في
عام 1972، وأثناء ترميم الجدار الغربي للجامع الكبير بصنعاء، وهو أحد أقدم المساجد
في العالم، بني في أواسط القرن الأول الهجري، تم العثور وعن طريق الصدفة على 20
كيسا كانت مكدسة في تجويف يشبه "السدة"، تحتوي على مخطوطات جلدية قديمة،
شك العمّال أنها قد تكون مهمة، وبعد الاتصال بالجهات المختصة، تبين أنها مخطوطات
للقرآن الكريم، تم تخزينها قبل قرون. ونظرا لقلة الإمكانيات استعانت الحكومة
اليمنية بخبراء أجانب، لفحص وترميم تلك المخطوطات، للاستفادة من قيمتها التاريخية.
يقول
خبراء المخطوطات أن هذا الاكتشاف هو الأهم من نوعه، ويعادل بقيمته مخطوطات قمران
(تحدثت عنها في مقال سابق)، بل أنه أخطر وأعظم اكتشاف تاريخي يفيد في فهم التاريخ
المبكر للإسلام، وهي فترة يكتنفها الغموض والتشويش، وتفتقد إلى حد الندرة لأية
وثائق أو مخطوطات أو عملات تنتمي إلى تلك الفترة، الأمر الذي حير الباحثين
والمنقبين، وأطلق العنان للعديد من النظريات "التاريخية" التي تتناول
تلك الحقبة برؤى مختلفة ومتناقضة ومتباينة، بل إن منها ما ينسف الرواية الإسلامية
المعتمدة.
ما وجده خبراء الترميم عبارة عن 12 ألف رقعة، تنتمي إلى 925 مصحفا، وعدة
نصوص أخرى غير قرآنية. وقد تم تحديد أقدم مصحف في هذه المجموعة، مكتوب
في 80 رقعة. وتشكل المخطوطة في مجموعها نصف القرآن. يعود تاريخها إلى ما بين (632 ~
671 م). مكتوبة
بالخط الحجازي القديم، وهو الخط الذي كان مستعملا قبيل عصر النبي وحتى بداية العصر
العباسي، حيث تم تطويره إلى الخط الكوفي. ما يعني أن قيمة هذه المخطوطات تكمن في
شبه اكتمالها، وأنها أقدم مخطوطة للقرآن على الإطلاق. فالمخطوطات الأخرى غير مكتملة،
وبعضها عبارة عن بضعة رقع، وهي متأخرة كثيرا عن مخطوطات صنعاء.
برز
الإشكال الكبير الذي أثارته تلك المخطوطات، حين قال الخبير الألماني المستشرق "غيرد
بوين"، الذي تولى دراستها من العام 1981 وحتى 1985، بأنها غير مطابقة كليا
للقرآن الذي بين أيدينا اليوم. الأمر الذي أثار موجة عارمة من الآراء المتباينة،
ما جعل الحكومات اليمنية المتعاقبة تتحفظ على المخطوطات (في دار المخطوطات اليمنية)،
وتمنع الوصول إليها بأي شكل، وكأنها السر العظيم.
بالطبع،
استغل الفرصة بعض ممن يشككون بقدسية القرآن (وهم من تيارات فكرية ومدارس أكاديمية
مختلفة) وبدؤوا يقولون أن المخطوطات تثبت تاريخية النص القرآني، بمعنى أنه كتب على
مدار فترة زمنية طويلة، ويرددون مقولة: "لو أن السعودية أو أي مركز إسلامي
آخر يعتقد أن مخطوطات صنعاء تسند وتدعم الرواية الإسلامية لدفعوا لليمن مليارات
الدولارات للحصول عليها، وطرحها على الملأ".
ما
هو ثابت (من وجهة نظر خبراء المخطوطات، ومنهم الخبير المغربي محمد المسيّح) أن
الرقع الجلدية تتضمن نصين: الأول تم محوه وهو الأقدم ويأتي في أسفل الرقعة (وقد تم
اكتشافه بالأشعة)، والثاني ما هو ظاهر، وهو الأحدث ويأتي في أعلى الرقعة، وبين
النصين اختلافات.
الباحثان
"بهنام صديقي"، من جامعة ستانفورد، و"محسن جودارزي"، من جامعة
هارفارد اشتغلا على المخطوطات، ونشرا نتائج تحليل أربعين رقعة منها، وقد حصرا 60 اختلافا
ما بين النص التحتي والنص العثماني، تتراوح ما بين كلمات محذوفة، أو كلمات ذات
ضمير مختلف، أو كلمات مرتبة ترتيبا مختلفا، أو مكتوبة بهجاء مختلف. (بالطبع لن يوجد اختلافات في علامات
الترقيم والتنقيط، لأن التنقيط والترقيم جاء في عصر متأخر)، وتلك الاختلافات في نص
الآيات أو ترتيب السور، أعطى دليلا لمن يشككون بقدسية القران الكريم بأنه تعرض
للتحريف.
عدد من المفكرين والدعاة الإسلاميين فندوا
مزاعم المستشرق "غيرد بوين"، قائلين بأن القرآن تناقل بين الصحابة في
عهد الرسول حفظاً لا كتابةً، وأنّ هذا النوع من المخطوطات الطرسية كان شائعا، أي
التي فيها محو وإضافة، وذلك لندرة وغلاء تكاليف الرقع الجلدية آنذاك، فيتم إعادة
استعمالها أكثر من مرة.
ويضيفون
بأن تلك الاختلافات طفيفة، وليست ذات شأن، فهي لا تتجاوز اختلافا في القراءات، أو إعادة
في ترتيب السور لا يمس مضمونها.. وأن النص القديم الممحو لا يعني أنه هو الأصلي
والصحيح، أو أن ما كتب فوقه هو نص محرف، إنما هي عملية تصحيح وإعادة ترتيب لنصوص
كتبت اعتمادا على الحفظ في الذاكرة الجمعية لحفظة القرآن من الصحابة. كم أن اختلاف
القراءات أمر معلوم ومعترف به لدى المسلمين، ولا يمس في قدسية القرآن، لأن أسبابه
معروفة وقد انتهت باعتماد مصحف عثمان.
وحسب خبراء المخطوطات تم تحديد أقدم مخطوطات
للقرآن على النحو التالي:
أولاً:
المخطوطة الفرنسية الروسية، عُثر عليها في مسجد عمرو بن العاص في مصر، أثناء حملة نابليون،
تمثل 45% من القرآن، مكتوبة بالخط الحجازي، يرجع تاريخها إلى حوالي 675 م. ثانيا: مخطوطة برمنجهام، تحتوي على رقعتين.
يعود تاريخ الجلد إلى 645م، ولكن بعد دراسة الخط المستخدم والزخارف تبين أن تاريخها
يعود إلى أواخر القرن السابع الميلادي.
ثالثا:
مخطوطة سمرقند، موجودة في طشقند. تحتوي على 383 رقعة (تقريبا ثلث القران). ومخطوطة
توب كابي سراي، والمخطوطتان كتبتا بالخط الكوفي، ويعود تاريخهما إلى أواخر القرن السابع
الميلادي. رابعا: مخطوطه المشهد الحسيني، في القاهرة، وبالرغم من شهرة هذا
المصحف بأنه مصحف عثمان الشخصي، إلا أن هذا الكلام غير صحيح. فهي تعود إلى أواخر
القرن التاسع الميلادي، وكتبت بالخط الكوفي.
الأسئلة
المحيرة: كيف ولماذا اختفت النسخ الأصلية للقرآن؟ ولماذا لم يتم العثور على مخطوطة
كاملة؟ وكيف نرد على مزاعم وجود اختلافات بين المخطوطات القديمة والمصحف العثماني؟
وهذه الأسئلة ليست للتشكيك في قدسية القرآن (لا سمح الله)، بل لبحث الموضوع من ناحية
علمية، باعتماد علم دراسة المخطوطات (الكوديكولوجيا)، وعلم الكتابات القديمة (الباليوغرافيا)؛
أي استنادا إلى عمر الرقعة، ونوع الخط المستخدم، وشكل الكتابة.. خاصة وأن هذا الموضوع
مطروح بقوة في المراكز البحثية المتخصصة، وهناك جدل كبير حوله، أهم أطرافه من غير
المسلمين. والباحثين المسلمين يعتمدون العقلية النصية، دون منهج علمي. وآن الأوان لنفكر
بطريقة علمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق