أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 11، 2010

ثنائية الموت والحُكْم في العراق


الثامن والعشرون من نيسان عام 1937 يوم كبقية الأيام : شمس دافئة أطلت من الشرق، وسماء زرقاء غطت المكان، والمياه تجري في دجلة والفرات كما هو عهدها منذ آلاف السنين ،، إلا أنه في هذا اليوم سيولد فتى يتيم وسيُربى في كنف خاله في العوجا، وسيقَتُل صبياً من الحي قبل أن يدخل المدرسة، ولكنه ما أن يشتد عوده ويبلغ مبلغ الرجال حتى تصبح يومياته هي تاريخ العراق بأسره .. لذا ليس عجبا أن يتجمع العراقيون في مثل هذا اليوم من كل عام أفواجا وزرافات زمرا وآحاد، يهتفون بصوت واحد للزعيم الواحد والأب الحاني والقائد الفذ والرئيس الملهم خيمة العراقيين جميعاً وهبة السماء للعراق وباني مجدها وحامي عزها .. ومن المستحيل أن تصدق أن انفعال الناس وهياجهم وأهازيحهم ودموعهم ما هي إلا تمثيلية متقنة أجبروا على القيام بها ربع قرن إلا قليل !


في السابع عشر من تموز وبينما يحتفل الشعب بالذكرى الحادية عشرة للثورة وهم يهتفون لقائدها حسن البكر، فوجيء الجميع بخبر عاجل على تلفزيون بغداد مفاده أن البكر قد استقال من منصبه لكبر سنه، وأنه عيّن نائبه المخلص صدام حسين كرئيس للجمهورية، وفي اليوم التالي جلس صدام على منصة في قصر للمؤتمرات وأخذ يتلو بعض الأسماء .. من ورد اسمه في القائمة يخرج من القاعة ليتولى حرسه الشخصي أمر إخراجه من الدنيا كلياً، والتهمة هي التآمر على النظام والثورة والتحالف مع الجارة اللدود سوريا، التي كانت تتهيأ لبدء عهد من الوحدة بين جناحي الحزب .. ومثلما توارى البكر في صمت عن المشهد شرب آخر كأس في حياته بعد ثلاثة سنوات قضاها في منزله وحيدا ليتوارى كليا وأيضا بصمت !

يشطر دجلة بغداد إلى شطرين، يسكن عِلْيَةَ القوم ومثقفيهم في الجانب الغربي منه والذي سمي بالكرخ، فيما تسكن الطبقات الشعبية في الرصافة الشطر الشرقي من المدينة ،، وفي حي الحارثية من الكرخ يقبع قصر الرحاب المقر الدائم للأسرة المالكة ،، وفي هذا القصر بالذات ستكتب نهاية مفجعة للعائلة برمتها ومعها كبار المعاونين والوزراء والمستشارين .. حدث هذا يوم الرابع عشر من تموز من عام 1958.

جمعت مدرسة «ساند هيرست» البريطانية ملكين وهما في شرنقة التشّكل، الأول حكم الأردن خمسة عقود إلا قليلا، بنجاحٍ باهرْ عاشت بلاده في عهده استقرارا لافتا، فيما حكم الثاني وهو إبن عمه العراق نصف عقد لا غير، تبعتها عقود من التقلبات الدموية والعواصف العاتية.

تخرج العائلة المالكة بناء على أوامر صارمة من ضبط الجيش الذين اقتحموا القصر، كانت الملكة عالية أرملة الملك غازي الاول ووالدة الملك فيصل الثاني تضع نسخة من المصحف الكريم فوق رأس ابنها، وظنّت لوهلة أنها بذلك ستحميه من غضبة الشعب، لكن صوت مجنون متعطش للدم يأمر بإطلاق النار لينهي عهدا دام ثلاثة عقود ونيف.

ولكن جموع الغوغاء لم تكتفي ببضع طلقات وحسب، إذا توجهوا الى ميداني الملك فيصل الاول والجنرال مود في منطقة الصالحية، ليجرجروا بالحبال تمثالي الملك والجنرال البريطاني المصنوعين من البرونز ويلقون بهما في نهر دجلة، وليت الأمر توقف على سحل التماثيل، إذ مُثِّلَ بالجثث وجرى تقطيعها بالسواطير كما يفعل الجزار بذبيحته، وقد سالت دماء العائلة في جنبات القصر ونُثر فتات من لحمهم فيه بعد أن جرى نهبه وحرقه في وضح النهار .

يؤكد بعض من شيوخ العراق وعجائزه أن نزيف الدم الذي انفجر ذلك اليوم التموزي الملتهب من أجساد هذه العائلة سيصير لعنة وسيستمر في العراق كعقوبة لما حدث إلى أمد غير معلوم !!

لكن هذه اللعنة لازمت كل من حكم العراق قبل هذا اليوم بكثير وكان على كل من يحكم العراق أن يتجرع قارورة العسل المسموم منذ أول ملوكها فيصل الاول، وحتى صدام حسين، وسنرى أن وحده عبد الرحمن عارف قد توفي بشكل طبيعي كسائر البشر، فيما ارتبطت مصائر البقية بالدم والنهايات المفجعة !

وأول من افتتح موسم الموت المريب كان الملك فيصل الأول الذي ملَكَ العراق سنتين ( 1921 ~ 1923 ) وكان قبلها قد أختير ممثلا عن جده في البرلمان العثماني، ثم اختاره السوريون المتحمسون لفكرة الانفصال عن تركيا، فأصبح ملكا عليهم في العام 1920 لمدة شهر، حيث أن معمعان الترتيبات الدولية الجديدة في سان ريمو ومن قبلها سايكس بيكو قد أودت بحلمه الملكي ولكن إلى حين، فبعد وضْع سورية تحت الانتداب الفرنسي خاض معركة ميسلون، وهو إذ خسر المعركة لم يخسر اللقب، فبعد رحيله عن سوريا وجَدَ في العراق ملاذا فيما وجَدَ فيه العراقيون ضالتهم، إذ كان العراقيون يبحثون عن شخصية عربية تحكمهم من غير أن تنحاز لطائفة دون أخرى، ولكونه احد ابناء الملك الذي يتحدر من سلالة الرسول محمد (ص) وهو شرف كافي ليتبوأ العرش، فبعد ان عقد مؤتمر القاهرة عام 1920 على إثر ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني، تشكل المجلس التأسيسي من بعض زعماء العراق وشخصياته المعروفة، ومنهم نوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني، وقد أنتخب هذا المجلس عبد الرحمن الكيلاني رئيساً للوزراء والذي بدوره نادى بالامير فيصل الاول ملكاً على عرش العراق .

وفيما كان الملك في رحلة استجمام في سويسرا حقنته ممرضة حسب توجيهات الطبيب حقنة أودت بحياته ضمن ظروف ما زال يكتنفها الغموض.

ويتوالى مسلسل الموت الرهيب، فبعد فيصل يأتي إبنه الامير غازي ولي العهد فيتولى الأخير الحكم وهو في أول الشباب، وهو إذ شهد في طفولته وحدة الاقاليم العربية إبان الحكم العثماني قبل سايكس بيكو وخَبِرَ ميزتها، فقد اعتبر أن النفوذ البريطاني في العراق عقبة أمام بناء الدولة العراقية الفتية، فناهضه وتقارب مع هتلر قبيل مغامرته المجنونة في الحرب العالمية الثانية، وقد أهداه هتلر سيارة مرسيدس يوضع كرسي في مقدمتها لأغراض الصيد والقنص، حيث كان الملك غازي مولعا بجمع السيارات، لذا فقد دبر البريطانيون اغتياله من خلال هوايته المفضلة بواسطة حادث سيارة مفتعل داخل قصره في العام 1939.

وثالثة الأثافي كانت من نصيب الوصي عبد الإله بن علي صهر الملك المغدور، وهو الذي أختير وصياً على العرش، ريثما يبلغ الملك الجديد سن الحلم، أظهر الوصي تأييداً علنيا للسياسة الانجليزية، وعندما غادر بغداد سراً الى الحبانية ومنها الى البصرة دعى مجلس الأمة الى تعيين الشريف شرف بدلا منه وصياً على العرش، فقرر الإنجليز إعادة المعزول إلى سابق عهده مهما كلفها الأمر، فدك الجيش البريطانيُّ الجيشَ العراقيَّ، وكان له ما أراد، وبقي الوصي مسيطراً على شؤون الدولة حتى بعد انتهاء مدة وصايته عام 1953، وفي عهده عقد حلف بغداد وسعى لتكوين الاتحاد العربي مع الأردن، وقد قُتل الوصي مع العائلة المالكة في ذاك اليوم المحفور في ذكرة العراق، وقد أوغل الغاضبون في سحْلِهِ في شوارع بغداد وتقطيع جثته الى أوصال وتعليقها في الميادين العامة، وفي نفس هذا اليوم الفاصل بين الملكية والجمهورية تم القبض على رئيس الوزراء والسياسي المخضرم نوري السعيد ونجله صباح وقتلهما، ومن ثم سحلهما مع المسحولين .

القاتل في الحلقة الرابعة هو القتيل في الخامسة، إنه عبد الكريم قاسم أكثر من حكموا العراق إثارة للجدل، وأول عراقي يحكم البلاد بعد الملوك الهاشميين، بدأ حياته العسكرية برتبة ملازم ثان وأنهاها كعقيد، وبالتنسيق مع شريكه عبد السلام عارف قام بالتخـطيط وتنفيذ ثورة 14 تموز 1958 التي أنهت الحكم الملكي وأعلنت قيام الجمهورية العراقية، وإذ يتهمه خصومه بالتفرد بالحكم، كان يسميه مريديه الزعيم الاوحد، فيما أطلقت عليه الجماهير لقب الابن البار، أما هو فقد وصف سياسته الخارجية بالحيادية الإيجابية.

مَنَحَ الزعيمُ الحزبَ الشيوعيَّ حريةً كبيرة ووَرّطَهُ في أحداث العنف في كل من الموصل وكركوك، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة للعقيد عبد الوهاب الشواف ذي الميول القومية، ثم نكّل من خلال محكمة الثورة بالانقلابيين وأصدقائهم وأمر بإعدام مجموعة الطبقجلي ورفاقة، وإمعانا في غيّهِ بدأ بمحاكمة قائد ثورة مايو 1941 ضد الانجليز رشيد عالي الكيلاني وحاول إعدامه، وكان قاسم ضد فكرة الانضمام لمشروع الوحدة مع مصر وسورية، مما أثار حفيظة القوميين العرب إلى حد قيام حزب البعث بمحاولة فاشلة لاغتياله عام 1959 في شارع الرشيد وسط بغداد والذي نفذها شخصيا زعيم البلاد القادم صدام حسين.

تقع وزارة الدفاع بالقرب من باب المعظم وسط بغداد، وفي مبناها العتيق ستكتب نهاية حقبة فريدة من تاريخ العراق، سيتذكرها كثيرٌ من المسنين بحنينٍ ولوعة حتى يومنا هذا، فقد صحت بغداد صبيحة يوم الثامن من شباط من عام 1963 على أصوات الانفجارات وأزيز الطائرات وهي تقصف مبنى وزارة الدفاع التي يتحصن بها الزعيم الأوحد والإبن البار، ففيها كان يتخذ من غرفة متواضعة مكتبا له ومناما.

حدث هذا على يد عبد السلام عارف، شريك قاسم قي انقلاب تموز، وبدعم من البعثيين طبعا ضمن انقلاب عسكري سيغير مسار الأحداث كليا، كانت لعارف أسبابه في الانقلاب على رفيقه القديم الذي قام بإعفائه من منصبه، وبتعيينه سفيراً للعراق في المانيا الغربية، ثم ما لبث أن اتهمة بالتآمر وحكم عليه بالاعدام إلا أن الحكم أستبدل بالسجن ومن ثم الاقامة الجبرية لعدم كفاية الأدلة.

اضطر قاسم لتسليم نفسه بعد تعهد الحكام الجدد بعدم اعدامه والاكتفاء بتسفيره، لكن ما حدث بعد ذلك غير الذي وعد به بكثير، فقد اقتيد العقيد إلى دار الاذاعة في منطقة الصالحية بعربة عسكرية مصفحة، وهناك جرت له محاكمة سريعة قضت بإعدامه رميا بالرصاص، وفي المساء ظهر مذيع التلفزيون يطلب من المشاهدين إبعاد الاطفال عن الشاشة حيث سيتم عرض مشاهد مرعبة، أعدم وهو ببزته العسكرية، وأعدم معه كبار معاونيه وأبرزهم ابن خالته العقيد فاضل المهداوي صاحب المحكمة الشهيرة .

سادس القتلى هو أول مدني يحكم الجمهورية: عبد السلام عارف، لم يعرف عن عارف انتماؤه لأي تنظيم سياسي وإن كانت ميوله مع التيار العروبي الوحدوي ومع الفكر الاسلامي المنفتح، وفي زمنه تقاتل البعثيون والشيوعيين وسقط في معاركهم الكثير من الابرياء وأُنتهكت المحرمات، وقد عارضه إلى جانب البعثيين شريحة كبيرة من الفلاحين الذين استفادوا من منجزات عبد الكريم قاسم ولاعتقادهم بأنه تسبب بإعدام زعيمهم المحبوب.

وبينما كان عارف يجتاز شارع الخليج وسط البصرة وهو يلوح للجماهير التي اصطفت على طول الطريق ووقفت في شرفات بيوتهم ترقبه وهو في سيارته المكشوفة قال لهم « لقد نذرت نفسي للشعب »، بعدها استقل طائرة الهيلكوبتر لزيارة مدينتي العمارة والناصرية.

كان محافظ البصرة وقتذاك يهمُّ بصعود طائرة أخرى، إلا أن الرئيس سحَبَهُ من يده ودعاه لأن يصعد معه، وقيل أن المحافظ تردد في الصعود لكنه أجبر على ذلك، وفي صباح اليوم التالي بثت الإذاعة بيانا مقتضبا ورد فيه أنه في ظروف غامضة تحطمت الطائرة التي كان يستقلها الرئيس، لكن الأيام كشفت فيما بعد تورط حزب البعث في الحادث.

أما الرئيس العراقي الذي كسر دائرة الموت الاستثنائي، فهو شقيق المغدور : إنه عبد الرحمن عارف، لم يتمتع الرئيس عبد الرحمن عارف بخبرة واسعة في السياسية الدولية، ولم تكن خلال فترة حكمه أية سياسة مميزة أو واضحة المعالم إلا بعض الانجازات المحدودة هنا وهناك، وفي عهده كانت نكسة حزيران.

وقد تم إقصاءه عن الحكم على إثر الانقلاب البعثي في 17 تموز 1968، حيث داهمت دبابة بعثية بوابة القصر الجمهوري وأجبَرَ معتلوها الرئيسَ على التنحي عن الحكم مقابل ضمان سلامته، فوافق الأخير وكان له ما أراد، فتم إبعاده إلى إسطنبول وبقي منفيا هناك حتى عاد لبغداد في أوائل الثمانينات، بعد أن أذن له صدام حسين بالعودة وعينه مستشارا له.

قبل أن يجف حِـبْرُ هذه السـطور، حُكم على صدّام حسين بالإعدام شنقاً حتى الموت - وكأن هنالك شنقٌ لا يفضي إلى الموت !! وهو حكم على الأرجح سينفذ ليس لأن المحكمة عادلة - لا سمح الله - بل حتى تكتمل حلقات المسلسل بنفس الصورة التي بدأها ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق