اطلعت على مذكرات شخصية فلسطينية برزت
في انتخابات البلديات سنة 1976، ذكر فيها أنه التقى بالقائد خليل الوزير أبو جهاد
في بيروت، ضمن مهمة سرية لإطلاعه على بعض التفاصيل في الأرض المحتلة.. وأنه قبيل
انتهاء اللقاء سأله عن سبب امتناع منظمة التحرير المشاركة في مؤتمر ميناهاوس في
مصر؟
وكان هذا المؤتمر قد عقد في أواخر سنة
1977 بهدف عقد أول مباحثات سلام مباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بمشاركة
مصر ودول عربية أخرى والاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وقد حصلت
المنظمة على ضمانات بأن تشارك في المفاوضات بوفد مستقل، وأن غاية المؤتمر إيجاد
تسوية سياسية تنتهي بدولة فلسطينية واستقلال.. فأجابني أبو جهاد وفي نبرته حسرة:
لقد تعرضنا لتهديدات من دول عربية (يقصد نظام الأسد) باستهداف مخيمات اللاجئين
وتسفير الجالية الفلسطينية في إحدى الدول العربية، ومن منطلق حرصنا على شعبنا
آثرنا عدم الحضور. ثم تناقشنا في موضوع زيارة السادات، وخطابه في الكنيست، وقد
تفاجأت أنه أشاد بمضمونه.
وفي مذكرات حسن عبد الرحمن وهو قائد
فلسطيني ودبلوماسي عريق مثّل فلسطين في الأمم المتحدة، وترأس مكتب منظمة التحرير
في واشنطن، يقول بأنه كان مقتنعا بأن الرئيس الأميركي جيمي كارتر كان جادا بتحقيق
تسوية سياسية لحل الصراع العربي الإسرائيلي، والتوصل إلى سلام عادل وشامل، فأردنا
استثمار فرصة ولايته بطرح مبادرة سياسية، فأعدَّ مع عدد من الدبلوماسيين العرب
ورقة سياسية تتلخص في ثلاث نقاط: إن منظمة
التحرير تقبل بالقرارين 242 و338، شرط الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير
مصيره. وأن يعترف مجلس الأمن بهذا الحق، ويضمن الاستقلال الوطني للشعب الفلسطيني.
قمنا بعرض الورقة على الرئيس الأميركي جيمي كارتر، فكان رده أنه يراها مناسبة، وسيدعمها في مجلس الأمن، إنْ
وافقت عليها منظمة التحرير.. بعدها سافرتُ إلى بيروت، والتقيت بالرئيس ياسر عرفات
وشرحت له ما جرى. وقدمت له الورقة، فقرأها وتركها على مكتبه من دون أن يعلّق
عليها، وطلب مني العودة بعد يومين..
وحين التقيته بعد
يومين قال لي: "لا أستطيع الموافقة على هذه الورقة". سألته:
"لماذا؟!". قال: "هل ترى قوات الجيش السوري المتمركزة في منطقة
الشوف بجبل لبنان؟ إذا وافقت، فسوف تقصف هذه القوات مخيمي صبرا وشاتيلا، وقد يؤدي
هذا إلى مقتل مئات الفلسطينيين. حافظ الأسد لن يكون سعيدًا بفتحي حوارًا مباشرًا
مع الأميركيين، والموقف نفسه سيتخذه الملك حسين وأنور السادات". استنتجت
أيضًا أنه كان يفكر كذلك بالاتحاد السوفياتي الذي لن يرضى بفتحه قناة حوار مباشر
مع الأميركيين؛ إذ كانت الحرب الباردة في أوجها، وحالة الاستقطاب ساخنة، والعالم
منقسم بين معسكرين.
على ضوء
الحدثين أعلاه، قد يتسرع البعض باستنتاج بأن القيادة الفلسطينية كانت مستعدة
للتنازل والتفريط، ولكن النظام العربي منعها.. وهذه المقولة قد تجد من يصدقها في
ذلك الزمن، حيث الأمور لم تكن واضحة، ومعظم الأحداث التي ستجري لاحقا كانت في رحم
الغيب، أما اليوم، فمن السهل قراءة التاريخ بأثر رجعي، والتوصل إلى استنتاج وحيد
منطقي: لم يكن النظام العربي يريد الخير للفلسطينيين، ولم يرد إنهاء معاناتهم، ولا
حل قضيتهم، بل إنه تاجر بهم، وحاول الهيمنة عليهم، ليستخدمهم كورقة ضغط لصالح أجنداته
القطرية.. بل إن هذا النظام كان أحد أسباب إخفاق الثورة الفلسطينية، والحيلولة دون
انتصارها، أو حتى على الأقل تحقيقها إنجاز تاريخي خارق، كان هذا بحصارها،
ومحاربتها، واغتيال قادتها، ومنافستها (لأغراض وحسابات ضيقة) بدلا من دعمها.
الاستنتاج الثاني
أن التسوية السياسية المعقولة والمقبولة بحدها الأدنى، والتي يمكن تطويرها والبناء
عليها لم تكن مستحيلة، وأن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا على استعداد للتوصل إلى
تسوية لو وجدتا موقفا عربيا قويا ومتماسكا وضاغطا يدفعهما إليها.. حصل هذا ثلاث
مرات على الأقل، في عهد الرئيس كارتر (1976-1980)، وفي أواخر عهد الثنائي بوش الأب
- بيكر إبان مؤتمر مدريد (1991)، والثالثة في أواخر عهد كلينتون (2000).
مؤتمر جنيف
1973، ومؤتمر مينا هاوس وغيرهما من المؤتمرات التي رفضناها بقوة، وألصقنا بها كل
التهم، في واقع الأمر لا تختلف عن مؤتمر مدريد.. الفرق الأهم أننا امتنعنا عن
الانخراط في تسوية حقيقية حين كنا في وضع أقوى، وظروف أفضل، حين كانت الأرض
المحتلة خالية من المستوطنات ومن الحواجز والجدران، وكان الواقع العربي والدولي أفضل..
وللأمانة والموضوعية؛
لم يكن النظام العربي السبب الوحيد في إخفاقاتنا؛ ولا الضغوطات الدولية، ولا التعنت
والغطرسة الإسرائيلية، والانحياز الأميركي السافر.. هذه أسباب مهمة دون شك، لكن الأسباب
الذاتية لا تقل أهمية؛ اختراق الساحة الفلسطينية من قبل الأنظمة العربية من خلال
فصائل موالية لها، تنفذ تعليماتها، وحالة الانقسام، ودخول البعض في لعبة المحاور الإقليمية،
والعمل لصالح أجندات خارجية، والرهانات الخاطئة والحسابات المتسرعة، والارتجال،
وغياب الرؤية الإستراتيجية، وعدم التوحد على برنامج نضالي واحد وجامع، فضلا عن
ترهل الفصائل وتكلسها وفقدانها عنصرية الحيوية والتجديد، وانفصال القيادة عن
الواقع وعن الشعب.. وأسباب أخرى عديدة.. نعرفها جميعنا، لكننا لا نعترف بها، ولا
نقيّمها، ولا نجري مراجعات نقدية لتجربتنا الكفاحية، التي قدمنا فيها تضحيات غالية،
ومارسنا خلالها أخطاء جسيمة..
المصيبة أن
البعض ما زال يصر على التجريب، وممارسة الأخطاء مقابل رهانات وهمية، ولكن مع سقوط
100 شهيد كل يوم.. حتى تجاوز العدد ما لم يخطر على بال الشيطان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق