أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 26، 2011

في مواجهة موجات الغلاء وثورات الجياع

شهدت المنطقة العربية موجات غلاء متلاحقة منذ العام 2007 أدت إلى ارتفاع كبير في تكاليف المعيشة، مما انعكس سلباً على حياة شرائح واسعة من المجتمعات العربية، خاصة من ذوي الدخول المتدنية والمحدودة، والذين يشكلون السواد الأعظم منها. حتى بات الكثير منهم عاجز عن تلبية حاجات أسرته الضرورية، ثم امتد هذا العجز حتى شمل متطلبات الحياة الأساسية كالطعام والشراب، وهم قبل ذلك بكثير كانوا قد تخلوا عن الكثير من مقومات الحياة الكريمة وتخلوا حتى عن أحلامهم.


أسباب ذلك كثيرة، منها ما هو موضوعي ومرتبط بعوامل خارجية لا دخل للحكومات المحلية بها، كالأزمة الاقتصادية العالمية والنقص الحاد في مساحات الرقعة الزراعية وتناقص الإمدادات الغذائية على نحو بات يهدد بمجاعات في أكثر من منطقة حول العالم، ومنها أسباب غير مبررة ناجمة عن خلل بنيوي في تركيبة الأنظمة وعن الفساد والمحسوبيات وغياب مخططات التنمية والمشاريع التطويرية خاصة في المناطق النائية والمهمشة، وبصرف النظر عن وجاهة الأسباب والتبريرات، من المؤكد أن تداعيات الأزمة خطيرة جدا، وما شهدناه في تونس ليس سوى مثال ومقدمة لما سيحدث حتما في بقية البلدان العربية فيما لو استمرت الأوضاع الكارثية على هذا النحو من التدهور.

وأخطر ما قد تواجهه الأنظمة هو موجات الغضب الجماهيري التي ستطيح بها بعد أن وصلت الجماهير إلى مرحلة ليس بعدها ما تخسره، ولن تتوقف الخطورة عند السخط الشعبي العارم، بل ستكمن في استغلال هذه الحالة الشعبية المتفجرة لصالح زعامات وأحزاب سياسية ليس بالضرورة أن تكون من بين الجماهير، بل على الأغلب أنها ستنفذ أجندات حزبية موجهة لمصلحة جهات خارجية. وقد بانت ملامح هذا التوجه من خلال الخطاب الشعبوي الصارخ لقيادات وشخصيات ظهرت فجأة وسعت لتجيير الأحداث أو لتوظيفها بعيدا عن أهداف وغايات الجماهير الجائعة والساخطة الباحثة عن لقمة العيش الكريمة والعدالة الاجتماعية.

الأراضي الفلسطينية ليست بمعزل عما يحدث حولها، سيّما وأن هنالك العديد من العوامل الإضافية لتفاقم أزمة الغلاء والفقر والبطالة فيها، ونقصد بها الإجراءات التعسفية للاحتلال الإسرائيلي بدءاً من بناء جدار الفصل العنصري الذي حرم العمال الفلسطينيين من التوجه لأماكن عملهم، كما وحرم المزارعين من الوصول إلى أراضيهم واستغلالها، وانتهاءً بالحصار الظالم على قطاع غزة، ناهيك عن الحواجز والمستوطنات الإسرائيلية المنتشرة على امتداد الوطن والتي تسببت جميعها بتدهور الأحوال المعيشية للناس، واتساع دائرة الفقر، خاصة في ظل موجة الغلاء التي عصفت بالمنطقة والعالم.

خطورة الموقف في فلسطين أن السلطة عاجزة ومقيدة لاعتبارات عديدة ليس هنا مجال ذكرها، وهذا الحال ينسحب على الحكومة المقالة في غزة، حيث أن مواجهة الأزمة بأساليب ناجعة يتطلب إمكانيات كبيرة عجزت عنها دول مستقلة ومستقرة أمنيا وسياسيا ولديها سيطرة على حدودها ومواردها، ولكن المواطن ليس مضطرا لفهم حيثيات وأبعاد الأزمة، ولن تقنعه المبررات التي يسوقها المثقفون والاقتصاديون، وعندما تصل الأمور إلى حد الجوع بمعناه البيولوجي ويشعر المواطن بالعجز عن شراء دواء لأبنه المريض أو تأمين مصروف أطفاله، لن يميز حينها بين الأسباب والنتائج وبين المسبب الحقيقي للأزمة وضحيتها، لأن الشعور بفقدان الكرامة سيعطي للغريزة دورا مهيمنا على العقل والمنطق، وحينها ستثور الجماهير في وجه أي شيء، أي أنها ستنتفض ضد السلطة وضد الاحتلال وضد الجوع.

في مثل هذه الأزمات يسهل على السياسيين استغلال الوضع للنيل من خصومهم وتهييج العامة بخطاب شعبوي مضلل، ومن السهل أيضا على المتثاقفين اقتراح الحلول والبدائل، ولكن هذا لن يُنتج إلا الوهم والخداع، وعندما تضطر السلطات للرضوخ لديكتاتورية الغوغاء وتتبنى الحلول السطحية الترقيعية لامتصاص نقمة الجماهير ستجد نفسها بعد حين أن ما فعلته لم يكن أكثر من ترحيل للأزمة، بل أن هذه الأزمة قد أنتجت أزمات وتفاقمت وتعقدت على نحو يصعب حله.

هذا لا يعني أن على الحكومات أن تبقى ساكنة وتنتظر الحل من الخارج، فهنالك الكثير مما يمكن لها أن تفعله، فهي مُطالبة بالعمل لتحقيق الأمن الغذائي والاستقرار المعيشي لمواطنيها، مستخدمة بذلك كافة الطرق والوسائل الممكنة، وعليها أولاً وقبل فوات الأوان البدء فوراً بعمليات إصلاح جذرية وجادة تشمل بنية النظام وأركانه ومحاربة الفساد بكافة أشكاله، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية وإطلاق الحريات العامة وممارسة ديمقراطية حقيقية تضمن تداول السلطة وبث الحياة الحزبية، هذا الوضع الجديد إذا ما تم سيمكن من خلاله وضع الخطط العلمية التنموية للاستغلال الأمثل للموارد وإقامة المشاريع الإنتاجية وتركيز الجهود لتطوير القطاع الزراعي، بشقيه النباتي والحيواني، من أجل تحقيق أعلى درجة ممكنة من الاكتفاء الذاتي، وفي هذا الج ال يمكن أيضا دعم المشاريع الصغيرة وتشجيع إقامة الصناعات الغذائية المحلية التي يمكنها توفير البديل المحلي للسلع الغذائية الأساسية، مع التركيز على المناطق المهمشة، وهذا يعني التأسيس لتنمية مستدامة تقوي ركائز الاقتصاد الوطني بما يمكنه من مواجهة الأزمات العالمية وامتصاص موجات الغلاء، وبالتالي ستتعزز الفرصة للقضاء على البطالة أو للحد منها، وستزيد القوة الشرائية للمواطن.

ولكن قبل الوصول إلى هذه المرحلة وبالتوازي معها لا بد للحكومات أن تتدخل في كبح جماح الأسعار بوضع ضوابط وإجراءات حكومية تكفل الحد من ارتفاعها، من خلال التدخل المباشر، إما بفرض أسعار محددة أو بوضع سقف أعلى لأسعار السلع الأساسية، أي بتحديد هامش معقول للربح، والتأكد من التزام التجار بإشهار الأسعار، وحيث أن تبني سياسة الدعم المباشر للسلع الأساسية لم يعد خيارا ممكنا ليس بسبب معارضة صندوق النقد الدولي بقدر ما هو بسبب عدم توفر الإمكانات المادية لتغطية هذا الدعم، كما أن هذه السياسة أثبتت عقمها في دول العالم المختلفة، لأنها تشكل عبئا اقتصاديا من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي عملية ذات آثار سلبية في بعض الأحيان، وأيضا على الحكومة تشديد الرقابة على التجار ومنع الاحتكار وإعادة هيكلة السوق وتنظيم الاستيراد والتصدير. إلى جانب اعتماد سياسات واضحة من شأنها معالجة جيوب الفقر والحد من تزايدها كتوسعة مظلة الأمان الاجتماعي.

ولمواجهة التقلبات في أسعار السلع الإستراتيجية على المدى الطويل يتوجب تنويع مصادر الاستيراد والبحث عن البدائل، والشراء على أساس ما يسمى بِ "العقود الآجلة"، بحيث تضمن شراء كميات كبيرة لفترة طويلة عند سعر محدد يكون في العادة اقل مما هو متوقع في المستقبل. ويمكن تطبيق هذا المبدأ أيضا على المحاصيل الحقلية المنتجة محليا من خلال هيئة للتسويق الزراعي، وهو إجراء مفيد على المستوى الوطني إذ أنه يحول دون تذبذب الأسعار بشكل كبير ويضمن هامش مناسب للربح يعوض المزارعين جانبا من خسائرهم المتلاحقة، وكما يجب على الحكومات أن تحتفظ وبشكل دائم بمخزون استراتيجي من السلع الإستراتيجية يغطي فترة ستة أشهر على الأقل، وبما يكفل دعم الاستقرار السعري والتمويني لها في البلاد.

كرة الثلج التي هوت من تونس ستواصل تدحرجها، وسنشهد كل يوم أناس يحرقون أنفسهم، إلى أن تثور العاصفة الكبرى التي لن تُبقي ولن تَذَر .. وللحيلولة دون ذلك، يجب على الأنظمة أن تتنبه لجوع مواطنيها وأن تخاف منه، وأن تفهم مطالبهم على نحو أسرع مما فعل زين العابدين، وهنالك الكثير من التدابير التي يجب الإسراع إليها، ولكن قبل كل شيء لا بد من توفر بيئة نظيفة ليزدهر فيها الاقتصاد، بيئة تخلو من الفساد والفاسدين.

فهل استفقنا قبل فوات الأوان ؟؟!!

كانون2-2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق