(1~2)
يمكن
رصد أربع محطات تاريخية أدت إلى نشوء وتبلور الديانة اليهودية، وهي:
المحطة
الأولى: إرهاصات التشكل الإثني (880~587 ق.م)، حيث ظهرت في هذه المرحلة مملكتي
إسرائيل ويهوذا.. وذلك بعد أن تبلورت مجموعات سكانية كنعانية في أجزاء من فلسطين، وتمايزت
على أسس متباينة؛ وهناك نظريات علمية عديدة تشرح وتفسر كيف حدث ذلك؛ فمثلا يعتقد
المؤرخ "آلت" أن الجماعات التي سكنت المناطق الجبلية في فلسطين، وشكلت
فيما بعد قبائل إسرائيل كانت عبارة عن عشائر بدوية من أصول مختلفة، سكنت في أطراف
الدول المدينية الكنعانية، وأخذت بالتسرب التدريجي على فترات متباعدة، حيث
بدأ هؤلاء الرعاة في إيجاد مناطق رعوية بالاتفاق مع الكنعانيين، ثم بتبادل منافع
معينة، وشيئا فشيئا وجدت هذه القبائل أماكن مناسبة لإقامتها، فاستوطنت في المناطق
الزراعية غير المأهولة، وأخذت بالاستقرار والزراعة دون أن تسبب تهديدا أو مخاوف
للسكان الأصليين، ثم إن هذه العشائر أخذت بالتقارب فيما بينها، والإحساس التدريجي
بوجود رابط ما يجمعها، ومن المرجح أن عبادة واحدة قد نشأت بينها وتركزت حول معبد
مقدس أو مذبح، وفيما بعد توسعت مناطق النفوذ لهذه القبائل وبدأت تستشعر قوتها،
وبالتالي تصادمت مع الكنعانيين على شكل معارك صغيرة، ثم تنادت هذه الجماعات بعد أن
أحست بوحدة مصالحها إلى إقامة مملكة خاصة بهم، وهي مملكة إسرائيل، والتي أقيمت في
السامرة (والتسمية تعود لموقع في شمال فلسطين).
بينما
يرى المؤرخ "ميندنهل" أن تلك الجماعات من أصل محلي وليست جماعات رعوية
قدمت للمنطقة بحثا عن المراعي، وهي عبارة عن شرائح فلاحية كنعانية لجأت للثورة في
وجه حكام الدويلات الصغيرة الطغاة.
ويؤكد الباحث "غوتوالد" هذه النظرية
ولكن من منظور طبقي، ويرى أن تلك الجماعات إنما هي شرائح مضطهدة من الفلاحين والرعاة،
التي تقع خارج الإطار الاجتماعي والسياسي للدويلات الكنعانية، قامت بانتفاضة طبقية
ضد المدن الإقطاعية التي تديرها طبقة من النبلاء.
ويرى
المؤرخ السوري "فراس السواح" أن تلك الجماعات نشأت وتطورت بسبب تمايزها
الديني عن الوسط الكنعاني، وبالتالي تبلور لها إطار اجتماعي وثقافي أدى في النهاية
إلى تمايز إثني.
والبيانات
الأركيولوجية تدعم هذا الرأي؛ فأرض فلسطين حتى ذلك الوقت لم تعرف شعبا متميزا اسمه
الشعب الإسرائيلي، ولا ثقافة خاصة بهم، ولم تظهر حتى تلك اللحظة ديانة يهودية، وإنما
هي ثقافة محلية كنعانية نمت وتطورت ذاتيا؛ لغتها وآدابها كنعانية، ومعتقداتها
الدينية انبثقت عن المؤسسة الدينية الكنعانية؛ وبالتالي فالذين أنتجوا ثقافة
إسرائيلية إنما هم فئة اجتماعية كنعانية لم تغادر موطنها قط، وهذه الفئة اختارت
الإله "يهوه" (وهو مجرد صنم) ليكون إلها خاصا بها، يكافئ الإله الكنعاني
الأكبر "بعل".
ويؤيد
المؤرخ "ماكسويل ميللر" نظرية التسرب التدريجي، ويعتقد أن تلك الجماعات
إنما هي نتاج اندماج ثلاث قبائل كنعانية، كانوا في منطقة من فلسطين تدعى
"إسرائيل"، وقد ورد ذكرها في نصب الفرعون "مرفنتاح". وهذا
الاندماج تبلور كمفهوم إثني، واستغرق فترة طويلة من الزمن.
فيما
يؤكد المؤرخ "توماس طومسون" أن السكان الأصليين في فلسطين لم يطرأ عليهم
أي تغيير منذ العصر الحجري حتى العصر الحديدي، حيث كانت فلسطين كنعانية اللغة
والثقافة، وخلال العصر البرونزي أقامت نمطا حضاريا بقي محافظا على كافة خصائصه حتى
بداية الحقبة الأشورية (فترة تدمير مملكة إسرائيل على يد سرجون الثاني)، فالسمات
المميزة للسكان لم يظهر ما يدل على اختلافها، وبقيت محافظه على نفسها، ويتجلى ذلك في
الأواني والأدوات والبناء والنقوش وطقوس الدفن وأنماط الاستيطان، وأنه طوال العصر
الحديدي كانت القدس مجرد بلدة صغيرة متواضعة، ويخلص إلى القول إن وجود مملكة موحدة
توراتية في القرن التاسع ق.م ليس ممكنا، لأن سكان يهودا لم يكونوا قد استقروا بعد،
ولعدم توفر القاعدة السياسية الاقتصادية السكانية اللازمة لتكون هذه المملكة.
(السواح، آرام دمشق وإسرائيل).
إذن،
مملكة السامرة، أو إسرائيل ما هي إلا دويلة فلسطينية كنعانية محلية أنشأها الملك
"عمري" في العام (880 ق.م)
واستمرت أقل من قرنين من الزمان، حتى دمرها الآشوريون عام (721
ق.م) وسبوا أهلها إلى آشور بشمال العراق، وهؤلاء
المسبيون لم يرجعوا إلى ديارهم قط، بل ذابوا عرقيا وثقافيا بين الجماعات التي
سكنوا بين ظهرانيها. وهذا التدمير ساهم في نشوء مملكة كنعانية أخرى، ستعرف بيهوذا
(والتسمية تعود للاسم الكنعاني لمنطقة أورشالم وصحراء يهوذا جنوب فلسطين).
في
هذه الفترة (القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد)، شهدت منطقة يهوذا، ومركزها
أورشـليم، ارتفاعا في الإنتاج الزراعي جعل منها سوقا لتبادل السلع مع المراكز
الحضرية المحيطة وازديادا ملحوظا في السكان، أدى إلى توضيح بنيتها السياسية كمنطقة
مستقلة، حتى تفوقت على مدن الجنوب، ومال مجتمعها من البساطة نحو التركيب والتمايز
الطبقي، وتشكلت فيها نخب اجتماعية/سياسية مسيطرة أخذت تفكر بالاستقلال، وقد شجعهم
على ذلك ملوك مصر الذين أقلقهم وصول البابليين إلى حدودهم الشمالية والشرقية.
وهكذا، وبازدهارها وتدخلها في سياسة التجارة الدولية أدى ذلك إلى تصادمها مع
البابليين، فيما عرف بالسـبي البابلي عـام (587
ق.م) على يد "نبوخذ نصر"، الذي أسدل
الستار عن هذه المملكة المنقرضة.
وكما
هو الحال في مملكة إسرائيل، يمكننا القول أن مملكة يهوذا أيضا نشأت ونمت وتشكلت
ضمن البيئة الكنعانية: ديانةً، ومعابد، ولغة، وتراث، وأنماط حياة.. كلها كانت كنعانية.
ولم يسبقهما أي وجود لمملكة متحدة (مملكة داوود وسليمان).
أما
مصطلح "يهودي" فقد استخدم أول مرة من قبل البابليين في إشارة إلى من جيء
بهم من يهوذا (الاسم الكنعاني لمنطقة أورشاليم)، ولم تستعمل لفظة "ديانة
يهودية" في المراحل الأولى من الأسفار، ولم يبدأ الحديث عن ديانة يهودية شبه
متكاملة إلا في القرن الرابع ق.م، بعد أن طورت هذه الديانة أفكارها وطقوسها وأسست
لنفسها إطارا موضوعيا.
الآن نستعرض نشأة اليهودية في بابل وتبلورها في أورشليم، وتدوين التوراة
في الإسكندرية، وبداية التاريخ اليهودي.
(2~2)
المحطة
الثانية في بابل، وهي مرحلة بداية تشكل الديانة اليهودية، حيث شعر المسبيون الأورشليميون
بتوحدهم (كأسرى) على أساس إثني وديني، وهناك بدأ الكهنة بتدوين مخطوطات وأشعار
دينية، بهدف مواجهة خطر الفناء وللحيولة دون انقراض مجتمعهم الأورشليمي، فلو تأخر
مجيء كورش ربما ذاب هؤلاء المسبيون في المجتمع الجديد، ولانتهت القصة قبل أن تبدأ.
لذا حاول الكهنة جعل هذه الفئة كجماعة دينية متميزة، وسعوا لترسيخ شكل جديد لديانتهم
بحيث تختلف عن الكنعانيين في كل شيء. وفي هذه الفترة بدأوا بتدوين التلمود البابلي.
يقول
المؤرخ الإسرائيلي "شلومو ساند" أن العقيدة اليهودية الأولى صيغت في
بابل، وأنَّ التلمود البابلي ظل يحظى بتقدير واحترام أكثر من التلمود الأورشليمي،
ويرجع ذلك لكونه أتى من مجال ثقافي أعلى. كما يؤكد "إسرائيل شاحاك" أن
مصدر كل الممارسات والطقوس الدينية في الكلاسيكية اليهودية (الأرثوذكسية) والقاعدة
التي تحدد شرعيتها هي التلمود البابلي الذي استغرق تأليفه خمسة قرون، وليس
التوراة.
ويقول
المؤرخ "خزعل الماجدي" أن هؤلاء المسبيين لم يستطيعوا بناء معبد لإلههم
"يهوه" في بابل، لأنهم أسرى، وفي أرض ليست أرضهم، فابتدعوا فكرة رفع
"يهوه" من مكانه الأرضي إلى السماء، وبذلك صار إلها سماويا متعاليا على
سائر الآلهة، الأمر الذي أكسبه طابعا توحيديا؛ وبالتالي صار أتباعه أصحاب
"ديانة سماوية".
المحطة
الثالثة تشكّل اليهودية في أورشليم: دامت فترة السبي البابلي أقل من نصف قرن،
وانتهت بانتصار كورش الفارسي على البابليين، والذي كان يحمل فكرة الإمبراطور
الواحد والإله الواحد، ولديه طموح سياسي كبير وأطماع توسعية، فأعاد المسبيين إلى
أورشليم، ليقيم من خلالهم كيان موال له، وليكون بمثابة جبهة متقدمة تحمي آخر حدود
الإمبراطورية الفارسية.
ويعلق
"السواح" على هذه الأحداث قائلا: "واضح أننا لا نتعامل مع إعادة
منفيين إلى موطنهم، أو إعادة ديانة قديمة منسية، أو ترميم معبد مهمل، بل مع إيجاد
شعب جديد وديانة جديدة، أو ما يمكن اعتباره خلقا لمجتمع جديد متمركز حول معبد جديد،
ويديره المسئول الفارسي.
ما
يعني أنّ الجالية الجديدة العائدة إلى أورشليم كانت أمام خيارين: إما قبول شريعة
الملك الفارسي، أو مواجهة أقسى العقوبات، وهذا يعني إنها أمام عقد إذعان مفروض
عليها من قبل السلطة الفارسية، ولم يكن أمامها من خيار سوى القبول بلائحة القوانين
الجديدة التي تنظم حياة المجتمع الجديد الدينية والسياسية والاجتماعية وفق الخطة
الموضوعة لها من قبل الإمبراطورية. وقد كان هذا العهد الذي قطعه سكان أورشليم أمام
عزرا الكاهن ممثل الإمبراطورية الفارسية بقبول شريعة الملك وشريعة الرب بمثابة
بداية التاريخ اليهودي".
أي
أن ما تم إحياؤه في أورشليم كان بناء كيان يهودي موالٍ وتابع للحاكم الجـديد (الإمبراطورية
الفارسية)، ولم يكن بأي حال على صلة بديانة موسى، أو إحياءً ليهوذا ولا لإسرائيل
القديمة، بل خلقاً لمجتمع ودين جديدين، قوامهما فئات اجتماعية متعددة الأعراق
والمنابت، وكان انتماؤهم إلى تلك الإسرائيل بمجرد تصور جذورهم في المنفى البابلي،
وإقحامهم لأنفسهم في التاريخ القديم للمنطقة.
ما
يعني أن التاريخ اليهودي ابتدأ فـقط مع بناء أورشليم الجديدة في زمن "كورش الفارسي"،
أي بعد العام 520 ق.م،
ولا يمكن اعتباره استمراراً للتاريخ الفلسطيني على أي صعيد، أو تصوره على أنه صفحة
جديدة في تاريخ فلسطين القديم، بل هو تاريخ مستقل في أصوله ومساراته ومصائره.
(السواح، آرام دمشق وإسرائيل).
ومن
العوامل الأخرى التي ساهمت في بلورة اليهودية في تلك الحقبة ظهور فرق متصوفة عرفت
بالأسينيين،سكنت في كهوف قرب البحر الميت، وهؤلاء هم الذين كتبوا الأسفار الأولى
للتوراة باللغة الآرامية.
المحطة
الرابعة: تدوين التوراة في الأسكندرية، في حدود 200 ق.م، والتي كانت تخضع للحكم
اليوناني. حيث كان اليهود يشكلون خُمس سكان الأسكندرية آنذاك، وكانوا يثيرون مشاكل
سياسية ودينية، ولهم لهجتهم الخاصة، وغير مندمجين في المجتمع الهليني السكندري،
فأتى بطليموس الثاني وطلب من سبعين كاهنا منهم إحضار الجذامات التي كتبت عليها
أسفار التوراة الأولى، من أجل تجميعها وتهذيبها، وترجمتها إلى اليونانية لتصبح
الكتاب المقدس لتلك الجماعة، ولأنها باللغة اليونانية فذلك سيساعد على إدماجهم في
المجتمع الهليني، ويساعد الإغريق على فهم هذا التراث الديني. وهذا الكتاب سمي
بالتوراة السبعونية، وهو أساس التوارة بأسفارها الخمسة. وهذا الحدث شكل مفصلا
تاريخيا ولحظة مؤسسة إضافية للديانة اليهودية. أي بعد أن صار لهم "كتاب
مقدس". (خزعل الماجدي).
وخلاصة
القول؛ إنَّ الديانة اليهودية التي نعرفها الآن بدأت فعليا في بابل، وتطورت بعد
ذلك في القدس خلال فترة الحكم الفارسي وبأمر منه، ووصلت مرحلة النضوج شبه الكامل
في الفترة اليونانية والرومانية، وهي الفترة المعروفة بمرحلة المكابيين.
وكل أركان الرواية
التوراتية مجرد إدعاءات لا أساس لها، بل وتكذبها المكتشفات الأثرية: فصلة اليهود
بأنبياء عصر الآباء صلة مقطوعة، وبينهما هوّة من المتعذر جسرها. وبنو إسرائيل لم
يتواجدوا في مصر قط، وقصة خروجهم منها والتيه في سيناء قصة خيالية معلقة في الفضاء
مستحيلة الوقوع. ويوشع وفتوحاته مجرد أسطورة. ومملكة دواود وسليمان لا تغدو عن
كونها شبحا تاريخيا. أما مملكتا إسرائيل ويهوذا فهما دويلتان فلسطينيتان نشأتا في
البيئة الكنعانية، وأن اليهود لم يشكلوا يوما ما شعبا إثنيا، أما دويلة المكابييين
والحشموانئيين وما تلاها إنما كانت محميات محلية مسخّرة لخدمة الغزاة، وأن الرومان
لم يطردوا اليهود من فلسطين، بل أن أحبار اليهود فضّلوا الدين على البلاد، فتركوها
طوعا وهاموا في ربوع الأرض، ليدخل التاريخ اليهودي من بعد ذلك في متاهة الزمن المفقود.
ويقول المؤرخ اليهودي "يعقوب م. رابكن": "إن الجماعات
اليهودية وطوال ألفي عام من "الدياسبورا" لم تفكر ولم تخطط للعودة إلى
"أرض إسرائيل". بل إن المراجـع الدينيـة اليهوديـة تعاملت مـع فكـرة
الشـتات كنـوع مـن العقـاب الإلهي، وانتظـرت نهايته علـى يـد المخلّص كجـزء مـن
خطـة إلهية، وقد أمرت اليهـود بقبـول المنفـى". مؤكدا بأن اليهود لم يختبروا طوال تاريخهم سـوى حالات قليلة جدا
وهامشية من حالات التبلور السياسي، مثل سلالة الحشموانئيين
في القدس، ما يدلل على مدى
هامشـية وضئالة دور اليهـود في التاريـخ السياسـي للعـالم. فقد عـاشت الجماعات
اليهـودية في كل القـارّات حياتـها الخاصـة مُكرَّسـةً لثقافتـها السـماوية، في معـزل
عـن التاريـخ السياسـي للعـالم مـن حولـها، حتى أتت الصهيونية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق