أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 09، 2024

أمين عابد، والخطر القادم

 

منذ أن تعرفت على أمين عابد قبل سنوات عدة، وأنا مواظب على قراءة كل ما يكتب، نتواصل معاً على الخاص من حين إلى آخر، ومع أننا لم نلتق وجها لوجه، إلا أني أحسبه صديقا مقربا، وأستطيع القول أني أعرفه جيدا، أعرف كيف يفكر، وكيف يتصرف، أحس بعالمه الجواني، واسمع صرخاته المكبوتة..

أمين إنسان بسيط جداً؛ يحمر وجهه خجلا إذا مدحته بكلمة، لكنه يغضب بشدة كلما رأى إنسانا مظلوما.. فقير بل ومعدم لكنه نهر عطاء.. زاهد ومتقشف لكنه محب للحياة، ولا يتوانى عن تقديم المساعدة لمن يعرفه ولمن لا يعرفه.. لذا لم استغرب من حجم التضامن الكبير جدا معه، والرافض لجريمة الاعتداء عليه.

أمين مثقف جدا، وعميق الفكر، وصاحب قلم حر، ولديه جرأة غير عادية في قول كلمة الحق.. ومع أنه ابن فتح إلا أنه طالما انتقدها، وانتقد أخطاءها وسياساتها وقادتها، لذلك لم يكن من الفئة "المحظوظة" التي حافظت على مكتسباتها، ولم يتملق لأحد.. كما انتقد حماس حين لجأت للسلاح وخلقت الانقسام، وحين فرضت الضرائب دون وجه حق، وحين ضيقت على الحريات، وحين رأى خيرة شبان غزة يغادرونها بحثا عن "حياة"، فكان من نشطاء "بدنا نعيش".  

ومنذ بدء العدوان رفض النزوح من مخيم جباليا، وشجّع أهالي منطقته على الصمود، وكرس نفسه لخدمتهم، ينقل المصابين، ويساعد الجرحى، ويدفن الشهداء، وينبش الأنقاض بحثا عن ناجين، ويوصل المساعدات لمن يحتاجها، ينظم حملات تطوع لتنظيف الشارع وإزالة الردم.. هو كتلة عطاء وطاقة لا تنضب..

كان ناشطا على أكثر من صعيد، وجميع منشوراته تركز على ضرورة وقف الحرب، مصرا على تسميتها بحرب الإبادة والتهجير، وأنه لا طائل من ورائها، ولن نجني منها سوى المزيد من الخراب والتضحيات التي يمكن تلافيها.. وكان ينتقد أخبار الجزيرة، لأنها منفصلة عن الواقع، ولا تنقل الحقيقة، وتزين للناس أهوال الحرب، وتمنح إسرائيل المزيد من التبريرات لمواصلة عدوانها.. وكان ينتقد ويفضح من يسرقون المعونات، ومن لا يوزعونها بعدالة، ومن يتاجرون باسم الشعب تحت مسميات التكايا والجمعيات الخيرية، ومن يرفعون الأسعار، ومن يستغلون معاناة الناس بلا رحمة ولا ضمير، ومن يتوانون عن حماية شعبهم، ويمتنعون عن محاسبة تجار الحرب والسماسرة.. كل هؤلاء كان أمين ينتقدهم بشجاعة وصراحة.. لذا فأعداؤه كثر..

لكن محبيه أكثر بكثير..  

أمين بلغ الخامسة والثلاثين من عمره، ولم يتزوج، وحصل على الماجستير في العلوم السياسية ولم يشتغل.. أمين مثل كل أبناء جيله، لم يحظ بفرصة للعيش؛ ما أن أنهى طفولته حتى وجد نفسه في وسط انتفاضة شعبية "مسلحة"، ثم عاش الحصار بكل ما جره من مظالم وضنك، ثم شهد ستة حروب، بكل ويلاتها وأهوالها وفواجعها.. حياة كلها خوف وقصف ودمار وقتلى.. وفي أوقات "الاستراحة" بين الحروب معاناة وقهر على كافة المستويات.. لم يغادر القطاع، لم يرَ العالم، لم يختبر شيئا اسمه حياة طبيعية..

اليوم، وبينما غزة تعيش سلسلة مذابح، في ذروة جديدة لأعنف قصف إسرائيلي منذ بداية العدوان، كان أمين في طريقه لتدبر احتياجات عائلته، فاختطفته مجموعة من الملثمين تقدر بعشرين عنصرا واستفردت به في مكان منعزل، وهاجمته بلا رحمة، واعتدوا عليه بالضرب المبرح، بالهراوات والأدوات الحادة وأعقاب الأسلحة، على مدى 40 دقيقة، كسّروا أسنانه وأطرافه الأربعة، ولولا قدوم الأهالي ومجموعة من النسوة ممن هبوا لنجدته لتمكنت تلك المجموعة الآثمة والجبانة من تصفيته والإجهاز عليه..

ما حصل مع أمين مخيف ومرعب ويستوجب دق ناقوس الخطر.. والخطورة تكمن في تفشي الفوضى والانفلات الأمني، والتي ستتفاقم أكثر.. وقد تفتتح حلقة جديدة من مسلسل الصراع الأهلي، ومثل هكذا صراع هو الأخطر والأشد والأعنف، ولن يسلم منه أحد؛ من اعتدى ومن اعتدي عليه، ستتسع دوائر الانتقام، وحلقات العنف.

وكل محاولة لإسكات الصوت لن تكون أكثر من مجرد إرهاب، ولكنه إرهاب من لم يعد لديهم ما يخسرونه وما يخشونه. لذا هي أفعال حمقاء وجبانة ستجر الجميع إلى أتون الفتنة والاقتتال الداخلي. وهذا ما حذر منه أمين قبل أيام قليلة.

الخطورة أن ينتقل الخلاف في الرأي من الكلام والنقاش إلى مستوى الفعل والانتقام والقتل، هذا لن يخلق سوى الكراهية والحقد والمزيد من التعصب والتشظي.. ويبدو أن بعض المتشددين من حماس قد بدؤوا مبكرا التحول إلى هذا الاتجاه، فإذا كان حالنا الآن ونحن جميعا تحت القصف الإسرائيلي، فكيف سيكون حالنا في "اليوم التالي" للحرب؟

الخطورة بدأت تظهر بوضوح منذ عدة أشهر، لكن الإعلام يتكتم عنها، حتى لا يخدش الصورة "المثالية" التي صدّرها عن مجتمع غزة، وعن المقاومة وحاضنتها المفترضة.. ما يجري من سرقات وتعديات واستغلال وسمسرة وذل وبهدلة وإمتهان لكرامة الناس، ومن تفتت اجتماعي، وانهيار قيمي وصل حدا خطيرا لدرجة أن الجميع يخجل من ذكر الكثير من القصص، التي تبدو شاذة الآن، ولكن إن استمر مسلسل التدهور فتصبح مجرد قصص يومية..

أوقفوا هذه الحرب العبثية قبل أن نفقد ما تبقى من إنسانيتنا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق