أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 05، 2022

تغيرات الإستراتيجية الأمريكية تجاه قضية فلسطين

  (1~2)

تنطلق فكرة المقالة من فرضيتين، الأولى: أن الإستراتيجية الأمريكية ليست معطى مطلق وثابت، بل هي مرنة وقابلة للتغيير، وفقا للمستجدات وتغير الظروف والمعطيات. والثانية: وجود فروقات جوهرية بين الحزبين الحاكمين للبيت الأبيض (الجمهوري والديمقراطي) سواء بشأن السياسات الداخلية، أم الخارجية، بما ذلك ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

بشكل عام، وفيما يتعلق باستراتيجية الولايات المتحدة تجاه القضايا الخارجية يمكن القول أنها ومنذ الحرب العالمية الأولى قامت على مبدأين، الأول: ترك الأطراف المتصارعة (بما في ذلك حلفائها) يخوضون صراعاتهم فيما بينهم (بتدخل خفي من بعيد) حتى يصلوا لمرحلة الرغبة بالخروج من هذا الصراع، والقبول بما تكون أمريكا قد أعدته لهم من حلول وتسويات تخدم مصالحها أولاً.

والثاني: إستراتيجية الغزو المباشر، من أجل تأمين وحماية مصالحها، كما حدث في فيتنام وأفغانستان ثم العراق. أي بالاعتماد على قواعدها العسكرية بشكل مباشر، وبأدوار قد تتجاوز أشكال التعاون التقليدية مع حليفتها الإستراتيجية "إسرائيل".

بالنسبة للقضية الفلسطينية، فقد تغيرت الإستراتيجية الأمريكية مرارا وتكرارا، أثناء الحرب الباردة، وبعدها، مع الحفاظ على جوهر الموقف، الذي ظل محكوما إلى محددات عامة، تنطلق من ثلاثة محاور أساسية، وهي: الالتزام الأمريكي بأمن إسرائيل وضمان تفوقها، واعتبار إسرائيل التجسيد الوحيد للديمقراطية في الشرق الأوسط، وتأثيرات اللوبي اليهودي في أمريكا والمسيحيين الصهيونيين..

كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل في 14 مايو 1948. ومنذ ذلك الحين، أصبحت اسرائيل، وما تزال، أهم شريك لأمريكا في الشرق الأوسط. ترتبطهما علاقات وثيقة، بالإضافة إلى المصالح المشتركة.

وفي الحقيقة، بدأ التحالف الوثيق بينهما بعد مؤتمر بالتيمور الذي عُقد في نيويورك سنة 1942، حين بدلت الحركة الصهيونية تحالفها من بريطانيا إلى أمريكا، وذلك على ضوء تداعيات الحرب العالمية الثانية، وفي كل الأحوال، ظلت إسرائيل عماد المشروع الغربي الإمبريالي، وركيزته الأساسية.

لكن السياسة الأمريكية الخارجية ظلت، ولعقود طويلة إبان الحرب الباردة تتسم بالاستقرار النسبي تجاه التفاعل مع ديناميكيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والأطروحات المختلفة تجاهها، فقد ظلت منحازة وبشكل تام لإسرائيل، ومتبنية للرواية الإسرائيلية، ومدافعة عن إسرائيل بشكل مطلق، خاصة في مجلس الأمن.

أما موقفها تجاه الفلسطينيين، فقد ظلت أمريكا وحتى نهاية الثمانينات لا تعترف بوجود الشعب الفلسطيني، ولا بحقوقه الوطنية، ولا تعترف بمنظمة التحرير. وبعد ذلك، بدأت السياسة الخارجية الأمريكية تتغير تدريجيا، وببطء شديد، لكنه تغير مهم، ويجب البناء عليه.

 كان ريغان أول رئيس أمريكي يقبل التعامل مع منظمة التحرير (على شكل مفاوضات مباشرة جرت في تونس مع السفير الأمريكي 1988)، وفي عهد كلينتون أُبرم اتفاق أوسلو، وكان كلينتون أول رئيس أمريكي يستقبل عرفات في البيت الأبيض، ويزور فلسطين، ويفتتح في غزة أول مطار فلسطيني، صحيح أنه رعى مفاوضات كامب ديفيد (تموز 2000)، إلا أنه حمّل الطرف الفلسطيني مسؤولية فشلها، وكان بوش الابن أول رئيس أمريكي يتحدث عن دولة فلسطينية.

أما أوباما، ورغم بداياته الواعدة، إلا أنه ترك الأمر للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون تدخل حقيقي منه، تاركا الأمر لإسرائيل للاستمرار في بناء المستوطنات، دون أي ضغوطات جدية، على الرغم من تمرير إدارته قرار مجلس الأمن بإدانة الاستيطان في أواخر أيام حكمه، وقد غادر البيت الأبيض دون تقديم تصور مقترح لحل الصراع الفلسطيني وإجبار الطرفين على القبول به، وأكتفى بإدارة الصراع بدلاً من العمل على حله.

في مرحلتي بوش وأوباما (2000~2016) بدأت الإستراتيجية الأمريكية تتفهم قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، ويُعد هذا تطورا بالغ الأهمية في الرؤية الأمريكية تجاه قضية فلسطين، بعد أن ظللت أمريكا ولفترة طويلة تتجاهل الحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني، وترفض حتى الاعتراف به كشعب له وجود، وترفض لقاء أيٍ من قياداته، وهو تغير مهم من ناحيتين: الأولى: موقف الولايات المتحدة من الاعتراف بالشعب الفلسطيني، وقد بدأ هذا التغير تحديدا بعد أن اضطرت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن تعقد دورة خاصة لها في جنيف للإستماع إلى ياسر عرفات، بعد أن رفضت أمريكا منحه تأشيرة دخول لأراضيها في ديسمبر 1988، فوجدت نفسها في موقف متناقض مع الأسرة الدولية برمتها. وبعد أن أعلنت القيادة الفلسطينية بوضوح موقفها الإيجابي من قرار 242 شرعت أمريكا بفتح حوار مع م.ت.ف عبر سفيرها في تونس، وقبل أن يسفر الحوار عن شيء نشبت حرب الخليج الأولى.

الناحية الثانية: موقفها من الدولة الفلسطينية الذي أعلنه بوش الإبن في خطابه أمام الأمم المتحدة بعيد غارة مانهاتن (2001)، وربما على ضوئها.

وفيما يتعلق بتمثيل الفلسطينيين والتعامل مع منظمة التحرير، سمحت الإدارة الأمريكية عام 1994 لمنظمة التحرير بأن تفتح مكتبا لها في واشنطن. وألغت قانونا ينص على أن الفلسطينيين لا يستطيعون الحصول على مكاتب تمثيل، باعتبار أن واشنطن لا تعترف بدولة فلسطين.

وفي ديسمبر 2002  قرر بوش خفض تمثيل مكتب المنظمة بحجة عدم احترام السلطة الفلسطينية لتعهداتهما. ولكن في عهد أوباما أعيد رفع مستوى تمثيل بعثة المنظمة إلى مستوى بروتوكولي أعلى من وضعها السابق. وسُمح برفع علم فلسطين فوق مبنى البعثة، وقد رأت القيادة الفلسطينية في ذلك خطوة إيجابية نحو اعتراف واشنطن بالدولة الفلسطينية المستقلة.

بالنسبة لقضية اللاجئين، فقد ظل الموقف الأمريكي غامضا، أو على الأقل غير متعارض مع القانون الدولي بشكل واضح، حتى عهد ترامب الذي مثَّل تغيرا جذريا عن الموقف الأمريكي التقليدي. فقد تبنت إدارته إستراتيجية تختلف عن مقاربات الإدارات السابقة، فقامت بقطع المساعدات عن السلطة وعن الأونروا، وأغلقت مكتب منظمة التحرير فى واشنطن، ونقلت مقر السفارة الأمريكية إلى القدس، وشرعنت الاستيطان ودعمت مشاريع الضم، واعترفت بضم الجولان؛ وتجاهلت كل القرارات الدولية، وعملت على تصفية ملف القضية، وبذلك يكون ترامب قد أنهى عملياً سياسة اتبعها أسلافه بتأجيل قضايا الحل النهائى إلى أن يتم التوصل إلى تسوية سلمية توافقية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. 

(2~2)

ومن البديهي أن تغير المواقف ينبع من تغير الإستراتيجيات، فمثلا في فترة حكم الجمهوريين (1988~1992)، كانت الإستراتيجية الأمريكية تقوم على إطفاء جميع بؤر التوتر والصراع في العالم، تمهيدا لخلق شرق أوسط آمن ومستقر، ليكون سوقا استهلاكيا عملاقا، لصناعات عملاقة بدأت تعاني من الركود، وفي هذا الصدد أوقفت أمريكا دباباتها على تخوم البصرة، ولم تسمح بانهيار نظام صدام حسين (حرب الخليج الأولى، 1991)، وكانت قبلها قد أنهت خمسة عشر عاما من الحرب الأهلية اللبنانية، وفرضت حلا سلميا لناميبيا، ولم تحاول منع انهيار نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وبعيد حرب الخليج الأولى ألقى بوش الأب خطاب آذار 1991 أمام الكونغروس، وأعلن فيه أن الجغرافيا وحدها لا يمكن أن تمنح الأمن لإسرائيل، وأن المنطقة مقبلة على تغيرات جديدة.  ثم شرعت إدارته في الاستعدادات لعملية السلام في مؤتمر مدريد.

إلا أن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في عهد بوش الابن (2000~2008) قد اختلفت هذه المرة، فبدلا من إطفاء بؤر التوتر جاء المحافظـون الجدد – الذين هم من أصول نفطية ومشبعين بثقافة الكاوبوي – بإستراتيجية شن الحروب واحتلال البلدان، والسوق الاستهلاكي العملاق أُستبدل بالحرب على الإرهاب..

في تلك الحقبة سعت أمريكا لترتيب أوراق المنطقة وبناء شرق أوسط جديد، فتورطت في حرب في أفغانستان، ثم في العراق، وبنت سياساتها الداخلية والخارجية تحت شعار مكافحة الإرهاب، ونشر الديمقراطية.

وفي خضم انشغالها بما أسمته الحرب على الإرهاب، كانت روسيا تستعيد عافيتها، وتسترد مكانتها في المنطقة والعالم، والصين تنهض كقوة عالمية اقتصاديا وتكنولوجيا، صارت تهدد أمريكا نفسها.. وقد تنبهت أمريكا لهذه الحالة، وفي عهد أوباما بدأت بتغيير إستراتيجيتها. ويمكن القول أن تلك التغيرات قد نضجت تحت تأثير عاملين:

الأول: إدراك أمريكي بأنّ زمن الحرب التقليدية قد انتهى، وأصبحت الحروب الجديدة بين الدول الكبرى تعتمد السيطرة على التجارة الدولية، والتأثير في الاقتصاد العالمي، والذكاء الاصطناعي، والجيل الجديد من الإنترنت، والأمن السيبراني، ومصادر الطاقة..

الثاني: إدراك أمريكي متأخر بفشل سياساتها الخارجية منذ انتهاء الحرب الباردة، أي فشل سياسة القوة والحروب الاستباقية واستبعاد الأطراف الدولية والإقليمية.. والتفكير بمسار جديد يعتمد الحوار والتفاوض والمؤتمرات الدولية، وهذا ما جاء حرفيا في تقرير لجنة بيكر / هاملتون، وهي لجنة مشتركة من الجمهوريين والديمقراطيين، أصدرت تقريرها في 2006.

وتأكيدا على هذا التوجه تمّ الإعلان عن "وثيقة مُعدّلة" لإستراتيجية الأمن القومي الأميركي (2021). أكدت على ضرورة إنهاء "الحروب المزمنة" التي تخوضها أميركا، والتي أصبحت عبئا عليها، ولم تعُد مفيدة لها. وبدلا منها يتوجب التركيز على ترميم الوضع الأميركي، داخلياً وخارجياً.

 المهم في التقرير أنه أقر بفشل السياسة الأميركية منذ انتهاء الحرب الباردة، واعترف بفشل سياسة القوة والحروب الاستباقية واستبعاد الأطراف الدولية والإقليمية، ودعا لمسار جديد يعتمد الحوار والتفاوض والمؤتمرات الدولية، معتبرا أن إقامة دولة فلسطينية شرطاً لتحقيق أهداف واشنطن، وأنّ حل الصراع العربي الاسرائيلي يشكل حجر الزاوية لحل الأزمة في الشرق الأوسط.

وفي عهد ترامب بدأت تتكشف معالم مرحلة جديدة في علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل على مختلف المستويات. إذ تبنى ترامب حينها دعما مطلقا لإسرائيل، ضمن سياسة تهدف إلى تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتطويع البلدان العربية بالكامل وإخضاعها لهيمنة إسرائيل، وتلك السياسات مثّلت انقلابا في السياسات الأمريكية التقليدية والتي دامت طوال الفترة التي سبقتها.

في عهد بايدن بدأت السياسة الخارجية الأمريكية تعود للموقف الأمريكي التقليدي، المتماهي مع الشرعية الدولية (حتى لو شكليا)، الرافض للاستيطان، وللإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب، فإعادت الدعم المالي للسلطة الوطنية، وأعادت فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، واعتماد مبدأ حل الدولتين كأساس للتسوية السياسة.. أي بمعنى آخر التحول عن صفقة القرن التي كانت بمجملها ضد الفلسطينيين، وبشكل سافر وغير مقبول بالمطلق، وإدارة الصراع في المرحلة القادمة بسياسات خارجية جديدة يمكن التعاطي معها.

ومن محددات هذا التغير أن الموقف الأمريكي التقليدي غير متحمس لفكرة الدولة اليهودية، ويرفض ضم الضفة الغربية، أو مناطق C. والسبب يعود إلى فهم أمريكي خاص لحل الصراع، قائم على ضرورة أن تظل إسرائيل بأغلبية يهودية، وهذا التصور مبني على توصية من المخابرات الأمريكية جاءت على إثر سقوط الشاه (1979)، ومفادها أن أمريكا لا يمكن لها الاعتماد، أو المراهنة على أي حليف في الشرق الأوسط، سوى إسرائيل، وأن إسرائيل يجب أن تظل بأغلبية يهودية، لضمان ولائها، وبالتالي فإن فكرة الضم، والإعلان عن دولة يهودية ستؤدي في نهاية المطاف لفقدان إسرائيل الأغلبية اليهودية.

واليوم بعد مرور نحو سنتين على رئاسة بايدن، يمكن القول أن بعض هذه التغيرات حصلت بالفعل، مثل إعادة دعم موازنة الأونروا، والحديث عن حل الدولتين كأساس للتسوية (إعلاميا)، ووقف الدعم المالي عن مشروع سلام إبراهيم، الذي فقد الكثير من زخمه، وبعض التغيرات تحدث في صورة بطيئة، أو على شكل وعود (لم تتحقق حتى الآن) مثل إعادة افتتاح القنصلية الأمريكية في القدس، أو إدانة سياسات الاستيطان والضم، وعلى ما يبدو فإن شهر العسل في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية قد انتهى.  

وفي هذا السياق ثمة نقطة مهمة يجدر الإشارة إليها، وهي أن إسرائيل (ومنذ نشأتها) تدرك أن ارتباطها بالمركز الإمبريالي مسألة مصيرية، وأنه لا يمكنها العيش دون حليف دولي، وهذا يجعل منها تابعة، لذلك، لم تتوقف عن محاولاتها للتمرد، وسعيها لتوسيع هامش استقلاليتها، وتقليص اعتمادها على المركز الإمبريالي، أو التفكير بحليف دولي احتياطي.

وخلاصة القول أنّ أيٍ من رؤساء الولايات المتحدة لم يخرج عن إلتزامه بضمان أمن إسرائيل، وغض الطرف عن قضمها المزيد من الأراضي الفلسطينية، وأنّ أي تسوية سياسية ستكون لصالح إسرائيل، وإذا فشلت تحمّل المسؤولية للجانب الفلسطيني بعدم تقديمه التنازلات من أجل تحقيقِ السلام.

صحيح أن إدارة بايدن تبدو مختلفة نسبيا، ولكن من غير الصائب المراهنة على موقف أمريكي إيجابي وقوي يجبر إسرائيل على القبول بالحقوق الفلسطينية وإنهاء الاحتلال.. فهذه مسألة دونها خرط القتاد.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق