في
قراءة استشرافية لما يمكن أن يحدث بعد تأجيل الانتخابات، حذر محللون من حتمية حدوث
انفجار شعبي كبير، يعبّر عن حالة السخط والاستياء والاحتقان، ويهدف إلى إحداث
تغيير جذري للأوضاع المتردية، سعيا إلى إيجاد قيادة وطنية جديدة قادرة على التعاطي
مع الأحداث والاستجابة للتحديات، واستعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني على أسس
ثورية.. ولحسن الحظ أن هذا الانفجار أتى في وجه الاحتلال.. لكنه سيحمل في طياته
مواجهة مباشرة ضد السلطتين في الضفة وغزة.
صحيح
أن فلسطين في كل مرة تفاجئ الجميع؛ القريب قبل البعيد، بل تفاجئ حتى أهلها..
المفاجأة كانت فقط في سرعة حدوث هذا الانفجار.
بدأت
الأحداث بخروج المقدسيين في مظاهرات شعبية ردا على هجمات جماعات استيطانية متطرفة
كانت تستهدف الفلسطينيين في المدن المختلطة، خاصة في القدس، وبالتحديد في شارع
يافا.. ثم تحولت إلى حراك شعبي لحماية باب العامود ومدرجاته، وتكريسه كحيز عام
للمقدسيين، ونقطة انطلاق للدفاع عن البلدة القديمة.. ثم اتسع الحراك صوب حي الشيخ
جراح، لحماية سكانه من مخططات الاقتلاع، وبهدف حماية المدينة المقدسة من مخططات
التهويد.. تزامن ذلك مع العشر الأواخر من رمضان، ما زاد من ثقل الحراك الجماهيري،
خاصة في المسجد الأقصى ومحيطه..
سجلت
هذه الهبة المقدسية المباركة سطورا مشرفة في النضال الوطني، وقدمت نموذجا رائعا في
المقاومة الشعبية السلمية، وحققت من خلالها منجزات مهمة، أبرزها إزالة نقاط
التفتيش في باب العامود، وقف قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الذي كان سيؤمن غطاء
قانونياً لمصادرة بيوت المقدسيين في الشيخ جراح، إجبار شرطة الاحتلال على منع المستوطنين
من اقتحام المسجد الأقصى وباحاته، وقد سبق للمقدسيين كسب معركة البوابات
الإلكترونية، ومنع مخطط التقسيم الزماني للأقصى، والأهم نضالهم الدؤوب والملحمي في
الثبات والصمود في القدس.. وهذا التراجع الاسرائيلي أمام المقدسيين يكتسب أهمية
كبيرة، ويؤكد على نجاعة وقوة المقاومة الشعبية وقدرتها على فرض الحقائق، وأن
الاحتلال لا يتراجع من تلقاء نفسه، ولا بوساطة أو ضغوط دول أخرى، ولا بالمفاوضات؛
بل يتراجع وينكفئ فقط بالمواجهة والإرادة الشعبية.
بعد
تصاعد هذه الهبة المقدسية، بدأت تتحول إلى حراك شعبي أوسع، أخذ ينتقل إلى مدن
الضفة الغربية وغزة، بل حتى وصل إلى المدن الفلسطينية داخل الخط الأخضر، وعلى وشك
التحول إلى انتفاضة شعبية شاملة، ليس فقط في الضفة وغزة، بل وفي كل فلسطين
التاريخية.. وهذه نقطة تحول خطيرة جدا في شكل الصراع، ممكن أن تُحدث تغييرا جذريا
وشاملا في المعادلة السياسية لو قيض لهذا المسار الاستمرار والنضوج، وحظي بقيادة
وطنية ثورية.
فبينما
كان المستوطنون يريدون الاحتفال بتوحيد القدس.. احتفلت القدس بتوحيد شعبها من
النهر إلى البحر.. وبعد أن ظنت إسرائيل أنها دجنت الفلسطينيين في الداخل المحتل
عام 1948، وجعلتهم مجرد أقلية غارقة في المشاكل والجرائم والمخدرات، استفاقت كل
مدن الداخل، واستعادت روحها الوطنية، وانتفضت في وجه إسرئيل معلنة عن هويتها
الفلسطينية بكل جلاء.. وبعد أن كان مشروع التطبيع والاستسلام العربي (الرسمي)
ماضيا دون خجل، أعادت القدس المطبّعين إلى جحورهم، وبعد أن كانت القدس تستغيث
"أنقذوا الشيخ جراح"، ها هي القدس تغيث الشعب كله، بل والأمة كلها..
عند
هذه النقطة بالذات، دخلت صواريخ المقاومة على الخط.. فكيف يمكن قراءة هذا التحول
الكبير والمهم؟
بداية
لنذكر ببعض المعطيات:
بدأت
الهبّة في القدس، بمطالب محددة، وللرد على استفزازات المستوطنين وسياسات التهويد،
ثم تدحرجت ككرة الثلج، في ظل أجواء ملبدة، وانسداد للأفق السياسي، مع احتقان شعبي،
ورغبة جارفة في التغيير، وإنهاء الاتقسام، وتجاوز البنى السياسية والفصائلية
القائمة، بمخزون شبابي كبير جدا، مثّل النسبة الأعظم من الحراك الجماهيري، ما يعني
أن ظروف اندلاع انتفاضة شعبية صارت شبه ناضجة، وقد ظهرت بوادرها ومؤشراتها بالفعل
في الشارع الفلسطيني على جانبي الخط الأخضر.
لكن
أي حراك شعبي حتى ينجح ويستمر، ويتحول إلى انتفاضة شعبية وحالة نضال دائمة ومواجهة
مستمرة مع الاحتلال لا بد أن يكون بأسلوب المقاومة الشعبية السلمية، وبأدواتها
فقط، فهذا هو الشكل الكفاحي الوحيد والمتاح، وأي عسكرة أو تحول عن هذا النهج يعني
فقدان الطابع الجماهيري أولا، ثم فقدان التأييد العالمي ثانيا، والسماح للجيش
الإسرائيلي بالاستفراد بالشعب، والإيغال في دمه، وتدفيعه أثمانا باهظة دون مكاسب
سياسية.. ولنا في الانتفاضة الثانية وفي الحروب العدوانية على غزة دروسا لمن أراد
الاستفادة من تجاربنا وأخطائنا..
ولمن
يستهين بالمقاومة الشعبية، ويعتقد أنها مقاومة ناعمة.. نذكره بأن الانتفاضة الأولى
كانت كذلك، وهبة القدس هي أيضا كذلك، وكان هذا سر قوتها، وزخمها..
وبالتأكيد
كافة أشكال المقاومة مشروعة: مسيرات شعبية، اعتصامات، عمليات فدائية، صواريخ، سكاكين،
اشتبكات على الحواجز، إلقاء حجارة، كراسي، كنادر، إغلاق شوارع، إعلاء الصوت،
ترندات على شبكات التواصل، موسيقى، دبكة، ابتسامات المعتقلين أمام الكاميرات،
إشعال شموع، دعاء، صلاة في الشوارع، بوستات.. كل ما تيسر.. المهم أن نعرف أي الوسائل
أفضل، وما هو التوقيت المناسب، وفي أي مكان.. وما هي الرسالة المراد إيصالها..
بدراسة واعية ومسؤولة لحجم التضحيات مقارنة بما يمكن إنجازه..
ولكن،
عندما يعلو صوت مقاومة الصواريخ على المقاومة الشعبية؛ من حق الناس بل واجبها أن تتساءل
وتفكر بمسؤولية.. عن التوقيت، والدوافع، والنتائج، وأثر ذلك على قضية القدس..
البعض
يؤيّد صواريخ المقاومة ويعتبرها عملا بطولياً، ويعارض نهج سُلطة رام الله "الأوسلوي".
والبعض يعارض الصواريخ، ويعتبرها عبثية.. والبعض لا يؤيد الصواريخ ولا المفاوضات
ولا التنسيق الأمني، ويعتبر أن الصواريخ ونهج أوسلو وجهان لعملة واحدة، كانتا
عبارة عن وصفة تدميريّة، لم تأتِ إلّا بالخَراب على القضية الفلسطينية، وأن خيار
المقاومة الشعبية لم يأخذ حقه، ولم نوله الاهتمام الكافي، وكنا نمارسه بشكل موسمي
دون إستراتيجية موحدة، ولا إرادة سياسية حقيقية.. وآن لنا أن نستفيق، وألا ننخدع
بالشعارات العاطفية.. فنحن في خضم صراع سياسي حضاري، ولسنا في طوشة في باب الحارة.
ما
زاد من حيرة الناس وتشتتها، وعمّق من انقسام الآراء هو غياب القيادة، وعدم أخذها
زمام المبادرة.. والشعور بالعجز هو ما يجعلنا نغلّب المشاعر العاطفية والصوت العالي..
وما كان يجب تغييره بصندوق الانتخابات سيتغير عبر الشارع وبأسلوبه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق