أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 21، 2024

اليـمن، الذي كان سعيدا

 

لليمن ولشعبها مكانة خاصة في قلب كل فلسطيني؛ تربطنا وشائج تاريخية ووجدانية، وعشق متبادل.. في أيام الثورة في لبنان كان اليمانيون دوما حاضرين في العمل الفدائي، وقد قدموا خيرة شبانهم على مذبح فلسطين.. ولكن وللأسف ظل هذا البلد الغالي على قلوبنا منسيا، ومهمشا، وبالكاد تجد مقالات نادرة تتحدث عنه، خاصة بعد اندلاع آخر أزمة فيه، والتي قاربت على العقد الكامل..

وأعترف أنني من المقصرين بالكتابة عن هذا البلد العظيم، ربما لأن الكتابة عنه من أصعب المسائل، فلو أردنا الإشادة باليمن، وتاريخها ودورها وعطائها يمكن لأي طالب مدرسة أن يكتب خطبة مطولة ستكون أكثر من رائعة، وستكون صادقة تماما.. وصفحات الفيسبوك مليئة بمديح اليمن، وبقدر من المبالغة والتهويل والقراءة الرغائبية.. لكن المسألة أعقد من ذلك بكثير.

عند الحديث عن حب اليمن وشعبها وتعاطفنا مع مأساتها سنتفق جميعا، ولكن بمجرد دخول السياسة على الخط ستتشابك كل الخيوط، وسنتفرق شيعا وأحزابا..

ولا شك أن الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على اليمن هزنا جميعا، وآلمنا، لذا ندينه ونستنكره بأشد العبارات.. واعتقد أن أغلب الفلسطينيين (لا أحب التعميم) فرحوا بالضربات اليمانية الموجهة لإسرائيل، وأنا شخصيا حين سمعتُ "يحيى السريع" أول مرة يعلن الحرب على إسرائيل.. من شدة تأثري بكيت.. لكن كل ما قلته حتى الآن كلام عاطفي نابع من القلب، لكنه في حقيقة الأمر يمثل السطح الخارجي للحدث.. وهذا لا يكفي، ولا يجوز أن تظل مواقفنا مبنية على العاطفة، والتحليل السطحي الشعبوي..

في عهد الإمام البدر كانت اليمن أكثر البلدان العربية تخلفا، فإذا كانت البلدان العربية نفسها متخلفة، فلنا أن نتخيل مقدار التخلف اليمني آنذاك، كان المجتمع يعيش في بيئة قروسطية، في نمط حياته وفكره ونظامه السياسي. وبعد أن أقام اليمانيون نظاما جمهوريا، اكتشفوا أنهم لم يبرحوا القرون الوسطى إلا ببعض الشكليات، ومع دخولهم القرن الحادي والعشرين (بفعل مرور الزمن) ما زال المواطنون دون حقوق سوى شملهم في إحصاءات تعداد السكان، والتي تبين أنَّ الأمية في بعض المناطق أكثر من 60% (اليمن الجنوبي في عهد الحزب الاشتراكي كان قد تخلص من الأمية) والبطالة والفقر أكثر من 50%، وما زالت المرأة في سجنها الاجتماعي، بينما ينفق اليمن على القات أكثر من 2 مليار دولار سنوياً.

وبعد قرون من سباته الشتوي، وعقود أليمة تناوبت خلالها على جسد اليمن المنهك سهام القتلة: أصحاب العمائم، والقبليين والطائفيين، وحكام نرجسيون لا يرون في البلاد من يصلح لحكمها غيرهم، حاول شعب اليمن الثورة على الظلم والتخلف  في إطار الربيع العربي.. بيد أن النتائج أتت عكسية.

يربو تعداد سكان اليمن على الثلاثين مليونا، بتركيبة اجتماعية قبلية، وإذا كانت أغلبيتها من المسحوقين الذين يتطلعون إلى الحرية والكرامة، فإنها تضم أيضا تنظيم القاعدة وخطابه الداعشي، والإخوان المسلمين، وقوى اليسار القادمة من الجنوب، الذين لم يستفيدوا شيئا من النظام بعد قيام الوحدة، والخطابات المذهبية القادمة من صعدة.. مقابل الخطاب الرسمي السابق الموجه للغرب والقائم على تخويفه من "الغول الأصولي"، وتخييره بينه وبين الإرهاب.. وخطاب الحوثيين الحالي والذي لا يخفي تبعيته لإيران، ويعلن الحرب على أمريكا وإسرائيل والسعودية دفعة واحدة، تاركا شعبه للجوع والفقر.

 قبل صعود الحوثيين اصطدموا وتحالفوا مع النظام أكثر من مرة، حتى استولوا على العاصمة في العام 2014، لتبدأ بعدها حربهم ضد التحالف (السعودي الإماراتي) والتي أعادت البلاد إلى سابق تخلفها وفقرها. ومع كل محبتنا للحوثيين، والذين هم من أهل البلاد وليسوا مجرد طائفة، إلا أن هذه الحالة جعلت الشعب اليمني بكل طوائفه وفئاته وقواه السياسية في طرف والسلطة وميليشياتها الحاكمة في طرف. خاصة وأن دوافع ومحددات الحرب للطرفين المتقاتلين ليس وطنية خالصة.

على أية حال، كل ما سبق شأن يمني داخلي، ونرجوا لهم التوحد والتغلب على كل مشاكلهم، وما نناقشه هنا تداعيات دخول اليمن في مواجهة مباشرة مع إسرائيل. ولفهم ذلك لنتذكر المعطيات التالية:

الحوثيون هم أحد الأذرع الموالية لإيران، والمؤتمرة بأمرها، وقد جعلوا من اليمن ساحة لخوض حروب إيران الإقليمية، في سياق تنافسها مع السعودية على الدور الإقليمي، ومحاولاتها للتدخل في المنطقة وإيجاد موطئ قدم لها في جنوب الجزيرة العربية، حيث باب المندب، مدخل أحد أهم طرق التجارة العالمية. وهذا الدور الوظيفي للحوثيين تبلور قبل الحرب بسنوات عديدة.

منذ بدء العدوان على غزة وكافة أذرع إيران تضرب ضمن قواعد اشتباك؛ بسقف محدد ومنخفض. وفي المرة الأخيرة نجح الحوثيون بالوصول إلى تل أبيب، فاعتبرت إسرائيل ذلك خرقا لهذه القواعد، فردت بقصف جوي عنيف في ميناء الحديدة.

الأدوار التي تؤديها أذرع إيران تأتي عادة بعد تهديدات إسرائيل بضرب الجنوب اللبناني. أو في سياق استعراض القوة الإيرانية في التوازنات العسكرية بين الطرفين.

والغريب أن لهذه الأذرع ميليشيات، كانت سابقا قد تورطت في الصراعات الأهلية في بلدانها، وارتكبت فظائع ضد المدنيين، وساهمت في تشريد الشعب السوري واليمني واللبناني والعراقي، بل في العراق تسلطت على اللاجئين الفلسطينيين وطردتهم من البلاد. وما زالت فئات عريضة من هذه الشعوب تعارضها، وتعتبرها جماعات رجعية استبدادية.

بالنسبة لأدوارها في مواجهة إسرائيل، عملياً لا توجد أي قيمة عسكرية حقيقية لهذه الجبهات؛ فهي لم تمنع الاحتلال من تنفيذ خططه المرسومة بدقة في غزة، ولا حتى استطاعت التشويش عليها، ولم توقف المجازر، ولا التدمير والتهجير، وهي لحد الآن مجرد جبهات إعلامية غير مؤثرة فعليا على مشروع نتنياهو الكبير والممتد الهادف لتدمير غزة وجعلها غير صالحة للعيش.

فيما يتعلق بإغلاق البحر الأحمر، وتعطيل ميناء إيلات، علينا أن نتذكر أن إسرائيل تعتمد أساسا على مينائي أسدود وحيفا.. وإغلاق البحر الأحمر بالإضافة لضرره على مصر، فإنه دفع شركات النقل البحري والتأمين العالمية لاتخاذ الطريق البري البديل (الهند-الإمارات-الأردن- إسرائيل) والذي كان مخططا له قبل الحرب.

استفاد نتنياهو إعلاميا من فتح كل هذه الجبهات، وصار قادرا على القول أنه الملك والمخلص، القادر على حماية إسرائيل وضرب أعدائها على بعد ألفي كلم.

الحقيقة المرة أنّ شعب اليمن كشعب فلسطين، وكسائر الشعوب العربية، كانوا وما زالوا وقوداً للحروب، البعض جعل من دمائهم ساحة وغى إعلامية لتنفيذ مخططات إقليمية ودولية، ولتحسين كل طرف شروطه التفاوضية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق