أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مايو 25، 2022

عن زوال إسرائيل – النبوءة

 النبوءة (1-4)

لا توجد دولة مؤبدة، ولا حضارة مخلدة، وهذه أبسط بديهيات التاريخ.. دولٌ كبرى، وحضارات عظيمة، وأنظمة مدججة بالسلاح والأمن.. كلها ظهرت وعاشت لفترة ثم توارت خلف خطوط النسيان.. لم تستثنِ هذه الحقيقة أحداً، مرت على الجميع بلا رحمة: زعامات، إمبراطوريات، أيديولوجيات، ديانات، حكومات، أحزاب.. لم يبقَ منهم سوى أطلال خربة وأرشيف منسي..

من الطبيعي والحتمي أن إسرائيل ستزول في يوم من الأيام، فهي ليست استثناء في حركة التاريخ، بل إنها تمتاز بخصائص وسمات وتعاني من أزمات مستعصية تجعل زوالها أمرا مؤكدا، وقطعيا، وحقيقة لا يتسرب إليها الشك.. بل وتجعل انهيارها دراماتيكيا بأسرع مما يتصور الكثيرون.. 

لكن كلامي عن تلك النهاية المتوقعة لا علاقة له بأي نبوءة، وليس مبنيا على أي تصور غيبي، أو ما يسمى إعجاز رقمي، وغير ذلك مما أعتبره خرافات وأوهام.. وهو أيضا ليس تفكيرا بالتمني، ولا هو تحليل رغائبي، بل هو (بقدر ما أحاول) مبني على فهم مادي لحركة التاريخ، وفهم سيسيولوجيا المجتمعات، وربطها بفهم طبيعة المجتمع والدولة الإسرائيلية، وفهم طبيعة الحركة الصهيونية وأزماتها، وعلاقتها بالمراكز الإمبريالية، وبالمشروع الاستعماري ككل، ومكانتها من النظام الدولي، والمعادلات السياسية للمنطقة والإقليم بشكل عام.. وبالاستعانة بأمثلة حية من التاريخ، بما في ذلك تاريخ الجماعات اليهودية..

ومع أن بعض قادة إسرائيل تحدثوا وبشيء من الخوف عن تلك النهاية المحتمة، إلا أن حديثهم يمكن فهمه في إطار التحذير مما هو قادم، والتنبيه للسياسات الخاطئة والمتهورة التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة (تصريح موفاز)، أو لتخويف المجتمع الداخلي (وهذا دأب الإعلام الإسرائيلي)، أو لأغراض شخصية لها علاقة بالبقاء في السلطة (تصريح نتنياهو)، وفي كل الأحوال لا تؤخذ أقوالهم على محمل الجد (فيما يتعلق باستشراف المستقبل)، وإنما تأتي في سياق الاستدلال من ناحية، ولقراءة العقل الإسرائيلي من ناحية ثانية.

فمثلا، أعرب "نتنياهو" عن مخاوفه من زوال إسرائيل خلال السنوات القادمة؛ باعتبار أن مملكة "الحشمونائيم" عاشت نحو 80 سنة، وإنه يعمل لضمان اجتياز إسرائيل هذه المدة والوصول بها إلى مئة عام. وهو هنا إنما يروج لانتخابه، بدعاية غيبية وبوصفه منقذ إسرائيل! وأنه الوحيد المؤهل لهذه المهمة، رابطا مصير الدولة بمصيره الشخصي (لا يختلف كثيرا عن منطق "الأسد أو بنحرق البلد").

كما أبدى "باراك" مخاوفه من زوال إسرائيل مع حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدا في ذلك بـ"التاريخ اليهودي الذي يفصح بأنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة".

وربما تأثر "باراك"، ومن يروجون لهذه الفكرة، بما يسمى "لعنة العقد الثامن"، حيث يقول البعض أن هذه اللعنة أصابت أميركا، حيث نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن من عمرها، وأن إيطاليا تحولت إلى الفاشية في عقدها الثامن، وكذلك ألمانيا تحولت إلى النازية في عقدها الثامن، وأن الاتحاد السوفياتي تفكك في عقده الثامن.. وهذه كلها معلومات غير دقيقة، وغير تاريخية، ومبنية على توليفة تعشق الأرقام.

وبناء على هذه النبوءة/اللعنة ستنتهي إسرائيل عام 2028، وهذه السنوات الست المتبقية تعطي هامش خطأ "مقبول" لمروجي نبوءة زوال إسرائيل عام 2022، أي لا بأس من لي ذراع الحقيقة، علما أن صاحب النبوءة قال صراحة إن إسرائيل ستنتهي في حزيران 2022. وبالتالي من يعتاشون على الأمل "الوهم" سيجددون هذا الأمل ست سنوات إضافية، بمعنى آخر مزيدا من التخدير والتضليل والعيش في الأوهام.

وهناك تصريح منسوب إلى "كيسنجر" نشرته "نيويورك بوست" في أكتوبر 2012، قال فيه: "بعد عشر سنوات لن تكون هناك إسرائيل"، وها قد انتهت السنوات العشر، وما زالت إسرائيل جاثمة فوق صدور العالم.

عموما ما يسمى لعنة العقد الثامن، من وجهة نظر يهودية، قائمة على فكرة أن المملكة الأولى، المسماة المملكة الموحدة (سليمان وداود) والتي حسب الرواية التوراتية جمعت كل أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، دام عمرها 76 عاماً، وانهارت بموت سليمان وانقسامها إلى مملكتي يهوذا والسامرة.. وأن المملكة الثانية (مملكة الحشمونائيم) عاشت 77 سنة.

لن أضيع وقت القارئ بالحديث عما يسمى "المملكة الموحدة" التي انتهت في عقدها الثامن.. لأن هذه المملكة لم توجد أصلاً، وهي وحسب إجماع المؤرخين الرصينين عبارة عن شبح وأوهام، ومجرد أخيولة شعبية، روجت لها الصهيونية بالاستناد إلى رواية توراتية أسطورية متهافتة..

أما ما هو جدير بالنقاش فهو ما يسمى مملكة الحشمونائيم، وهي دويلة يهودية كانت موجودة في فلسطين، وانتهت بسيطرة الرومان على البلاد، وقد دام عمرها نحو ثمانية عقود. ولكن، ليس للرقم أي دلالة إعجازية، وإذا أردنا التوصل للحقيقة، فيتوجب فهم وتحليل أسباب وعوامل تفكك تلك الدويلة، ولكن بمنهج علمي تاريخي.

حيث يخبرنا التاريخ أن جميع الممالك والدول والإمبراطوريات والنظم السياسية انتهت بسبب عوامل داخلية، أي نتيجة الضعف، والتفكك، والصراع الداخلي، وفساد السلطة الحاكمة، وترهل وتكلس مؤسسات الدولة، وأحيانا بسبب الحروب الأهلية، والصراع على السلطة، أو على هوية الدولة والمجتمع.. وحتى الدول التي انهارت بسبب غزو خارجي حصل ذلك بعد أن كانت قد وصلت مرحلة الضعف والتفكك والتصدعات، فيأتي الغازي ليكمل عليها. ولكن لو كانت الدولة متنية ومنيعة، يصعب هدمها، أو احتلالها.. لذا اعتاد الغزاة على استهداف القلاع الداخلية، لتنهار من الداخل، فتسهل مهمتهم..

وما حصل أن دويلة الحشمونائيم، لم تكن دولة مستقلة بالمعنى الحقيقي، بل كانت محمية تابعة للمستعمر، إضافة إلى تفاقم الصراع الداخلي بين تيارات الأسينيين والفريسيين والصدوقيين وصراعهم على السلطة، وتسابقهم على التحالف مع المستعمر (اليوناني والروماني)، وصراعهم على هوية المجتمع بين الفريسيين (العلمانيين) والصدوقيين (المتدينين)، وعلى تعريف اليهودية واحتكار التوراة، وتنازع الصلاحيات مع السنهدرين (المؤسسة الدينية).. إضافة لعلاقة الكهنة الهشة بالأرض والمكان، بدليل تفضيلهم الدين على البلاد، فغادروها طوعا.. وهذا ما سنوضحه في المقال القادم.

والمفارقة أن المشهد الإسرائيلي الحالي لا يختلف كثيرا عن المشهد السابق، فهناك صراع على هوية الدولة والمجتمع بين العلمانيين والحريديم، وبين المتدينين أنفسهم، وبين المجتمع والجيش والمستوطنين، بالإضافة إلى عوامل تفكك أخرى سنشير إليها لاحقا.

 مملكة الحشمونائيم (2-4)

بعد أن تصدرت مملكة الحشمونائيم الواجهة الإعلامية من جديد، صار ضروريا أن نفهمها، وندرس أسباب انهيارها، وهذا يتطلب الرجوع قليلا في الزمن، وتحديدا إلى بدايات تشكل وظهور الديانة اليهودية في حقبة الاحتلال الفارسي للبلاد. حيث عاش اليهود في منطقة أورشليم طوال تلك الفترة متمتعين بما يشبه الحكم الذاتي كإقليم موالٍ وتابع للإمبراطورية، وبعد احتلال المنطقة على يد الإسكندر المكدوني، الذي مات سريعا، وبموته انقسمت إمبراطوريته إلى أربع أقسام، كانت فلسطين حصة بطليموس، والتي بدأت في عهده تتحول نحو الهلنستية.

وقد بقيت فلسطين خاضعة للبطالسة (من 300 ق.م ~ 152 ق.م)، الذين طبقوا نفس المبدأ الذي اتبعته الإمبراطورية الفارسية، القائم على منح الأقاليم الخاضعة نوعاً من الاستقلال الذاتي، باعتبار أن هذا أفضل سبيل للسيطرة على شعوبها. وبذلك منحوا اليهود وضعا خاصا في أورشليم.

في تلك الحقبة تطورت المدن الفلسطينية، فتدفق السكان الأصليين إليها، للاستفادة من نموها الاقتصادي ومن ميزات الثقافة الهلنستية، وقد انتشرت حينها اللغة اليونانية. وهذا النمط الجديد من الحياة أدى إلى تبلور اتجاهات عديدة من داخل المؤسسة الدينية اليهودية، فظهر تيار يرفض كل أشكال الاتصال مع الحضارة اليونانية، عبّر عنه "الإسينيّين" الذين عاشوا في عزلة عن بقية السكان، كما برز تيار يدعو لممارسة الحياة العصرية الجديدة، مع الحفاظ على حد معين من الخصوصية، وقد عبر عنه "الفريسيون" الذين حاولوا المزاوجة بين الديانة اليهودية وبين اليونانية العصرية (الوثنية)، وقد أنشأ هؤلاء الفريسيون مدارس دينية في العديد من البلدات.

ظهور الفريسيين ونشرهم للتوراة لم يعجب طبقة الكهنة الذين عارضوا بشدة مواقفهم، واعتبروها خطرا على مواقعهم وامتيازاتهم، فلم يعترفوا بالتوراة المنقولة الشفوية، وكانت تلك بداية ظهور حركة "الصدوقيين". وهم تيار ديني متشدد تحالف مع السلطة السلوقية ضد الفريسيين، مما استوجب منهم تقديم بعض التنازلات الدينية للسلطة، والموافقة على دمج بعض الجوانب من اليهودية بالثقافة الهيلينية، كما ازداد تقـرب كهنتهم من السلطات السلوقية، إلى درجة أن بعضهم غير اسمه اليهودي إلى اسم يوناني.

وفي هذا يقول "شلومو ساند": "ساهم التعايش بين اليهودية والهيلينية في تحويل العقيدة اليهودية إلى دين ديناميكي مهوَّد، ولولا هذا التعايش لظل عدد اليهود عند هذا الحد الضئيل، ولكان عددهم اليوم كعدد السامريين؛ فالهيلينية غيّرت وأثرت في الثقافة الدينية اليهودية".

وفي نهاية العهد السلوقي انطلق تمرد قام به كاهن يدعى "متتياهو الحشمونائي" وأبناؤه "المكابيون"، وقد أيد هذا التمرد كل من روما وإسبرطة، وبعد مقتله تولى القيادة أخوه "يوناثان"، الذي تصالح مع السلوقيين ووطد علاقاته بهم، فـدخل القدس عام 152 ق.م ككاهن أعلى وحاكم باسم السلوقيين، وقد حكمت أسرته من بعده حتى مجيء الرومان عام 63 ق.م. وهي ما تُعرف بمملكة الحوشمانئيم، التي دامت 89 عاما.

تصرَّفَ حكام الحوشمانئيم كملوك محليين، ضمن المملكة اليونانية، وليس ككهنة أو زعماء دينيين، وكان واضحا أن واجبات الملك تتطلب مراعاة التزاماته السياسية تجاه القوى المسيطرة. ولكي تحافظ على بقائها كان على الكيان اليهودي أن يستوعب مظاهر الثقافة الهيلينية، لذلك ألغى الحشمونائيم النظام الديني، واقتصرت وظيفة الكاهن الأكبر ضمن مجال المؤسسة الدينية، التي بقيت تحت سيطرة السلطة العلمانية السلوقية، وقد تميز عهد الحشمونائييم بالصراعات الأيديولوجية الداخلية العنيفة، وقد كان الفريسييون والكهنة يتبادلون التحالف مع الملك على أساس المصلحة السياسية / الاقتصادية، فحاول الفريسيون إدخال عناصر من الثقافة الهيلينية على تفسيرات التوراة، فيما حاول الكهنة دمج التوراة في الثقافة الهيلينية، وقد سقط ضحية هذه الصراعات آلاف الضحايا.

وفي نهاية العهد الحشمونائي، وبدعم من الرومان، الذين لقوا من اليهود دعما لهم ضد اليونان، نصّب الرومان أسـرة يهودية جديدة لمساعـدتهم في حـكم فلسـطين، بدلا من المكابين (الحشمونائيم)، فحكم المنطقة ملوك تابعون لروما عرفوا بِ"الهرادسة".

وقد اصطدم "هيرودوس" مع رجال الدين اليهود فقام بإعدام كل رجال الكنيس الذي حاولوا التدخل في شؤونه السياسية وعددهم 46 كاهنا، واستبدلهم بكهنة مواليين جلبهم من بابل والإسكندرية، ليتولوا المسؤوليات في الهيكل، وفي الواقع فإن "هيرودوس" فصل السياسة عن الدين، وأبقى لنفسه لقب الملك فقط.

في هذه الفترة كان اليهود بلا كيان سياسي ولا حكم ذاتي، وقد نشبت بينهم خلافات حادة حول الشؤون الدينية، فقد تصارع الفريسيون والصدوقيون والأسينيون فيما بينهم بلا هوادة.

 وما لبث اليهود أن أشعلوا ولأسباب دينية فتيل التمرد عام 66 ~ 70 م أثناء حكم "نيرون"، فقضى على هذا التمرد القائد الروماني "فسبسيان"، وبعد استلامه عرش روما أكمل قائده "تيطوس" إحكام قبضته على فلسطين عام 70 م.

ويؤكد العديد من المؤرخين أن قصة نفي اليهود من فلسطين على يد "تيطوس"، وتشتيتهم في ربوع الأرض بالقوة لم تكن حدثا تاريخيا، بل كانت أسطورة ابتدعها محررو الرواية اليهودية؛ نظرا لحاجتهم القومية الماسة لمنفى قسري، وتكمن أهمية "المنفى القسري" كحاجة لفهم التاريخ اليهودي من زاوية تراجيدية، ولتبرير عدم مسارعة اليهود في العودة إلى "وطنهم المزعوم"، فاليهود يطالبون دوما الآخرين بالنظر إليهم كشعب مميز، لا يشبه بقية الشعوب.

ولم يعثر أي منقب في السجلات الرومانية الغنية بالتوثيق ولا حتى إشارة واحدة إلى حدوث أي عملية نفي أو طرد من أرض فلسطين، التي كانت تحت حكمهم آنذاك.كما أن مسألة تهجير آلاف اليهود ظلت تثير سؤالا لم يجد حلا بعد: كيف خرجت هذه الأعداد الكبيرة دون أن تترك خلفها أثرا؟ فلم تدل الشواهد التاريخية على أي سلطة أو مملكة أو حتى قرية يهودية واحدة في المناطق التي هُجروا إليها.

خلاصة القول أن دويلة الحوشمانئيم (وكذلك دويلة الهرادسة) كانت سلطة شبه علمانية، تابعة وخاضعة للدولة المستعمرة (اليونان والرومان)، وكانت المؤسسة الدينية ممثلة بمجمع السنهندرين فقط، وهاتين الدوليتين تفككتا من الداخل بسبب الصراعات الدينية الداخلية، وانتهتا بمغادرة طبقة الكهنة البلاد، طوعا، بعد قمع الرومان لتمردهم، ومن بعدها دخل اليهود فترة التيه والذوبان في المجتمعات التي حلوا فيها، وانقطعت أخبارهم، ولم يعد لهم تواصل ولا تربطهم أواصر موضوعية سوى إيمانهم الديني، كجماعات متفرقة تعيش في أوطانها الجديدة، إلى أن تم بعثهم بعد 1500 سنة من النسيان، لأغراض سياسية استعمارية، بخرافة الشعب المختار والأرض الموعودة.

 عوامل التفكك (3-4)

تاريخيا، لم يُعـرَّف  اليهود كعـرق، ولا كشـعب، ولا كقومية، وقد عاشوا  كجماعات يهودية متفرقة في البلدان التي سكنوها، يتكلّـمون لغـة البلد نفسـها. وظل الأمر كذلك حتى القـرن التاسـع عشـر، عندئـذ وقـع الشـرخ الـذي لم يكـف عـن الاتساع مـع الزمـن. وقـع أولا بـين الهوية اليهوديـة والديانة اليهوديـة، ثم بين اليهود أنفسهم.. والصحيـح، أن حفنـة فقـط مـن اليهـود المندمجين في أوروبا الوسـطى هـم الذيـن اخترعوا القوميـة اليهوديـة في النصـف الثاني مـن القـرن التاسـع عشـر، وبالتالي فإن الصهيونية التي زعمت أنها أتت لتمثيل اليهود، وحل مشكلتهم، هي في الواقع مزقتهم فرقا وشيعا وطوائف (رابكن).

ومنذ البداية لم تفلح الصهيونية في تحديد شكل واضح ومحدد لهويتها، فظلت تتأرجح بين الديني والقومي والعلماني، لذلك مع ولادتها وُلدت أزماتها العميقة؛ فاليهود أنفسهم أول من رفضها، وقد ظل التيار اليهودي الأرثوذوكسي معارضا للصهيونية، حتى اليوم، وبدرجات وصور متباينة..

وبعد قيام إسرائيل تفاقمت تلك الأزمة، فمن تجلياتها مثلا، ما نراه من تصدع ديني داخل المجتمع اليهودي نفسه، ليس فقط ما يتعلق بدرجة التدين، بل وأيضا في تعريف اليهودي واليهودية، ومن يقرر بذلك؛ فبسبب التفاوت الكبير في درجة التدين وشكله بين اليهود الشرقيين (السفارديم) والغربيين (الأشكناز)، تعزز التصدع الإثني بين الطائفتين، حتى أن تعريف الهوية الأشكنازية والسيفاردية صار على أساس مذهبي. إلى جانب التصدعات بين المتدينين الصهاينة والمتدينين غير الصهاينة، وبين اليهود الروس والفلاشا وغيرها من الجماعات ذات الخلفيات المتباينة.

ويمتد هذا التصدع، وبصورة أعمق بين الحريديم والعلمانيين، علما بأنه ليس هناك فصل واضح بين الدين والدولة في إسرائيل، فكثير من مظاهر ورموز الدولة هي ذات مصدر ديني.

إلى جانب التناقضات بين المهاجرين اليهود من أصول مختلفة، والتوترات والتصدعات الطبقية الناشئة ما بين الشرائح السكانية، ذات الصلة بالتطورات الديمغرافية والتغيرات الاقتصادية والفجوات الاجتماعية. وأيضا التناقضات السياسية الأيديولوجية بين تيار حزب العمل ومن يدور في فلكه، وبين اليمين الإسرائيلي الذي يسعى للسيطرة الكاملة على الدولة، فضلا عن الصراع القومي الأهم بين اليهود وسكان البلاد الأصليين، وهذا النوع من الصراع يخلق إشكالية كبيرة في تعريف "الإسرائيلي"، و"الأمة الإسرائيلية"، وتحديد حقوق المواطنة.

هذا كله أدى إلى المظهر الثاني من الأزمة: عجز إسرائيل عن تعريف نفسها على نحو يخلو من التناقض، فهي تريد قسرا، وخلافا لقانون الطبيعة أن تجمع بين المتناقضات؛ أي بتعريف نفسها دولة يهودية/ قومية/ علمانية/ ديمقراطية!

وهذا يعود لأن الصهيونية سعت بدايةً للدمج بين الجوهر الديني، والدعوة ذات المنزع القومي، والمظهر العلماني وصهرها معا في إطار دولة، وخلق أمة؛ وهذا يتنافى مع تعريف الأمة.

وهذه الأزمة نابعة أساسا من كون إسرائيل لم تتشكل بناء على تطور اجتماعي طبيعي، بل تشكلت من مجتمع هجين متعدد الأعراق والثقافات، تم تأسيسها في إطار مشروع إمبريالي عالمي، أسند إليها دور وظيفي محدد، وهذا الدور فرغها إلى حد كبير من محتواها الإنساني.

اليوم، تتعمق الأزمة الصهيونية بصورة أخرى، فهي تتلقى النقد من الأرثوذوكسية اليهودية غير المتصهينة، التي لا ترى في الصهيونية، ولا في إسرائيل أي شكل من الخلاص، بل تراهما عائقين أمام الخلاص الحقيقي، المتمثل بعودة المسيا. وكذلك النقد من اليمين الديني الصهيوني، المؤمن بفكرة الخلاص، الذي بات يتساءل عن أي خلاص تسعى إليه الصهيونية، بعد أن قامت دولة إسرائيل، وصارت متاحة ليهود العالم ليأتوا إليها!

وقد تزايد النقد لمشروعية الصهيونية، ومبررات استمرارها باعتبار أن الصهيونية قد حققت هدفها الرئيس، وهو إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وبهذا تكون قد أدركت غايتها ووصلت إلى نهايتها،  ولم يعد مبررا ادعاؤها بإنقاذ يهود العالم، فالجماعات اليهودية في مختلف الدول لا تتعرض الآن لأي نوع من الاضطهاد، كما أنها فشلت في تجميع وتمثيل يهود العالم، وبالتالي حان الوقت للنظر والتفكير فيما بعد الصهيونية..

ومن جهة ثانية، تتعرض الصهيونية لنقد التيار اليساري (رغم ضعفه وخفوت صوته) الذي يرفض ممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، ويرى أنها تسيء لصورة إسرائيل "الديمقراطية". فما يخشاه "اليسار الإسرائيلي" العلماني، تغول اليمين الديني، وتحول إسرائيل إلى دولة شرقية، مثل محيطها، أي دولة تعيش على الهوية الدينية والأساطير التاريخية وجبروت القوة وهوس الأمن، خارج نسق الحداثة والعولمة والتاريخ الجديد، وبشكل يعادي القانون الدولي، وحقوق الإنسان، ويتناقض مع عولمة القيم، وإنسانية العصر.

وهذا ما حذر منه "شاحر إيلان" بقوله: "من الناحيتين الاقتصادية والأمنية، يتحمل المجتمع الإسرائيلي على كاهله عبء الحريديم. كان هذا صعبا في الثمانينيات.. لكن لم يعد محتملا الآن.. من شأن هذا الواقع أن يهدم المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين بعد عشرين سنة، ويحوّل إسرائيل إلى دولة عالم ثالث.. وأن يفضي إلى تقسيم الدولة، أو إلى حرب أهلية. حدث هذا لدى آخرين، وقد يحدث عندنا.. الحل لا أن يكف الحريديم عن أن يكونوا متدينين متزمتين.. بل أن يبدأوا العمل والخدمة في الجيش، وأن يندمجوا في المجتمع العام". وطبعا هذا لن يحدث أبدا، وسيظل المتدينين والمستوطنين عبئا على المجتمع والدولة.

ومع الإقرار بمحدودية تأثير هذا التيار، واقتصاره على النخب، إلا أن واقع الأمر يحتم تعمق الأزمة على مديات أوسع، خاصة في ظل تعثر التسوية وانسداد الأفق السياسي، وهذا سيقود إلى جدل أوسع عن احتمالات تطور الصراع، وإمكانية قيام دولة واحدة بعد ضم إسرائيل للضفة الغربية. هذا الخيار سيؤدي بالضرورة إلى عواقب مختلفة، أهمها فقدان الدولة طبيعتها اليهودية، وتحولها إلى دولة ثنائية "القومية"، وانتهاء مشروع الدولة اليهودية التي تشكل حجر الزاوية في الفكر الصهيوني.

هذا ما لن يقبل به المجتمع الصهيوني، ولا القوى السياسية الممثلة في المؤسسة الحاكمة. الخيار هنا تحول إسرائيل إلى "جنوب أفريقيا" ثانية، أي دولة عنصرية "أبارتهايد"، دون أن نغفل حقيقة أن الكيان الصهيوني في جوهره عنصري لأنه قائم على "دولة لليهود/ دولة يهودية".

الخيار الآخر المتوقع، والمستبعد في الوقت نفسه، هو تحول اليهود إلى أقلية، انطلاقًا من حقيقة فشل مشروع "الأسرلة" والتهويد الذين حاولت إسرائيل فرضهما على الفلسطينيين منذ سبعة عقود.

عوامل التفكك (4-4)

منذ العام 1977 واليمين الديني والقومي في صعود مستمر، وهو اليوم يوشك على الاستيلاء على إسرائيل وتحويلها إلى دولة دينية ثيوقراطية، وهدم ما بنته الصهيونية العلمانية، وفضح الصورة التي حرصت على إظهارها بقالب ديمقراطي حداثي. وبالتالي ستفقد إسرائيل سمعتها، ومبرر دعمها، وتلك ابرز أركان قوتها.

وعلى الصعيد الداخلي، وبعد صعود اليمين للسلطة، بدأت إسرائيل تتحول نحو النيوليبرالية، ما أدى إلى حدوث منعطف كبير في الاقتصاد الإسرائيلي، عنوانه سقوط "دولة الرفاه"، والتحول إلى نمط الاقتصاد النيوليبرالي. حيث أخذت الحكومة تخفّض الإنفاق الحكومي في المجال العام والخدماتي، وتخصخص القطاعات الحكومية، ما أدى إلى إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء، وتعميق الفجوات بين الطبقات. "دولة الرفاه" كانت ضرورية في بدايات نشوء الدولة، لتعزيز علاقة المهاجرين الجدد بالأرض، وتعميق انتمائهم للدولة.. في ظل النيوليبرالية سيهتز هذا الانتماء، وسيتحول إلى نقمة على الدولة. مع أن الحكومات اليمنية عملت على تعويض دولة الرفاه بدولة الاستيطان، إلا أن هذا أحد أهم عناوين أزمتها، والتي ستتعمق مع تغول الاستيطان، واستقوائه على الدولة وعلى الجيش، وتحوله إلى ميليشيات غير منضبطة، ستتحول إلى دولة داخل الدولة، وستكون عامل انقسام، وفتيل حرب أهلية.

حاليا، إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي يتعرض وجودها وبقائها لتحديات خطيرة، وهي الدولة الوحيدة التي لا يعترف العالم بعاصمتها (باستثناء أميركا ودول قليلة جدا)، وهي الدولة التي تتم مقارنتها بالفاشية، والتي يوصم قادتها بالنازيين، وقد سبق أن اعتبرت الجمعية العامة أن الحركة الصهيونية شكلا من العنصرية، وهي التي تتم مقارنتها بجنوب أفريقيا العنصرية، ووصفها بأنها نظام أبارتهايد، وتتعرض دوما لانتقادات منظمات حقوق الإنسان، وطالما أصدرت الأمم المتحدة قرارات تندد بسياساتها وجرائمها ضد الفلسطينيين.. وهناك العديد من المؤشرات التي تؤكد أن إسرائيل لم تعد تتمتع بتلك السمعة التي حظيت بها لسنوات طويلة، من حيث كونها الدولة المستضعفة المحاطة بالأعداء، أو أنها الديمقراطية الوحيدة..

لن يكون بوسع إسرائيل أن تكون دولة يهودية/ دينية، وعلمانية/ ديمقراطية في الوقت ذاته. ولا دولة قومية عصرية، ودولة أبارتهايد.. ولا تستطيع أن تكون دولة احتلال وضم واستيطان وتهويد، ودولة سلام في آن معاً.. ودولة تقول إنها تريد التطبيع مع العرب، ونصفها يهتف «الموت للعرب».. ودولة تدعي التسامح والحريات الدينية وتمنع وصول الفلسطينيين إلى القدس، وفي مسيراتها الشعبوية تشتم نبي الإسلام ونبيّ المسيحية.. ولا تستطيع الاستمرار في خداع العالم والإقليم وفي خداع نفسها.. وقد وصلت الأزمة إلى وضع لم يعد بمقدور إسرائيل أن تتقدم إلى الأمام (إلّا بشكل طفيف ومؤقت) وصار من المتعذر عليها التعايش بهذا الخليط أكثر مما تعايشت حتى الآن. (عبد المجيد سويلم).

وبعد اعتماد قانون القومية اليهودية، توضحت الصورة بما لا يدع مجالا للتأويل. وبالتالي يستطيع العالم تقييم النظام الإسرائيلي بالاستناد لهذا القانون كنظام أبارتهايد. ومع تزايد وتوضح الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، وتعديها على القانون الدولي، لم يعد بمقدور الغرب تحملها أكثر، رغم انحيازه الكامل لها الآن، إلا أن هذا لن يدوم، خاصة مع يقظة شعوب العالم، وبسبب عولمة الميديا.

إسرائيل لن تستمر للأبد؛ فهي غريبة عن المنطقة،  ومتعالية عليها، وجميع الشعوب من حولها ترفضها (أو على الأقل ترفض سياساتها العدوانية)، وهي تعيش في منطقة مضطربة، دائمة التغييرات العميقة والجذرية، فإذا كانت أغلب تلك المتغيرات في العقود السابقة أتت لصالح إسرائيل، فهذا لا يعني استمرارها كذلك وإلى الأبد. ومن المحتمل، أو شبه المؤكد أن تأتي تلك المتغيرات في غير صالحها. فإذا كانت تراهن على ضعف وتفكك العالم العربي، وتخلف مجتمعاته، وعلى التطبيع.. فهذا الوضع لا بد أن يتغير.

إسرائيل تمثل آخر احتلال في العالم، وهي بذلك في عكس مسار حركة الاستعمار الذي أتى بها، فالحقبة الاستعمارية برمتها انقضت، وصارا عارا في التاريخ، مع قناعتنا بأنه إنما غيّر من أشكاله، لكن الاستعمار الإحلالي الإجلائي صار مرفوضا ومدانا، خاصة بعد حرب أوكرانيا.

ولأن إسرائيل تستمد قوتها من ترسانتها العسكرية، فإن هذا لن يدوم، فلا يمكن لدولة أن تظل معتمدة على قوتها العسكرية فقط. ولأن إسرائيل تعتمد في وجودها وأسباب استمرارها على دعم الدول الكبرى لها، فهذه بالذات نقطة ضعفها، لأنها ستظل مرتهنة لدول المركز الإمبريالي، ولأن هذا الدعم غير مضمون بشكل مطلق. فإسرائيل مهما ادعت، تظل دولة مصطنعة أوجدتها ظروف دولية وعربية معينة وستذهب مع انتهاء هذه الظروف، أو تغيرها.

وإذا كانت إسرائيل تعتمد على عنصرها البشري "اليهودي"، فهذا العنصر إن بدا الآن كتلة متناسقة فإنه في حقيقته هش، وقد أشرنا إلى العديد من التناقضات والتصدعات والصراعات التي تعتمل في مرجله، ومؤشرات الهجرة العكسية التي تقول إن نحو 700 ألف يهودي غادروا إسرائيل دون رجعة، ومثلهم تقريبا ممن يحملون الجنسية الإسرائيلية، لكنهم يقيمون في الخارج.. فضلا عن خسارة هذا العنصر المعركة مع الفلسطينيين في موضوع التوازن الديمغرافي، وهذه القضية تشكل أهم مأزق لإسرائيل؛ كيف تتعامل مع الفلسطينيين، دون أن تخسر صورتها "الديمقراطية"، التي بنتها زورا وبهتانا، وهي صورة مهمة جدا لضمان استمرار الدعم الخارجي، ودون أن تخسر هويتها الدينية اليهودية، وهي مسألة مهمة لضمان نقاء الدولة، وتحقيق الوعد الذي قامت لأجله "دولة لليهود"، ومن أجل حل المسألة اليهودية. (ماجد كيالي).

اليوم، من يحكم إسرائيل هم المستوطنين وقوى التعصب والتطرف اليميني، المثقلين بخرافات التاريخ، وعلى أيديهم ستكون نهايتها، فقد صارت إسرائيل خطرا على نفسها، وخطرا على العالم، والسلم العالمي.. ومالم تسارع الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل والدخول بكل ثقلها في عملية السلام وبمنتهى الجدية، ستجد نفسها غارقة تماما في وحل الشرق الأوسط، ولن تكون قدرتها على الصمود طويلة، سيما وأن مشروعها في العراق وأفغانستان قد كلفها الكثير، والضربات الاقتصادية أنهكتها.

ويخبرنا التاريخ أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح، وأنّ إرادة الشعوب أقوى بكثير من الدبابات، وأن هذه الأرض ستبقى فلسطينية عربية، وستبتلع وتمتص الغزوة الصهيونية كما فعلت مع خمسة وعشرين غازيا من قبل في تاريخها الطويل، ولا أعتقد أن نهاية إسرائيل ستختلف عن نهاية نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، وإن غدا لناظره قريب..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق