب المحللين،
فإن الاحتمال الأول والبديهي بعد حل السلطة هو قيام إسرائيل بإعادة احتلال المناطق
التي كانت تسيطر عليها، وإعادة الإدارة المدنية والحكم العسكري. وتحت حجة فرض
النظام ستعمد لضرب فصائل العمل الوطني المختلفة، وستشن حملة اعتقالات واسعة للحيلولة
دون إعادة إحياء خيار المقاومة، أو اندلاع انتفاضة جديدة. وستواصل جهودها القديمة
في خلق قيادة بديلة، ولإنجاح هذا الخيار فإن إسرائيل ستسعى إلى اعتماد سياسة
الفوضى المنظمة، من خلال خلق البلبلة وإثارة الفتن والنـزاعات الداخلية العشائرية
والطائفية، والأخذ بالثأر والانتقامات الشخصية، بحيث يصبح إيجاد قيادة بديلة مقبول
شعبيا ومطلوب محليا. وما يسهل تحقيق هذا الخيار هو أن حل السلطة كإطار سياسي رسمي سيرافقه
غياب للحاضنة الشعبية، والمرجعية السياسية، في ظل تهميش وضعف دور منظمة التحرير
الفلسطينية.
ويرى البعض
أن الاحتمال الثاني هو إحياء خيار دول الجوار، أي الخياران الأردني والمصري، وهي
من الخيارات التي مازالت قائمة ويمكن إحياءها عبر أشكال وأنماط جديدة، بحيث تكون
مقبولة عند الشعب الفلسطيني. وقد أبدى العاهل الأردني قلقه من تلميحات إسرائيلية بإعادة
تبني مشروع الوطن البديل، كوسيلة للضغط على الأردن للاضطلاع بدور مباشر في الضفة
الغربية، كالاستعداد للقبول ببعض الصلاحيات الإدارية والدينية والقانونية، مع
احتفاظ إسرائيل بسيطرتها على المواقع الحيوية في الضفة. أما في غزة، فقد تلجأ إسرائيل
للاستعانة بمصر، لتسهيل مهمة خلق قيادات مؤقتة مقبولة عربيا، وتستجيب لمتطلبات
التسوية السياسية أو الإدارية. أو يمكن أن تكون المشاركة الأردنية والمصرية
المباشرة من خلال صيغة دولية لنشر قوات حفظ سلام تتبع الجامعة العربية أو الأمم
المتحدة، تكون مسؤولة عن فرض النظام وتسهيل حياة المواطنين وتسيير أمورهم اليومية. [15]
وهنالك
احتمال التدويل، أي خيار نقل الملف الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، والطلب منها تحمل
مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني. وهو من الخيارات التي باشرت بها القيادة
السياسية في ظل وجود السلطة، على اعتبار أنه جزء من النضال السياسي والدبلوماسي.
وبالطبع
هنالك احتمال صعود حماس إلى منصة تمثيل الشعب الفلسطيني، وما يتيح لحماس لعب هذا
الدور، هو حديثها المتواصل عن تمثيلها للشعب الفلسطيني بعد نجاحها في الانتخابات
التشريعية (2006)، وطموحها المعلن في استلام منظمة التحرير ووراثتها عن فتح، واستعدادها
لتسوية مع إسرائيل، ترتكز على هدنة لمدة معينة، قد تمتد لسنوات طويلة، مقابل دولة
بحدود مؤقتة، وما يرجح هذه الفرضية حالة كسر الجليد بين إسرائيل وحماس في أعقاب
إتمام صفقة شاليط، والتطور الكبير في خطاب حماس وطرحها السياسي، ومن قبلها المصداقية
التي اكتسبتها حماس إزاء قدرتها على ضبط الشارع الغزاوي، ونجاحها في فرض التهدئة
على فصائل المقاومة في غزة.
أما
احتمال اندلاع انتفاضة جديدة، فيبقى هذا الخيار حياً طالما استمر الاحتلال في
ممارساته القمعية وفي سياسة التهويد، والتوسع الاستيطاني، والاعتقالات، وهدم
البيوت. ولكن تحقيق هذا الاحتمال يتطلب بعض الوقت. [16]
ومع كل
ما تقدم، فإن أي من السيناريوهات حتى يتحقق يحتاج إلى نضوج جملة من العوامل
الذاتية والموضوعية، وهي وأن بدت متناقضة إلا أنه لا يمكن فصلها عن بعضها، أو
الجزم بحتمية خيار دون الآخر، لأن العوامل الذاتية حتى لو كانت ناضجة، لا يمكن لها
أن تتحقق بمعزل عن جدل الواقع المحيط به وتعقيداته الكثيرة.
تداعيات
حل السلطة
بغض
النظر عن مدى صوابية قرار حل السلطة، وإذا كنا مؤيدين أم معارضين له، لنتخيل معا
مشهد الساحة الفلسطينية في مرحلة ما بعد حل السلطة. وتأثير ذلك على الشعب داخل
الأراضي الفلسطينية؛ من الناحية الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقد
يكون من المفيد أن نستحضر مشاهد انهيار السلطة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي،
أو مشاهد انهيار سلطة المجتمع والقانون في أيٍ من البلدان التي مرت بحروب أهلية.
فإذا كان
الأمن الشخصي والمجتمعي قيمة مقدسة، وشرطا أساسيا لاستقرار المجتمع وازدهاره، فإنه
سيكون أول ضحايا حل السلطة، حيث ستحِل الفوضى في الشوارع، وسيأتي
الفلتان الأمني على الأخضر واليابس. فمن غير المتوقع بعد تفكيك أجهزة الأمن
الفلسطينية وإلغاء القضاء والمحاكم أن تسود حالة من السلم والأمان. فالفراغ الأمني
يؤدي عادة إلى انتشار الجريمة، وتزايد الاعتداءات على الأملاك العامة والخاصة، التي لن
تجد من يوقفها هذه المرّة. ومن المؤكد أن تسريح عشرات الآلاف من
الموظفين سيزيد من نسبة البطالة بشكل كبير، وربما يؤدي ذلك لانهيارات اقتصادية،
وزيادة الفقر، سينتج عن ذلك كله مشاكل وتبعات اجتماعية، ستعجز جميع منظمات الأمم
المتحدة عن حلها، خاصة بعد توقف عمل الوزارات كافة، وتعطّل مصالح
الناس.
وإذا
كان حل السلطة تعبيرا عن حالة يأس فلسطيني، تتزامن مع حالة ضعف وترهل لمنظمة
التحرير الفلسطينية، فإنه سيكون مقدمة لحل المنظمة نفسها، وبالتالي لن يكون للشعب
من يمثله، وعليه البحث عن كيان جديد بصيغة مختلفة، وانتظار خمسين سنة أخرى، وذلك يعني
ضياع هذا الانجاز التاريخي، والعودة بالشعب الفلسطيني إلى نقطة الصفر، وتفتيت
الكيانية الفلسطينية إلى ما كانت عليه في الخمسينات، إي جموع من اللاجئين تنتظر
فتات الأمم المتحدة، وأحزاب سياسية متناحرة تتجاذبها دول المنطقة، ويعني تبديد كل
التضحيات التي قدمها الشعب لبث الروح في قضيته، بعد أن تراكم عليها الغبار في
أروقة الأمم المتحدة، ويعني الارتهان والتبعية لدول الجوار، لتصبح ذكرى معارك
الثورة لصون القرار الوطني المستقل كحلم عبثي أفنينا من عمرنا له سنين بالمجان.
حل
السلطة في هذا الوقت بالذات، يعني أنه ليس أمام إسرائيل شريك لصنع السلام،
وبالتالي ستعمل على تنفيذ مخططاتها وتحقيق رؤيتها للحل النهائي دون أن يزعجها أحد،
فإذا كانت إسرائيل تواصل بناء المستوطنات، وتبني على الأرض حقائق مادية وتفرضها
كأمر واقع مع وجود السلطة والعملية السلمية، فإن غياب السلطة سيوفر لإسرائيل
المناخ الملائم لإتمام مشروعها الاستيطاني. وربما تتمكن من قضم كل ما تبقى من
الأراضي الفلسطينية وبناء مدن إسرائيلية كاملة عليها قبل أن يبلور المجتمع الدولي
أي حل. وحينها سيصبح
الفلسطينيون أقلّية، تماماً كما حدث في فلسطين التاريخية، وكما هو متوقع، ستتمكّن
إسرائيل من خلق صورة أكثر سلبية للفلسطينيين، بأنهم أقلّية فوضوية، تنتهج العنف،
ويقيمون حالياً على أراضٍ إسرائيلية، وتتسامح معهم إسرائيل في السماح لهم بالبقاء،
ولكن بعد فترة سيكون حل مشكلة هؤلاء "الأقلية المزعجة" بترحيلهم إلى حيث
يشكلون أغلبية، أي إلى الأردن، لإقامة الوطن البديل[17].
أطروحات
من يدعو لحل السلطة
السلطة
الفلسطينية كأي كيان سياسي في العالم لديها معارضة، ولكن هذه المعارضة
"جذرية"، تريد إزالة السلطة كليا، لا التعايش معها وإصلاحها، حيث أن تيارا
فلسطينيا مهما، ظلَّ معارضا لاتفاقية أوسلو، وداعيا لحل السلطة والعودة لخيار
المقاومة، بغض النظر عما سيترتب على ذلك من نتائج.
وأولئك
المعارضون للسلطة يدعون لحلها، لأنهم يعتبرون أن أي حل يحظى بمباركة أمريكا
وإسرائيل لن يكون في مصلحة الفلسطينيين. ومن وجهة نظرهم فإن السلطة من الأساس؛ هي
بحد ذاتها مشروعا أمريكيا وإسرائيليا، يخدم مصالحهما، وبالتالي ستكون السلطة ضد
المصلحة الفلسطينية، ويرون أن السلطة قد حُدِّد لها أدوارا وظيفية معينة: هي
محاصرة وتقييد المقاومة الشعبية، وتحمّل كلفة الاحتلال الإسرائيلي، والإبقاء عليه
في وضعية مريحة. ويعتبر هؤلاء المعارضون أن مستوى الرضا عن السلطة يُقاس بمقدار
استعدادها للتنازل عن الحقوق الفلسطينية، ويتساءل البعض منهم: "إذا كان عباس
بتهديده بالاستقالة، أو بحل السلطة يعني إزعاج إسرائيل، لأنها ستتحمّل من جديد
تكلفة الاحتلال، فلماذا لا ينفذ تهديده، طالما أن هذا الحل سيضر بإسرائيل وسيفيد
الفلسطينيين" ؟[18]
ومنهم من يرى أنه لا
مفر أمام عباس – في ظل الخنوع والركوع الرسمي العربي للإرادة الأمريكية – سوى أن
يلغي اتفاقية أوسلو، ثم يصدر بيانا يعلن فيه عن حل السلطة، والتخلي عن مشروع
الدولة الفلسطينية، وتوجيه الدعوة للفلسطينيين ولمعسكر السلام الإسرائيلي للنضال
من أجل قيام دولة ثنائية القومية. معتبرين أن إعادة الاحتلال سيترتب عليه أعباء
أمنية ومالية باهظة، كانت تتكفل بها السلطة الفلسطينية، تتمثل بتوفير خدمات لأكثر
من أربعة ملايين فلسطيني، فضلا عن توفير الأمن للمستوطنات والمدن الإسرائيلية.
ومنهم من يرى أن الدعوة لدولة ثنائية القومية هي الوسيلة الكفيلة بالضغط على
نتنياهو، حتى يأتي للمجتمع الدولي جاثيا، مؤكدا التزامه بوقف الاستيطان، والعمل
على إقامة الدولة الفلسطينية.[19]
وإذا
أردنا تلخيص أهم النقاط التي ينطلق منها هؤلاء المعارضون في دعواتهم لحل السلطة،
سنجد أنهم إما ينظرون للسلطة كعائق أمام الشعب لخوض غمار الكفاح المسلح، أو تصعيد
المقاومة الشعبية. أو لأنهم يعتبرونها وكيلا عن الاحتلال، تتكفل بالنيابة عنه
بتحمّل تكاليف الخدمات التي يحتاجها الشعب، وتكاليف ضمان الأمن لإسرائيل، دون أن
إنهاء للاحتلال، ودون سيادة حقيقية على الأرض، الأمر الذي جعل الاحتلال الإسرائيلي
أرخص احتلال في العالم. ومنهم من يرى أن السلطة ستبقى محصورة في هذا الإطار، ولن
تتحول إلى دولة، لأنهم لا يرون أي بارقة أمل بامتلاك إسرائيل الإرادة السياسية
للاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والقبول بدولة مستقلة، والوصول إلى حل
عادل لقضية اللاجئين. وقد باتوا أكثر اقتناعا بأن الأمور آخذة في التراجع، وأن
ممارسات إسرائيل تؤكد عدم جديتها في التوصل لأي تسوية، بل أن المسافة باتجاه
الدولة الفلسطينية تزداد بُعداً، بدلا من أن تقصر. ومنهم من يريد حل السلطة لأنها
لم تقدم نموذجا صالحا للحكم، بل أن الفساد ينخر مؤسساتها، ويفقدها مشروعيتها
الوطنية.
ومع
تسليمنا بصحة هذا التحليل، إلا أننا لا نتفق معه في ما توصل إليه من استنتاجات، فإذا كانت السلطة
بسقفها السياسي دون مستوى الطموح الوطني، ولا تلبي الحقوق السياسية الكاملة للشعب،
فلأنها تمثل مرحلة انتقالية، ولأنها مجرد محطة في مسيرة النضال، أملتها ظروف
ومستجدات المرحلة.
وفيما
يخص المقاومة، يمكن القول أن السلطة لم تكن في يوم من الأيام مانعا أمام المقاومة
بأي شكل، حتى في أشكال المقاومة التي تدينها بالعلن مثل العمليات التفجيرية أو
الصواريخ. والشعب الفلسطيني حينما انتفض في وجه الاحتلال، فَعل ذلك لأنه شعب حر،
ولم تمنعه السلطة من ذلك، بل شجعته، ووفرت له كل مقومات الصمود، وعندما كان
التصعيد العسكري مطلوبا، جرَت أعنف المواجهات العسكرية بين أجهزة السلطة والقوات
الإسرائيلية، ونفذت فصائل المقاومة عمليتها الفدائية انطلاقا من أراضي السلطة، وفي
حمايتها. حيث كانت السلطة توفر الملاذ الآمن لخلايا المقاومة. وعندما كانت التهدئة
مطلوبة، اتفقت فصائل المقاومة عليها والتزمت بها. أما المقاومة الشعبية، فهي ما
زالت قائمة ومستمرة وتتصاعد أكثر، وتحظى بدعم علني مادي ومعنوي من قبل السلطة.
وإذا كان
حل السلطة سيساهم في إزالة أسباب الانقسام، لكنه لا يضمن عودة وحدة الصف الوطني. لذلك
فإن انطلاقة انتفاضة ثالثة بعد حل السلطة مسألة ليست مؤكدة، وحتى تحصل ستحتاج فترة
زمنية غير محدودة، وستحتاج لجهود وطنية مكثفة لإعادة صياغة عقل الشارع الفلسطيني وبناء
جاهزيته الذهنية والمادية للانطلاق من جديد. سيما وأن الجماهير استفادت من تجارب
الانتفاضات السابقة.
أما
فيما يخص تكلفة الاحتلال، فمن المعلوم أن إسرائيل لا تبني إستراتيجياتها استنادا
للتكاليف المادية، لأن ميزانيتها تعتمد بشكل أساسي على الدعم الأمريكي المباشر
وغير المباشر، وهي مطمئنة لاستمرار هذا الدعم وتدفقه بما يغطي تكاليف أي مشروع
سياسي تقْدم عليه. وعندما كانت تحتل الضفة الغربية وقطاع غزة بالكامل لم تكن تولي
سكان هذه المناطق أي أهمية تُذكر، خاصة بشأن تقديم الخدمات وتنظيم أمورهم اليومية
والمعيشية، إلا بالحدود الدنيا، أي إبقائهم على قيد الحياة فقط، لذلك ظلت هذه
المناطق متخلفة اقتصاديا وعمرانيا وسكانيا، وتفتقر للبنية التحتية. ومن المؤكد أن
الاحتلال إذا عاد مرة ثانية لن تتغير الصورة كثيرا، إلا للأسوأ. وبالنسبة لإسرائيل
فحتما ستجد التمويل الأمريكي والأوروبي ينتظرها، بل وستغطي معظم تكاليف الاحتلال
من أموال الضرائب الفلسطينية.
ويمكن
القول أن دعوات البعض بشأن موضوع حل السلطة الوطنية، وتسليم الملف الفلسطيني برمته
إلى الأمم المتحدة، وإحراج إسرائيل، وتحميلها المسؤولية الكاملة .. هي دعوات مفرطة
في التفاؤل، وغير واقعية، وستؤدي إلى عكس ما تدعو إليه تماما. فالمجتمع الدولي
الذي يراهَن عليه في تحمل مسؤولياته، لا يعرف أكثر من تقديم مِنَح وأموال مشروطة، وكذلك،
الرأي العام العالمي، فهو لا يحترم إلا القوي، ولا يسمع إلا ما تفرج عنه وسائل
الإعلام التي تسيطر عليها الصهيونية العالمية، وهو لم يغير موقفه من القضية
الفلسطينية إلا بعد صعود منظمة التحرير، وإثبات حضورها السياسي بقوة الكفاح
الفلسطيني.
أما أمريكا، فمن الوهم أن نعتقد أن ضميرها سيصحو، لتبدأ بممارسة الضغط على إسرائيل
لتطبيق قرارات الشرعية الدولية. واللجوء لخيار الأمم المتحدة في ظل غياب
السلطة، حتى لو أدى لإنهاء خيار المفاوضات الثنائية، إلا أن فُرص نجاحه ستكون أقل
بكثير مقارنة بحالة وجود السلطة. فقد سبق تحميل الأمم المتحدة مسؤولياتها
القانونية تجاه الشعب الفلسطيني بعد النكبة، واتضح أن أقصى ما يمكنها تقديمه هو
خيام ومعونات للاجئين، وحصر القضية الفلسطينية في إطارها الإنساني، بعد تفريغها من
مضامينها السياسية.
أما
فيما يتعلق بإحراج إسرائيل، فالفلسطينيون أكثر من يعرف أنها لا تقيم وزنا للشرعية الدولية،
ولا تحفل بقرارات الأمم المتحدة، إلا بمقدار تضرر مصالحها، أو تعرضها لضغوط دولية،
أو نتيجة تغيير في خارطة التحالفات الداخلية، وضغوط الرأي العام الإسرائيلي. أما
"الإحراج"، فهو مصطلح لا وجود له في قاموس الحكومة الإسرائيلية. وحتى لو
أعادت إسرائيل احتلال الأراضي الفلسطينية مرة ثانية، وتسبب لها ذلك بإحراج سياسي،
فإن هذا الإحراج لن ينـزع عنها الشرعية، ولن يتسبب بعزلتها، أو بفرض عقوبات عليها،
ولن يؤدي ذلك لإنهاء الاحتلال. وأقصى مدى يمكن لهذا الإحراج أن يصل إليه، هو الضغط
الدولي على إسرائيل لتحسين مستوى خدماتها للسكان.
وفيما يخص فساد
السلطة، إذا كان ثمة نواقص وعيوب ومظاهر فساد في السلطة الوطنية – وهي كثيرة - فالمطلوب
معالجتها وتحسين أدائها، والإرتقاء بأداء السلطة، والتركيز على كونها كيان
سياسي يتولى تنظيم أوضاع الفلسطينيين، وتأمين متطلبات صمودهم في وجه الاحتلال، بما
في ذلك إدارة المقاومة الشعبية ضده، بحيث تكون السلطة بمثابة جنين الدولة
الفلسطينية القادمة، تمهيدا للوصول للاستقلال الحقيقي. ومطلوب أيضا - بدلا من
القضاء على التجربة كليا - وقف حالة الذوبان والتماهي بين المنظمة والسلطة، وإعادة
الاعتبار لدور المنظمة، وتنشيط أطرها، وتفعيل هياكلها، وضخ الدماء الجديدة فيها،
باعتبارها كياناً يمثل كل الفلسطينيين، ويقود كفاحهم ضد إسرائيل، مع بقائها مرجعية
سياسية للسلطة، وهذا يأتي متزامنا مع تنفيذ اتفاق المصالحة وترسيخ الوحدة الوطنية،
وتفعيل دور الفلسطينيين في الشتات.
والمطلوب
أيضا من القيادة الفلسطينية الاستفادة من معطيات اللحظة التاريخية التي تمر بها
القضية الفلسطينية، وأن تكون شديدة الحذر والتنبه لكل ما ستُقْدم عليه، لأنه
سيمتد بتأثيره لأجيال قادمة. فإذا كانت اللحظة الراهنة تتسم بصعود قوة ودور الجماهير
الشعبية، وهو ما بات يسمى بالربيع العربي، وظهور علامات الضعف التي تمر بها
الولايات المتحدة إزاء قدرتها على التحكم بالنظام الدولي، ومرور إسرائيل في واحدة
من أسوأ لحظاتها التاريخية، حيث بدأت تطفو على السطح دعوات نزع الشرعية الدولية
عنها، وتزايد عزلتها وتدهور سمعتها، وهذا بمجمله يمنح الفلسطينيين هامشا أوسع للعمل
والمناورة. إلا أنه يجب أن لا نغفل عن الجانب الآخر من الصورة، والمتمثل بضعف
النظام العربي الرسمي، وأيضا حالة الانقسام الفلسطيني.
وهذا
يعني أن على الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية مواصلة النضال والاشتباك مع الاحتلال،
حتى تستعيد السلطة سيادتها، وتتحول إلى دولة مستقلة، وعلى القيادة أن تتمرد على
الاستسلام للخيارات الدولية، التي لا تنظر بعين العدالة للقضية الفلسطينية.
الموقف الإسرائيلي والدولي
من حل السلطة
ربما
يكون الاتحاد الأوروبي قلق فعلا من انهيار السلطة الفلسطينية أو من حلّها، لأنه
يعتبر أن السلطة الفلسطينية هي الصيغة الأنسب لضمان استقرار المنطقة، والمدخل
الصحيح للتوصل الاتفاقية سلام نهائية، لهذا يسعى الاتحاد الأوروبي بصفته راعي
رئيسي لعملية السلام، لاستئناف المفاوضات والحيلولة دون تدهور الأوضاع، وبالتالي
سيعتبر أن حل السلطة يمثل فشلا لسياسته وتوجهاته. وكانت وزيرة
خارجية الاتحاد "كاثرين آشتون" قد صرحت بأن الرباعية تضغط لعودة المفاوضات
بين الطرفين، وأعادت آشتون التأكيد على التعهدات الأوروبية السابقة بشأن دعم
السلطة وعملية السلام، للتوصل إلى حل الدولتين.
ودعت إلى
وقف الاستيطان في الضفة الغربية. [20]
ومن
المعروف أن دول الاتحاد الأوروبي تدفع للسلطة مساعدات مالية تبلغ مئات الملايين من
الدولارات سنويا، ذلك لأنها ترى أن السلطة من خلال توفيرها للأمن والاستقرار
الاقتصادي للفلسطينيين تجعلهم ينشغلون بحياتهم ومستقبلهم، وبذلك يتوفر الأمن
للإسرائيليين، وهي بذلك إنما تكون قلقة على أمن إسرائيل بالدرجة الأولى. وفي
المقابل ترى السلطة الوطنية أن هذه الأموال هي حق للشعب الفلسطيني، وواجب على
المجتمع الدولي، تستخدمها السلطة لدعم صمود الشعب وتمكينه من البقاء فوق أرضه.
وكان لالتقاء مصالح الطرفين، بهذا الشكل - بالإضافة للدعم العربي - هو الذي مكّن
السلطة من الاستمرار.
وربما
يكون الموقف الأمريكي مشابها للموقف الأوروبي من حيث الهدف والأسلوب، بالرغم من
التهديد والابتزاز الذي تمارسه الإدارة الأمريكية والكونغرس بحجب المساعدات
المالية ووقف المشاريع الأمريكية المقامة في أراضي السلطة، إذا ما ذهب الفلسطينيون
إلى الأمم المتحدة للمطالبة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية،[21]
إلا أن الأمور لن تصل إلى مستوى القبول بحل السلطة، لأن ذلك قد يعني عودة العنف
مرة ثانية، وهذا ما لا تريده أمريكا، حسب تصريحات نسبت لِ "هيلاري
كلينتون" وزيرة الخارجية الأمريكية
أكدت فيها دعمها للتوصل لحل الدولتين. ونُقل عنها تلميحات بأن أمريكا لا
تؤيد حل السلطة، ولكنها قد تؤيد إبدال أبو مازن.[22]
وكذلك
فإن المجتمع الدولي عموما لا يرغب بحل السلطة لما يحمله ذلك من احتمالات تفجر
العنف في المنطقة. فقد حذر مسئول دولي إسرائيل من مغبة حل السلطة الفلسطينية،
معتبرا أن الجمود الحالي بين الدولة العبرية
والفلسطينيين قد يؤدي إلى اندلاع العنف في الضفة الغربية، حيث صرح المنسق الخاص للأمم
المتحدة لشؤون السلام في الشرق الأوسط روبرت سيري، في مقابلة مع صحيفة
"هآرتس" الإسرائيلية، إن "العالم لن يساعد إسرائيل إذا ما حدث وأن
تفككت السلطة، واندلعت أعمال العنف من جديد"[23].
وبخصوص
الموقف الإسرائيلي، يمكن القول أن إسرائيل لا ترغب بحل السلطة، وفي نفس الوقت لا
تريد لهذه السلطة أن تقوى وتتحول إلى دولة، لأن وجود السلطة يخفف من حدة التوتر
بين الطرفين، ويحفظ نوع من الهدوء النسبي على الحدود، والصيغة السائدة حاليا للمفاوضات
وما يسمى العملية السلمية تمنحها الوقت الذي تحتاجه لإتمام مشروعها الاستيطاني، كما
أن إسرائيل لا تريد أن تعود لتظهر حقيقتها كدولة احتلال، بعد أن غابت تلك الصورة
منذ إقامة السلطة، والتي أعفت الاحتلال من مسؤولياته، ليبدو كما وصفته الكاتبة
الإسرائيلية "عميرة هاس" قبل أكثر من عقد "احتلال ديلوكس".
ومع
ذلك فقد صدرت تهديدات جدية وتصريحات كثيرة من الحكومة الإسرائيلية، ومن بعض قادة
أحزابها بإلغاء اتفاقات أوسلو، وتلتها تهديدات أخرى بفرض حصار على السلطة، وحجز
مقتطعات الضرائب الفلسطينية، التي تشكل حجر الزاوية في موازنة السلطة، وقد نفذت
هذه التهديدات بالفعل، ولكن الأمور لم تصل إلى الحد الذي يؤدي بالفعل لانهيار
السلطة. ويعتقد البعض أن انهيار السلطة أو حلها سيكون الكابوس الأسوأ بالنسبة للحكومة
الإسرائيلية، كما هو بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا، وقد كتب الإسرائيلي "الياكيم
هعيتسني" على صحيفة يديعوت احرنوت: "ليس بإمكان إسرائيل أن تعود لكنس
شوارع رام الله، وهي الدولة المثقلة بأزمة اقتصادية"، واعتبر محللين أن
إسرائيل لا ترغب أن تتحمل مسؤولية الصحة والتعليم وخدمات ملايين من البشر، في ظل
أزمة اقتصادية تعصف بها.[24]
فيما
نقل موقع أمد الإعلامي عن نفس الصحيفة 'يديعوت': أن فكرة حل السلطة الفلسطينية ظهرت
بسبب المأزق السياسي الراهن، وتعطل مسار المفاوضات، وقد بات خيارا واقعيا، وإذا
تحقق سيكون له تأثير بعيد المدى. وتباينت آراء الخبراء الإسرائيليين حول الآثار
المترتبة على إسرائيل، في حال نفذت القيادة الفلسطينية تهديداتها بتفكيك السلطة،
حيث ذهب بعضهم إلى التقليل من شأن هذه الخطوة، بينما اعتبر آخرون أن حل السلطة
سيكون له مدلولات خطيرة، وسيضع إسرائيل في وضع صعب للغاية أمام السكان الفلسطينيين،
بالرغم من الخبرة الطويلة التي اكتسبتها خلال سنوات الاحتلال الطويلة، فهي ستتحمل
المسؤولية الكاملة للسكان في كافة مجالات الحياة، وسيُنظر لها كدولة محتلة.
وقال
رئيس جهاز الشاباك السابق، 'يعقوب بيري': "أن السلطة كيان قائم، وتعمل بشكل
ناجح في فرض القانون والنظام على مناطق الضفة الغربية، وبالتالي هي مقبولة بما فيه
الكفاية، وتحظى بمكانة ممتازة بين معظم دول العالم، ونحن نرى النتائج التي أحرزتها
بعد انضمامها للأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو، وهي تنجح في عزل إسرائيل عن دول
العالم". وأضاف بيري: "نحن نتحمل مسؤولية قيام السلطة بهذه الخطوة
الأحادية، بمواصلة عدم الاعتراف بها، وهذا فقط سيفاقم الأضرار والجمود القائم
اليوم، بالإضافة إلى أنه سيكون للعملية آثار اقتصادية بعيدة المدى، نظراً لأنه من
الممكن أن توقف الدول الأوروبية المساعدات الاقتصادية التي تقدمها اليوم للسلطة".
ومن
جهته عبر 'موشي مرزوق' المستشار السابق للشؤون العربية في قيادة التنسيق والارتباط
في الضفة الغربية عن اعتقاده، أن "حل السلطة يحمل مدلول عقاب قاسي لإسرائيل،
سيؤدي بإسرائيل إلى العودة للسيطرة الأمنية الكاملة على الأراضي المحتلة، بما في
ذلك مسؤولية التعليم والصحة وكل المجالات الحياة الأخرى". واعتبر مرزوق أن "وضع
كهذا ستكون له تداعيات دولية صعبة، ويعرضنا لوضع حساس قانونياً وإعلاميا، وسوف
ينظر لنا كمحتلين".
ويرى
البرفيسور 'هلل فريش' من معهد بيغن - السادات للشؤون الإستراتيجية في جامعة بار
إيلان، أن قيادة السلطة تعرف أنه إذا تفككت، فان حماس ستملأ الفراغ، وعلى ذلك فهو
لا يعتقد أن ذلك الخيار واقعي، بل يدور الحديث حول وسائل ابتزاز لتفكيك المستوطنات،
والضغط على الإدارة الأمريكية لتمارس بدورها ضغطا على إسرائيل لوقف الاستيطان.
وأضاف "فريش": "أنه لا توجد سابقة في التاريخ لكيان سياسي، تنازل
عن ثلاثة مليار دولار، أو عن حكم مع دخل شبه مؤمن، ناهيك عن مصير مئات الآلاف من
العائلات المستفيدة من مؤسسات السلطة".
وواصل
بقوله: "وعلى الرغم من ذلك، وفي حال نفذت السلطة هذه الخطوة، فذلك ليس نهاية
العالم، فثمة إدارة مدنية حتى اليوم، وهي ستحاول بناء حكم محلي على أساس
التكنوقراط، يتضمن بنية تحتية محلية تستمد من البنية التحتية الفلسطينية".
مضيفاً: "إن رجال الضفة جد مؤهلون لذلك، حيث كان هذا النموذج موجود في سنوات
الثمانيات، وأنا لا اعتقد أن يحدث انهيار للنظام الفلسطيني". وأضاف: "من
الناحية السياسية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة الضغط على إسرائيل، ومن الناحية
الأمنية فإن الهدوء الذي ساد السنوات الأخيرة يمكن أن يتحول إلى توتر وقلق في ظل
غياب الأجهزة الأمنية الفلسطينية".[25]
الهوامش
[1] خضر أبو عبارة، حل السلطة الفلسطينية
سيناريوهات محتملة، صحيفة القدس، 3-11-2011. http://www.alquds.com/news/article/view/id/306969/
[2] هاني المصري، الشيزوفرينيا الفلسطينيّة: حلّ السّلطة أم
تكريسُها ؟ أمد للإعلام، نقلا عن السفير البيروتية، 1-11-2011
[3] معتصم حمادة، لماذا تراجع الرئيس
عن قرار حل السلطة، جريدة القدس، 16-11-2011, http://www.alquds.com/news/article/view
[6] مقابلة خاصة مع د. نبيل شعث،
أجريت في مكتبه برام الله، في تموز 2011، ونشر أجزاء منها في مجلة سياسات، العدد
16، خريف 2011. رام الله.
[7] ماجد كيالي، عن الفلسطينيين وخياراتهم: حلّ السلطة
نموذجاً، جريدة القدس، 16-11-2011، http://www.alquds.com/news/article/view/id/310038
[9] علام صبيحات، المستفيد الأكبر
والمتضرر الأول من حل السلطة، وكالة معا الإخبارية،29-10-2011 www.tubasfm.com/internal.asp?page=articles&articles
[10] نافذ غنيم، ليس الحل في إنهاء
السلطة وإنما بمواجهة موحدة مع الاحتلال، مفوضية العلاقات الوطنية – حركة فتح،
31-10-2011. - http://www.fatehwatan.ps/page-11184-ar.html
[11] صلاح البردويل، 'حماس' تعلن
رفضها أي حل يؤدي إلى حل السلطة، وكالة فلسطين برس، 10-11-2011
www.palpress.co.uk/arabic/?action=detail&id=27328
[12] لقاء خاص مع د. مصطفى برغوثي في مكتبه في رام الله، وقد
نشرت أجزاء من المقابلة في مجلة آفاق المستقبل، العدد الرابع.
[18] علاء الدين أبو زينة، السلطة
الفلسطينية والتهديد بالحل، جريدة الغد الأردنية، 15-11-2011.
http://www.alghad.com/index.php/afkar_wamawaqef/article/27524.html?sd=10
[19] خليل خوري، حل السلطة ردا على استمرار الاستيطان، الحوار
المتمدن- العدد: 3539 - 2011 / 11 / 7. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=282607
[21] في مقابلة على تلفزيون
فلسطين، صرح الرئيس عباس أن أمريكا تدفع للسلطة سنويا ما يقارب 700 مليون دولار،
على شكل مساعدات مباشرة أو غير مباشرة.
[24] أكرم عطا الله، أيلول الحسم، جريدة الأيام الفلسطينية،
11-9-2011،
http://www.al-ayyam.com/article.aspx?did=174474&Date
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق