أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 28، 2024

استخدام فاسد لأمثلة تاريخية

 

سواء للرد على من يتهمونهم بالتهور، أو للتخفيف من وطأة العدد الضحم جدا من الضحايا الفلسطينيين، أو لتبرير لجوئهم للحرب..  يكثر قادة حماس من استخدام مثال الجزائر وفيتنام، بذريعة أن هذه التضحيات هي الثمن الذي يتوجب دفعه لقاء النصر والحرية والتحرير..

على أية حال، سواء مثالي الجزائر وفيتنام، أو جميع الأمثلة الأخرى (كوبا، كاسترو، جيفارا، لوممبا..) جاءت في زمن الحرب الباردة، أي ضمن معطيات ووقائع وظرف سياسي ونظام دولي وتوازنات وموازين قوى مختلفة كليا عما هو عليه حال اليوم، ويمكن القول أنها لم تعد موجودة، وحلت مكانها عناصر ومعطيات أخرى مختلفة جذريا، أوجدت محددات جديدة ومختلفة أيضا لسياسات الدول وتدخلاتها وتحالفاتها، ولقدرة حركات التحرر على إحراز أهدافها.. وبالتالي فإن المقارنة من حيث المبدأ ستكون فاسدة، ما لم تأخذ كل تلك العناصر بالحسبان.

حتى نموذج انتصار المؤتمر الوطني الإفريقي وإنهائه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا جاء كحلقة أخيرة في مسلسل الحرب الباردة، ومثّل نهايتها، أو بعبارة أدق بسبب انتهائها.. وهذا العنصر يعد من أهم أسباب انتصار ثورة مانديلا..

بالنسبة لمثال الجزائر، في الواقع، القيمة الحقيقية له لا تكمن فقط في عدد الشهداء المهول (مليون شهيد)، بل والأهم في انتصار الثورة الجزائرية لحد ذاته، صحيح أن الفضل الأساسي لإحراز النصر كان بسبب تلك التضحيات الكبيرة، ولكن بالتأكيد ثمة أسباب أخرى للنصر؛ أبرزها الإدارة الجيدة والحكيمة للمعارك، وحسن الاستعداد والتخطيط، وتأمين الجبهة الداخلية، وانخراط عامة الشعب في الثورة، والاستفادة من الظرف السياسي الدولي (أي الحرب الباردة)، والاعتماد على الدعم الخارجي السياسي واللوجستي (تذكروا هذه العناصر جيدا).. والتي بدونها كان يتعذر تحقيق الانتصار.

فلو أن الثورة الجزائرية لم تحقق الانتصار، أو أصيبت بانتكاسة ما، ومع نفس العدد من الشهداء لصارت مثلاً يُضرب للدلالة على الفشل والتهور وسوء التخطيط.. وستكون المقولة الدارجة "مليون شهيد، راحوا هدرا".. فليست العبرة في أعداد الضحايا، لنتذكر مثلا أن شعوب الهنود الحمر خاضوا كفاحا مريرا على مدى عقود طويلة، وخسروا ملايين الأرواح، ولم تكن تنقصهم الشجاعة، ولا قيم المجد والحرية.. لكنهم خسروا وسُحقوا في النهاية.

فلا يشترط لثورة ما أو لشعب معين حتى ينتصر أن يكون على جانب الحق، وأن تكون قضيته عادلة، ولنا في القضية الكردية، والأرمنية، ومجاهدي خلق وغيرهم أمثلة واضحة.

ومن الأمثلة التي يُساء استخدامها "الثورة الفيتنامية"، والتي يتم اختزالها في مسألتين: أنها ثورة مسلحة، وأن قادتها كانوا يفاوضون العدو وهم تحت النار، وفي أوج المعارك.. وفي هذا الطرح مغالطات تاريخية عديدة، فمثلا "هوشي منه" وهو أبو الثورة الفيتنامية ورمزها ومؤسسها والذي لا يختلف أحد على وطنيته وحكمته وشجاعته، كان قد بدأ المفاوضات مع الأمريكان إبان الحرب العالمية الثانية، وقد تعاون مع الجيش الأمريكي واعتبره حليفا لهم (في الفترة ما بين 1941، وحتى 1945)، حيث التقى الطرفان آنذاك على مصلحة واحدة؛ وهي محاربة اليابانيين الذي احتلوا فيتنام، ولكنهم دعموا القوات الفرنسية التي كانت تسيطر على البلاد وتحالفوا معها.

ومرة ثانية تفاوض "هوشي منه" مع الأعداء، وهذه المرة كانت بعد تحقيقه النصر الحاسم على الفرنسيين في معركة "ديان بيان فو" الفاصلة سنة 1954، والتي انتهت بإعلان الفرنسيين استسلامهم لثوار "الفيت منه" وانسحابهم من شمال البلاد، فرغم تلك النتيجة العسكرية الحاسمة إلا أن مصير فيتنام ومستقبلها كانا بيد التوافق الدولي، حيث اجتمعت 11 دولة في جنيف (أمريكا، الاتحاد السوفييتي، فرنسا، بريطانيا، الصين.. وبالطبع الثوار الفيتناميين)، وكان أمام "هوشي منه" خياران: إما مواصلة الحرب حتى طرد الفرنسيين من كل فيتنام، أو القبول بالتسوية التي عرضها المجتمع الدولي عليه، والتي تمثلت بتقسيم البلاد إلى شطرين (شمالي وجنوبي).. وهو خيار صعب ومحرج، وقد توقع "هوشي منه" دعم حلفائه الأقربين (الصين والاتحاد السوفييتي) لكن الصين كانت قد خسرت في الحرب الكورية (التي انتهت قبل ذلك بسنتين) نحو مليون قتيل، وبالتالي ستكون غير راغبة بخوض حرب جديدة، أما الاتحاد السوفييتي فكان راغبا بتحسين علاقاته مع الغرب، وتخفيف حدة التوتر مع الولايات المتحدة، وفي النهاية ضغطوا على "هوشي منه" للموافقة على تقسيم البلاد، والذي لم يكن أمامه سوى القبول.

وثمة درس آخر من معركة "ديان بيان فو" الحاسمة؛ وهو أنها اعتمدت على العنصر الجماهيري، حيث اشترك نحو 250 ألف مدني أكثر من نصفهم نساء، في نقل المؤن والمعدات والأسلحة وقطع المدافع التي تم تفكيكها وإعادة تركيبها وتمويهها حول المنطقة التي تحصن فيها الجيش الفرنسي، والذي قال قائده آنذاك أنه يمتلك مدافع وأسلحة أكثر من اللازم، ولكنه بمجرد تلقيه الهزيمة انتحر.. وهذه ممارسة اختفت في الوقت الراهن، حين كان كل قائد يستشعر بمسؤوليته عن الهزيمة يستقيل أو ينتحر.

العنصر الآخر المتعلق بالنموذج الفيتنامي هو أن الثورة الفيتنامية لم تقتصر على السلاح، بل وأيضا على المقاومة السلمية، فبعد تقسيم البلاد (1955) وانسحاب الفرنسيين خضع الشطر الجنوبي منها ل"حكومة فيتنام الجنوبية" الموالية لأمريكا، وكانت حكومة فاسدة ودكتاتورية، وبسبب سياساتها القمعية اندلعت في البلاد موجة احتجاجات شعبية على خلفية قمعها للبوذيين (الذين يشكلون 70% من السكان)، فبدأ الرهبان بقيادة مظاهرات شعبية حاشدة ضد النظام، وفي كل مرة يقوم راهب بحرق نفسه أمام الجميع، ومع تكرار هذا الشكل الفريد من المقاومة السلمية كانت كراهية الشعب للنظام وسخطه عليه تترسخ أكثر فأكثر، وصولا إلى إسقاطه، مع استمرار التحاق الشبان بالثورة وانضمامهم لجبهة "الفيتكونج"، التي صارت جبهة جميع الشعب.

صحيح أن الفيتناميين خسروا نحو مليوني قتيل بين مدني وعسكري، بسبب شراسة ووحشية العدو، بيد أنهم كبدوا الفرنسيين نحو مائة ألف قتيل، وكبدوا الأمريكان 58 ألف قتيل، بالإضافة لنحو 250 ألف قتيل من الجيش الفيتنامي الجنوبي المدعوم من أمريكا. ما يدل على أن موازين القوى لم تكن مختلة بالكامل.

حين تأخذ مثالا تاريخيا افهمه بالكامل، ولا تجتزئ جانبا منه بما يتوافق مع أهدافك الأيديولوجية، على الأقل احتراما لعقول الناس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق