أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يونيو 16، 2024

حتى لا نقسوا على بعضنا


أتى العيد حزينا وكئيبا، وهذه ليست المرة الأولى، بالنسبة لي العيد مجرد يوم عطلة، حتى لو كان الأمن والسلام والرفاه يعم الكوكب، وما يعنيني فيه فقط فرحتي الصباحية حين أعيّد زوجتي وابنتي ولقاء العائلة، وفرحتي باتصالي بشقيقاتي وأهلي.. وهذا كل شيء، وطبعا هذا شأني الشخصي، وهو ليس معيارا للصواب والخطأ، ولا ألزم به أحدا.. فالعيد بالنسبة للآخرين يعني الكثير؛ ألعاب الأطفال، ومراجيحهم، وملابسهم الجديدة، وتذكر الغائبين، وصلة الرحم، ولمة العيلة، والكعك، وصلاة العيد..إلخ، وأهلنا في غزة حُرموا من كل هذه الأشياء، بل حُرموا طعم الحياة..

بدأ هذا الصيف بموجات حر شديدة، وبالرغم من توفر المراوح والمكيفات والآيس كريم إلا أننا نعاني وننزعج وبالكاد يطيق الفرد نفسه، فما بالك بمن يعيش في خيمة تتحول إلى فرن، بدون مراوح، ولا  حتى كهرباء، أو مياه باردة.. بين أكوام الردم والنفايات والحشرات من كل نوع، كيف سيكون حال أهلنا في غزة في ظل هذه الظروف غير الآدمية، والتي فوق طاقة البشر على التحمل!

تحاول بعض وسائل الإعلام (رؤيا مثلا) تجميل هذا الواقع البائس، من خلال التقاط مشاهد معينة تظهر مدى تكيف الناس مع ظروف الحرب القاهرة، والإيحاء بأن أهل غزة خارقون لقوانين الطبيعة، ولديهم قدرة فائقة على الصمود والتحدي! ولا أدري هل هذا يفيدهم بشئ؟ أم يزيد ويطيل من معاناتهم!

أقيم في مخيم جباليا حفل تزاوج جماعي، يعتقد البعض أن هذ العرس أغاظ العدو، وأظهر للعالم مدى تمسك الفلسطينيين بالحياة، وأنهم رغم قهرهم قادرون على الفرح.. ربما يكون هذا صحيحا، ولكني ما زلت أستغرب كيف يمكن لأي شخص أن يفكر بالزواج في ظل هذه الظروف؟ ليس لأن الزواج فكرة عظيمة ومقدسة وتستوجب توفر شروط مادية ونفسية واجتماعية معينة، أقلها توفر بيت للزوجية، بل استغرابي نابع من فكرة إنجاب طفل بين الردم وتحت القصف، في الوقت الذي يعجز أبواه عن توفير كاسة مي، أو وجبة طعام! فهل فكرة الزواج هي لإشباع غريزة جنسية؟ أم لمجرد الإنجاب؟ كيف سيتصرف الزوج إذا حان موعد الولادة، وليس هناك مستشفى أو عيادة أو طبيب؟ وماذا ستفعل الأم إذا لم تجد علبة حليب لرضيعها؟ وإذا نجا الطفل من كل احتمالات الموت، أين سيلعب؟ وأين سيكبر؟ وأي مدرسة سيدخل؟ وعشرات الأسئلة الأخرى التي تؤكد على مدى تخلف نظمنا الاجتماعية ونطرتها البدائية للزواج وتكوين عائلة. هذا مرعب.. ألم يكن ممكنا تأجيل الموضوع قليلا، ريثما تنقشع الغمّة؟ خاصة وأن العرسان في مقتبل العمر! على كل حال ألف مبروك.

وبمناسبة الحديث عن الأعراس، ونحن في موسم التكاثر، وسنشهد هذا الصيف أعراسا كثيرة، بالنسبة لي (وهذه وجهة نظر شخصية) لا بأس في إقامة الأفراح، لأن هذه سنة الحياة، ولكن، أخلاقياً على الأقل يتوجب مراعاة مشاعر المنكوبين في غزة، فلا داعي للسماعات والزفة ومظاهر الترف والفرح وكأننا في كوكب آخر، وما يجري في غزة لم يهز مشاعرنا، ولا يعنينا بشيء!  هذا ليس مرعبا وحسب، بل سقوط أخلاقي وإنساني.

وبمناسبة الحديث عن "سنن الحياة" واستمرارية الحياة الطبيعية، نرى في مدن الضفة (وخاصة رام الله) الكثير من مظاهر الحياة السعيدة، أو الاعتيادية على الأقل، وأنا لست ضد السعادة والفرح وديمومة الحياة، ولا أرى خطأً في ارتياد المطاعم والكافيهات، وحتى المسابح، فمن شبه المؤكد أن هؤلاء يشعرون في أعماقهم بكل مآسي غزة، ويتألمون لألمها، ويحزنون لحزنها، وهم أساسا مستهدفون، وتحت النيران، ويعانون من ويلات الاحتلال وتعسفه وقهره، فما من بيت تقريبا إلا وبه شهيد أو أسير أو عانى مباشرة من ظلم الاحتلال..

ولكن، من شبه المؤكد أيضا أن هناك فئة معينة (لا أعرف كم نسبتها) تعيش وهم المزرعة السعيدة، ومنفصلة عن الواقع، حتى أنهم لراحة بالهم لم يعودوا يسمعون نشرات الأخبار! يمارسون حياتهم بكل صخبها وترفها.. هؤلاء ليسوا رعبا وسقوطا أخلاقيا وحسب، هؤلاء عار الشعب الفلسطيني..

لنأتي إلى أهلنا خارج فلسطين، من فلسطينيين وعرب.. صار واضحا أكثر من أي وقت مضى الانقسام الحاد في الرأي بين أهلنا في غزة، ومن هم خارجها، فأهل غزة ينتظرون على أحر من الجمر انتهاء الحرب، ويتوقون لأي هدنة، وبأي ثمن، وهذا موقف طبيعي وإنساني.. أغلبية من هم في الخارج لا يريدون توقف الحرب، ولا أي تهدئة إلا بشروط "الانتصار".. طالما أن "تحريرها كلها قد بدأ"، وجيش الاحتلال خسر ثلث دباباته وآلياته، وستون ألف قتيل! والصراعات الداخلية ستؤدي إلى انهيار إسرائيل، والضغوطات الدولية والمظاهرات ستجبرها على إيقاق عدوانها.. فلنصبر قليلا فالنصر الإستراتيجي على الأبواب..

بعيدا عن المناكفات، أولا لا يجوز الطعن بوطنية أحد، ولا التشكيك بإنسانيته ودوافعه النبيلة، وثانيا: أن يقيم أحد في الخارج ويتنعم بالبيت والأمن والتكييف هذا لا يسلبه وطنيته، ولا يسلبه حقه في التعبير، وإن اختلفنا معهم في الرأي فهم بالتأكيد يحزنون ويتألمون لمصاب غزة، ويتوقون ليوم اندحار الاحتلال وهزيمة إسرائيل، ونيل الفلسطينيين حريتهم.. فحتى لو انقطعت عنهم الكهرباء، وفقدوا التكييف، وصاموا، وناموا في الخيام للتعبير عن تضامنهم مع غزة، فهذا كله لن يفيد أحد بشيء، ولن يوقف العدوان، ولن يقوي المقاومة، ولن يدعّم صمود أهل غزة..

ولكن، ثمة فئات معينة من هؤلاء لا يعرفون معنى التضامن الحقيقي، لا يشعرون حقيقةً بمأساة غزة، لا يعرفون معنى أهوال الحرب، لا تعنيهم معاناة الناس، بل إن بعضهم غير مستعد للتضحية بتخليه عن الكوكاكولا! وهذا طبيعي لأن الإنسان بطبعه أناني وغبي، أناني لأنه لا يتأثر إلا إذا اختبر التجربة بنفسه، وغبي لأنه لا يتعلم من تجارب الآخرين، ويجب أن يمر بنفسه بالتجربة..

يعتقدون أن الحرب مغامرة مثيرة، وشيء سهل يمكن العيش معه، هؤلاء لم يختبروا حربا في حياتهم، عاشوا آخر سبعين سنة متفرجين ومراقبين للحروب التي تشتعل حولهم، كانوا يتضامنون مع طرف ما بالشعارات والأدعية، ثم يتكسبون من نتائج تلك الحروب.. يصفقون للحرب طالما أنها بعيدة، وهم في مأمن منها..

وكما كتب جورج أورويل في روايته "1984": "كل التطبيل والدعايات للحرب، وكل الصراخ والكذب والكراهية، تأتي دائما من الناس الذين لن يذهبوا إلى الحرب".

هؤلاء ليسوا رعبا، ولا سقوط أخلاقي وحسب؛ هؤلاء عار على الإنسانية..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق