أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 01، 2024

نقطة تحول مفصلية

 

قد تشتعل الغابة من عقب سيجارة، لكنها احترقت فعليا بسبب توفر الرياح والأشجار والحرارة المناسبة؛ وهكذا تحصل التحولات الكبرى؛ تبدأ من نقطة صغيرة، من حدثٍ بسيط بالمعنى الإستراتيجي ثم تكبر؛ فالحرب العالمية الأولى بدأت باغتيال ولي عهد النمسا، ولكن هل هذا السبب الحقيقي؟ ومن يتذكر اسم القاتل والقتيل الآن؟ وحتى لو حفظنا أسماءهما ما أهمية ذلك؟ المهم أنَّ العالم من بعدهما تغير كلياً..

هجمات سبعة أكتوبر كانت الشرارة التي ستحدث عاصفة من التغييرات الكبرى.. كل هذا بات معروفا، وصار مادة خصبة للمحللين والخبراء بين متفائل ومتشائم، وبين من يسرح بالخيال، ومن يرتطم بالواقع.. وبعد مرور أحد عشر شهرا على بدء العدوان صارت الرؤية أكثر وضوحا، وأقرب إلى الديستوبيا والنهاية الكارثية..

ليس مهما الآن التركيز على نقطة البدء، وتحميل المسؤوليات.. المهم والملحّ أن نطفئ النيران أولاً، وأن ننقذ ما يمكن إنقاذه، وأن نعي المرحلة ونستوعب التغيرات الحاصلة، وتحديد ما نحن فاعلون..

كل ما سبق العدوان من نظريات ثورية وتحليلات سياسية ودراسات فكرية وأساليب نضال وشعارات وخطط ومقولات ورؤى.. يتوجب مراجعتها بدقة، لأن معظمها لم يعد صالحا.. ربما كان صالحا فيما سبق (أي في وقته)، أما الآن فنحن في مرحلة جديدة، تتطلب مقاربات جديدة ومختلفة.. وما لم نعي هذه الحقيقة فسنظل نكرر أخطاءنا ونهوي من قاع إلى قاع..

اليوم أمام إسرائيل فرصة تاريخية ربما لن تتكرر، وهذا هو المعطى الأهم في هذه المرحلة؛ في إسرائيل حكومة هي الأشد تطرفا ويمينية في تاريخ الكيان، وتطرفها يجعلها تقدم على خطوات لم يكن ممكنا الإقدام عليها سابقا، وهي ترى أنها أمام فرصة إنهاء الصراع وحسمه، وتصفية القضية كليا، وإنهاء وجود الشعب الفلسطيني (بالمذابح والتهجير والإخضاع)، ويشجعها على ذلك إدارة أمريكية قدمت وتقدم لها مساعدات ودعم لم تحظَ بمثله سابقا، بل وتنتظر إدارة جديدة (ترامب) ستقدم لها المزيد.

ويشجعها أيضا (وربما فاجأها) ذلك الصمت والتواطؤ الدولي، وحالة اللامبالاة والعجز عن فعل شيء جدّي وحقيقي يرغمها على وقف الحرب، بل ورأت أنّ بوسعها ارتكاب المزيد من المذابح، وأن تبيد الفلسطينيين وتهجرهم أمام مرأى وسمع العالم. فلا الدول العربية، ولا محور المقاومة، ولا مجلس الأمن، ولا محكمة العدل، ولا الرأي العام، ولا المظاهرات الشعبية ولا احتجاجات الطلبة، ولا أصوات المؤثرين والمشاهير.. لا شيء أوقفها عن عدوانها، أو جعلها تتراجع خطوة للخلف..

لقد أفضت نتائج العدوان إلى خلق واقع جديد تمثل في الآتي: تدمير قطاع غزة، وقتل وجرح نحو 150 ألف فلسطيني، وتهجير معظم النخب المتعلمة وتفريغ القطاع من القوى المجتمعية المؤثرة، وجعله مكانا لا يصلح للحياة، وأخيرا احتلاله بالكامل، والتخطيط للبقاء فيه طويلا.

ثانياً: احتلال القطاع وكل الكوارث التي تسبب بها العدوان، جعلت خيار المقاومة "العسكرية" يصل إلى نهايته المفجعة، فإذا استثنينا جمهور المشجعين من خارج البلاد الذين ما زالوا يصفقون للكفاح المسلح، فإن ممارسته داخل الأرض المحتلة بالصيغة التي نعرفها منذ عقود خلت لم تعد متاحة. حتى حماس نفسها تطالب بإنهاء الحرب، وإذا تأملنا في هذا المطلب سندرك معناه الحقيقي وتجلياته على أرض الواقع، الآن ومستقبلا.. فإذا تحققت الهدنة بعد تلبية شرط حماس المركزي (تعهد مكتوب بإنهاء الحرب)، وإذا افترضنا أنها ستعود لحكم غزة، فستجد نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما العودة للمقاومة وفي هذه الحالة مع إطلاق أول صاروخ، أو حتى طلقة مسدس ستعود الحرب من جديد، وستدمر إسرائيل ما تبقى من القطاع.. أو أنها ستتفرغ لإزالة الأنقاض وإعادة الإعمار وتوزيع المساعدات وإدارة الشؤون اليومية للسكان وحفظ الأمن.. ما يعني أن أي حديث عن استئناف المقاومة سيكون للدعاية الانتخابية فقط لا غير. والحقيقة أن مأزق المقاومة "العسكرية" وصل إلى هذه النهاية الحزينة بسبب خطأ حسابات حماس منذ البداية.

وإذا كانت فصائل منظمة التحرير قد أدركت "أزمة الكفاح المسلح" منذ زمن بعيد، واستبدلته بالمقاومة الشعبية والنضال السياسي والدبلوماسي والحقوقي.. إلخ، فإن كل هذه الأنماط من المقاومة صارت بحاجة إلى مقاربة وصياغات جديدة ومختلفة. والتحدي الأكبر سيكون تجاوز الشعب لعقلية الهزيمة، وتجدد إيمانه بجدوى المقاومة، خاصة وأن الشعوب تمر بانتكاسات خطيرة بعد تعرضها لهزيمة عسكرية، أو لكارثة كبرى. وحتى نجتاز هذا التحدي يتوجب إدراك أن العدوان الإسرائيلي في حقيقته موجه ضد الشعب كله، فإذا تعرض فصيل مقاوم لضربات مؤلمة أجبرته على النكوص، أو حتى مغادرة المشهد، فهذا رغم وقعه الأليم على الشعب، إلا أنه لا يعني أبدا هزيمته. فالحرب في جوهرها لطرد الفلسطيني من أرضه، وطالما بقي الشعب صامدا ولم يغادر وطنه فإنه غير مهزوم.. ويعني أن هناك جولات نضال ومواجهات قادمة لا محالة.

باختصار، الهزيمة العسكرية يمكن تجاوزها، أما الهزيمة السياسية فهي القاضية. وهذا يقودنا إلى النقطة التالية:

حاليا، وضمن المعطيات لا يوجد أفق سياسي، لا مفاوضات، ولا حلول مقترحة تلبي الطموح الوطني، وربما لسنوات طويلة قادمة. وإذا أردنا أن نخلق مسارا جديدا نستطيع البناء عليه، علينا أولاً التوقف عن مسارات الصراخ، وتوزيع الاتهامات، والشكوى من الخذلان، وصب اللعنات على العالم.. ثم نستوعب أننا في لحظة تحول تاريخي وعلى وشك الدخول في حقبة جديدة، تتطلب أدوات تحليل وأساليب عمل مختلفة عن كل الوصفات السابقة.

تريد إسرائيل تصحيح ما تعتبره "خطأ استراتيجي" ورّطها بها حزب العمل، أي تقويض اتفاق أوسلو وتداعياته، وأهمها تأسيس السلطة الوطنية، لأنها تخشى تحولها إلى دولة فلسطينية وبالتالي هدم الفكرة الصهيونية وروايتها ومشروعها التوسعي، وثانيا لأنها تجسد التمثيل السياسي والكيانية الوطنية الجامعة للفلسطينيين، وبالتالي فإن إضعافها أو إنهائها سينهي الأمل بوجود كيانية فلسطينية لعقود طويلة، وسيكون ذلك بمثابة الخطوة الأخيرة التي سيتبعها بدء تنفيذ مخطط التهجير (القسري والطوعي)، وتحويل من يتبقى إلى مجرد سكان يقيمون في معازل متناثرة، أي مجرد أفراد يبحثون عن خلاص فردي، دون هوية وطنية وسياسية جامعة.

في هذا الاجتياح الجديد للضفة، ستركز إسرائيل على استهداف مناطق C، والمخيمات، ومواصلة مصادرة الأراضي وتكثيف عمليات التهويد والاستيطان، ومحاولة تغيير الحدود الجغرافية والديموغرافية للضفّة، تمهيدا لتغيير شكل العلاقة مع السلطة وصولا إلى تقويضها.

وهنا تجد إسرائيل في المجموعات المسلّحة الذريعة المطلوبة لتسريع تنفيذ مخططاتها. وحتى لو كانت إسرائيل لا تحتاج  ذرائع لتنفيذ سياساتها التوسعية والاستيطانية، وأنها ستنفذها سواء كان الفلسطينيون في حالة مقاومة واشتباك، أم في حالة سكون وهدوء.. لكن وجود الذرائع يساعدها ويسهل عليها مهمتها لتسويق وتبرير سياساتها العدوانية عالمياً؛ لذا فإن الحكمة تقتضي سحب الذرائع، وإتاحة هامش أوسع للعمل السياسي والتحرك في الساحة الدولية لجلب المزيد من الدعم العالمي لفلسطين.

إضافة إلى أن العمليات العسكرية لا تؤثّر في النتيجة النهائية مع كل تقديرنا للتضحيات ولشجاعة المقاومين، وليس مطلوباً تقديم شهداءَ  وتضحيات لن تغير شيئا في المعادلة الكبيرة، لكنّها تعطي حجة لعدو مطلق الحرية في ممارسة إجرامه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق