حرب التهجير والتدجين
لم
تكن انتفاضة الداخل المحتل تضامنا مع القدس أو مع غزة؛ التضامن يكون مع الآخر، لا مع
الذات.. هبة القدس، والحرب على غزة على أهميتهما لم يكونا سوى الشرارة التي فجرت
الأحداث، فالتغيرات السيسيولوجية والسياسية العميقة لا تحدث فجأة، بل تأتي نتاجا
لتراكمات، وبعد إرهاصات ومقدمات تاريخية تحدث على مدار سنوات طويلة.
عشرات
الأحداث المهمة والخطيرة، والمآسي الموجعة حدثت في الضفة وغزة والشتات ولم نشهد
حراكا مماثلا في الداخل من حيث القوة والشمولية كما يحدث الآن.. صحيح أن شعبنا في
الداخل لم يتأخر يوما عن الإسناد والمناصرة والتعبير عن رفضه لممارسات الاحتلال في
الضفة وغزة، وصحيح أنه ناضل بكل قوته ضد ظلم وعنصرية الاحتلال، وصمد فوق أرضه، وعبّر
عن تمسكه بهويته الوطنية وانتمائه الفلسطيني.. لكن ما يجري الآن هو شيء مختلف،
ويفوق كل ما جرى سابقاً.. فلماذا الآن؟
بداية
لنتفق أنّ ما يسمى بالتعايش والمدن المختلطة هي تعبيرات مضللة؛ والحقيقة أنه تعايش
هش، وأن تلك المدن لم تكن مختلطة على نحو عادل، وكانت دون مساواة؛ في تلك المدن
عالمان لا يلتقيان: أحياء يهودية راقية تبتلع الأحياء العربية المهملة، بيوت فخمة
تقابلها بيوت آيلة للسقوط تتوسّل البقاء، ولا يسمح لأصحابها بترمميم سقف يدلف، أو
جدار مهترئ، أحياء يهودية تُخصص لها موازنات ضخمة، مقابل أوامر هدم وإخلاء، مدن ومستوطنات
تُقام على عجل، وقرى كاملة غير معترف بها، رؤوس أموال يهودية تنمو بسرعة وطبقات
وسطى وثرية تزدهر، مقابل فقر وبطالة في الوسط العربي، مستوطنون يعربدون ويخرقون
القوانين مدعومون بشرطة تتصيّد الشباب عند كلّ زاوية، قوانين عنصرية فُصّلت خصيصا
لتنظيف المدن من سكانها الأصليين لصالح البيض الجدد.
وهذه
النتيجة الطبيعية لتلك السياسات العنصرية، وما جرى هناك هو استعادة الروح الوطنية
لشعبٍ ناضل ضدّ تيار التهويد والأسرلة حتّى كادت تتقطع أنفاسه، وكفاح شعبي لنيل
الحرية واسترداد الكرامة. ولنفهم كيف ولماذا، لنعد إلى الحكاية من أولها:
الفلسطينيون
في "إسرائيل"، هم "البقيّة الباقية"، الذين تمكنوا من الصمود
إبان النكبة، وبقوا في قراهم ومدنهم، بينما هُجّر قسرا أغلبية أهل البلاد. كانت
النكبة هي النقطة الفاصلة بين زمنين، وقد طالت جميع المستويات، الفردية والجماعية،
الاقتصادية والثقافية.. والأهم أنها دمرت النسيج الاجتماعي، وقوضت أسس المجتمع
الفلسطيني، وكادت أن تقضي على الهوية الوطنية الفلسطينية.
فالنكبة
بقدر ما تعني فقدان الوطن، وتهجير السكان، هي أيضا دمرت المؤسّسات الاجتماعية
والثقافية والسياسية للشعب الفلسطيني، الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى جموع من
اللاجئين الهائمين على وجوههم في مشارق الأرض ومغاربها.. وبذلك تقوض الكيان
السياسي للشعب الفلسطيني، وتهدّمت نخبه الثقافية والاجتماعية والسياسية
والاقتصادية، ودُمّرت مرافقه وعلاقاته وأسسه الاقتصادية، واقتُلع السكّان من بيوتهم
وشُرّدوا في بقاع الأرض، ليعيشوا على هامش المجتمعات التي أقاموا بين ظهرانيها
كلاجئين.
وبالرغم من شمولية النكبة وشدة وطأتها،
فقد تسنّى لنحو 156 ألف فلسطيني الاستمرار في العيش في البلاد، عاشوا تحت الحكم العسكري، بكل تبعاته وأعبائه، وبما أن
أعدادهم كانت قليلة، فقد تم عزلهم في
مناطقهم ضمن "غيتوات"، تحت نظام
الحكم العسكري، الذي صار يتحكم في معيشتهم في مختلف مناحي
حياتهم، وأحياناً حتى في علاقاتهم الاجتماعية، بما فيها أمور الزواج والطلاق..
في
السنوات الأولى بعد النكبة، عمل الحكم العسكري على محاربة من حاول العودة من وراء
خطوط وقف إطلاق النار، وتصرف تجاههم كأنهم متسللين يمكن إطلاق النار عليهم دون محاسبة.
كما تم هدم معظم القرى العربية المهجرة، وطوال العقد الأول من الحكم العسكري فُرض نظام
منع التجوال على التجمعات العربية من مغيب الشمس إلى شروقها. مع استمرار محاولات الطرد
والتهجير، والتي بلغت أوجها في مذبحة كفر قاسم، والتي جاءت استكمالا لمجزرة دير
ياسين. وكان إخضاع السكّان العرب إلى أنظمة الطوارئ بهدف تعميق الفجوة بين آثار وبقايا المجتمع السابق وبين المجتمع
الجديد الناشئ، أي محاولة شطب آثار النكبة من الذاكرة الفلسطينية، وتذويب وتغريب
ترسبات الثقافة الشعبية والوطنية التي كانت سائدة قبل الاحتلال، وصهرها في ثقافة
المجتمع اليهودي، وتعميم وتثبيت أشكال الأنماط الحياتية الجديدة (اليهودية).
في
العقد الثاني بدأت سياسة الدولة العبرية تتغير. فعلى الرغم من وعود حكومة إسرائيل
لمن بقي من الفلسطينيين بالمساواة كمواطنين؛ إلا أن سياساتها الفعلية جاءت مناقضة
لتلك الوعود، فعاملتهم معاملة الأعداء، واعتمدت سياسة فرّق تسد من خلال التعامل
معهم كطوائف وأقليات، وحظرت أي نشاط جماعي، حتى لو كان اجتماعياً، أو ثقافياً لمنع
تبلور قيادات عربية، أو هوية وطنية/ قومية.
واستمرت في محاولاتها لتفتيت وحدة المجتمع الفلسطيني، من خلال
تفرقتهم والنظر إليهم ليس كمكون واحد، بل عدة مكونات، وتعزيز هذا الشعور لدى
الفئات والطوائف، بجعلها تنظر إلى نفسها كمكون منفصل ومستقل، وإلى بقية المكونات
كغرباء، بحيث يكون ولاء وتبعية الجميع للدولة وأنظمتها وثقافتها.
واعتباراً
من سنة 1959 بدأت وطأة الحكم العسكري تخف تدريجيا على المواطنين العرب. ويعود هذا
الأمر إلى عدة أسباب: فالاقتصاد الإسرائيلي شهد تطوراً ملحوظاً وكان بحاجة إلى الأيدي
العاملة الرخيصة، وهو أمر تطلب حريّة تنقل أكبر للعمال العرب. كما شهدت تلك الفترة
تغيّراً في الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية، فبعض أهداف الحكم العسكري كانت قد
تحققت، منها النجاح في منع عودة اللاجئين عبر خطوط وقف إطلاق النار، والسيطرة على
أراضي القرى المهجرة. فضلاً عن ذلك، فإن القيادات الأمنية زادت قناعة بأن العرب باقون
ولن يرحلوا عن البلاد.
وبعد
هزيمة حزيران 1967، احتلت إسرائيل بقية الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى سيناء
والجولان السوري؛ وبالتالي احتاجت إلى قواها الأمنية لإدارة الأراضي المحتلة
حديثاً، الأمر الذي سرّع في الإنهاء الفعلي لنظام الحكم العسكري في الداخل.
كان أهم وأخطر ما قامت به إسرائيل محاولاتها
المنهجية لإلغاء الصفة الوطنية والقومية للفلسطينيين، أي إلغاء الكيانية السياسية
الفلسطينية، ومحاربة أي مسعى لتجميعها وإحيائها، والتعامل مع من بقي من
الفلسطينيين في حدود إسرائيل كأقلية على هامش المجتمع، وتطويع وعيهم، والسيطرة
عليهم بطرق عدّة، بما يخدم أهداف الدولة والمجتمع اليهوديّ الحديث النشأة في
البلاد.
حرب
الاسترداد (2-3)
ومن اللافت أن من بين أول الإجراءات التي
اتخذتها السلطات مباشرة عقب النكبة، وبعد الاستيلاء على منازل العرب، قامت بنهب أي
محتوى ذو دلالة ثقافية كانت تعثر عليه، مثل المكتبات الخاصة، الآلات الموسيقية،
الأدوات التراثية، الصور، الوثائق.. وكانت تريد من ذلك تحقيق هدفين، الأول: أمام
الرأي العام الإسرائيلي والعالمي محو أي صورة مشرقة للشعب الفلسطيني، تظهر مدى
ثقافته وتحضره ومدنيته، أي تأكيد الصورة المزيفة التي رسمتها عن أهل البلاد بأنهم
بدائيون. والثانية أمام الفلسطينيين أنفسهم، أي شطب وإلغاء الذاكرة الوطنية،
وتثبيت القطيعة مع ما كان قائما قبل النكبة.
وأيضا
عملت على عزلهم ثقافيا واجتماعيا عن شعبهم الفلسطيني ومحيطهم العربيّ؛ وقد ساهمت
الأنظمة العربية من حيث لا تدري في إنجاح هذا المسعى، فكان ممنوعا على فلسطينيي ال
48 دخول الأراضي العربية، وكان اللقاء معهم في العواصم الغربية موضع شك واتهام،
وكانت العقلية الحزبية السائدة آنذاك تنظر لهم بريبة وعدائية. وبذلك نشأ جيل كامل
معزول تماما عن محيطه العربي، حتى النتاج الأدبي والثقافي (العربي والفلسطيني) لم
يكن مسموحا له بدخول التجمعات العربية في إسرائيل.
كما
عملت على إقصاء المواطنين العرب عن مؤسسات الدولة، بوصفهم خطرا على الأمن. وأنشأت سلطات
محلّيّة للبلدات العربيّة مرتبطة بالسلطة المركزيّة ارتباطا وثيقا، وفرضت الخدمة
العسكرية على فئات وشرائح معينة دون غيرها.
في النقب، كما في الجليل والمثلث، عمدت
إسرائيل إلى تهويدها، ليس بمصادرة الأرض فقط، وإنما بترحيل سكانها، عنها وتجميعهم
في معازل، وهناك 38 قرية بدوية ترفض السلطات الاعتراف بها.
كما
استخدمت التعليم كجهاز للسيطرة عليهم، وكيّ وعيهم، وتدجينهم وأسرلتهم وسلخهم عن
سائر أبناء شعبهم من خلال المناهج والأنشطة، وتحكم "الشاباك" بكل ما
يدور في المدارس العربية.
في المحصِّلة، بات المجتمع الفلسطيني في
البلاد يعيش في مستوى معيشة منخفض؛ فنسبة البطالة ونسبة الفقر مرتفعتان إلى درجة
بالغة، وتفتقر الكثير من القرى إلى الخدمات الصّحيّة، التّربويّة، والبنية
التّحتيّة الأساسيّة، ونصف العائلات العربية تعيش تحت خط الفقر، ونسبة الفقر في
وسط العائلات العربية تزيد عن المعدل القطري بأكثر من ضعفين ونصف.
وبسبب الظروف الخاصة التي عاشها الفلسطينيون
في إسرائيل تشكّل مجتمعهم الجديد بمواصفات خاصّة. فقد ترك نظام الحكم العسكري
آثاره البالغة والعميقة، وأعاق تطوّره الطبيعي، وحرم المواطنين من حقهم في تشكيل
أحزاب سياسية أو مؤسّسات تمثيليّة أو منظمات مجتمع مدني خاصة بهم.
وبالرغم من كل الإجراءات والسياسات
الإسرائيلية ومحاولات التهويد والأسرلة، إلا أن السكّان العرب في البلاد لم يخضعوا
إلى هذه السياسات، بل إنهم ناضلوا للتغلّب عليها ومقاومتها، وبالرغم من تقبلهم
الانصياع لقوانين الدولة العبرية رغما عنهم، مع تسليمهم بوجودها في ظل اختلال
موازين القوى بين الطرفين؛ إلا أنهم لم يكونوا مستعدين للتماثل مع مشاريع الأسرلة
والتهويد، ومحاولات فرض مشاعر الولاء تجاه الدولة..
وقد
عبّـر فلسطينيو الداخل في أكثر من موقف، وبأشكال متعددة عن انتمائهم القومي،
بامتداده العروبي والإسلامي، وتمسكهم بهويتهم الوطنية، ورفضهم التماهي مع مخططات
الدمج والإذابة الإسرائيلية، وقد ظهر ذلك جليا عبر نتاج أدبي وثقافي واعي أنتجه
جيل من الشعراء والأدباء والمثقفين، من أبرزهم توفيق طوبي، إميل حبيبي، محمود
درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، راشد حسين.. وغيرهم.
وفي نهاية
الخمسينيات بدأت تظهر علامات تململ وانبعاث للحركة الوطنية الفلسطينية داخل
إسرائيل، وقد مثَّل المد القومي الناصري بيئة مناسبة لها، وكانت "حركة
الأرض"، عنوانا لحالة نهوض وطني، عبر عنها قادة وطنيون من أمثال صالح برانسي،
ومنصور كردوش، وحبيب قهوجي، وغيرهم.
ومع
تنامي الوعي الوطني ظهرت مجموعة قومية عربية يسارية تحمل اسم "حركة أبناء
البلد"، التي بدأت نشاطها في أم الفحم. بعد ذلك أسس نمر درويش الحركة
الإسلامية تحت واجهات اجتماعية متعددة، والتي أخذت تطالب بتحرير أملاك الوقف
الإسلامي، وحق المسلمين في إدارة شؤونهم، وتعيين القضاة في المحاكم الشرعية.
ثم استطاعت الحركة الدخول إلى الكنيست، بحصولها على مقعدين.
وبعد
سنوات قليلة من انطلاقة الثورة الفلسطينية في الخارج، وبدءا من السبعينات بدأت
تظهر آثار حالة التنامي في الشعور القومي لدى فلسطينيي الداخل، ما أدّى إلى
تنظيمهم قطريًّا ومحلّيًّا وتحوّلهم من "بقيّة باقية" إلى مجتمع. من
أهمّ هذه المستجدّات: ظهور مؤسّسات وأطر سياسيّة وتمثيليّة واجتماعية مختلفة مثل
اللجنة القطريّة لرؤساء السلطات المحليّة العربية، ولجنة المتابعة العليا للجماهير
العربية في إسرائيل؛ وكذلك ظهور شرائح من المهنيّين والأكاديميّين ورجال الأعمال
والحرفيّين؛ والأهمّ من هذا وذاك بلورةُ أطروحات سياسيّة تتحلّى بنبرة ورؤية
جماعيّتين.
وقد مثّل
العام 1976 نقطة مفصلية في مسيرة الحركة الوطنية في الداخل، عبر انتفاضة يوم الأرض
في الثلاثين من آذار.
وبصمودهم
وإصرارهم على البقاء فوق أرضهم، ترك فلسطينيو الداخل بصماتهم على الدولة العبرية
بشكل عام، حيث تزايد التأثير العربي كقوة سياسية وديمغرافية وحزبية مهمة، لهم
مكانتهم في الصراع وفي التوازنات الداخلية، وقد باتوا قوة مؤثرة داخل الكنيست (لديهم
من 10 إلى 15 مقعد).
إذاً؛ ثلاثة عوامل شكلت أسباب الانتفاضة
الحالية، الأول والأهم: تنامي ونضوج الشعور القومي، والتمسك بالانتماء العربي
والهوية الفلسطينية، والصمود أمام مخططات الأسرلة والتغريب والتهويد والتدجين
والإخضاغ.. الثاني، استمرار الظلم والتمييز الإسرائيلي بحقهم، والتعامل معهم
بوصفهم رعايا ومواطنين درجة ثالثة، وقد بلغت ذروة التمييز العنصري من خلال "قانون القومية اليهودي"، الذي
أقره الكنيست عام 2018، وهو قانون يكرس ويشرعن كل الإجراءات التمييزية ضد العرب.. والثالث: سياسات الأجهزة
الأمنية الإسرائيلية التمييزية ضد الفلسطينيين، مثل التغاضي عن تجار السلاح،
ومروجي المخدرات في التجمعات العربية، بل وتشجيعهم ودعمهم، الأمر الذي ساهم في
تفشي الجريمة والفوضى في التجمعات العربية إلى درجة لم تعد تُطاق. إضافة لعربدة
وتجاوزات المجموعات الاستيطانية المتطرفة المدعومة من الشرطة، والتي تستهدف العرب
وتعتدي عليهم في كل مكان، وهذا أمر لم يعد ممكنا القبول به، بل هو تحدي وجودي.
ما كان ينقص لاكتمال المشهد هبة القدس، والعدوان على غزة، وانتفاضة الضفة الغربية.. ولهذا التحول الكبير دلالات عميقة على مستقبل الصراع، والتسوية، وعلى إسرائيل نفسها.
الأسباب والتداعيات والآفاق الممكنة (3-3)
ما
حدث في انتفاضة أيار في الداخل المحتل هو نفض الرماد عن جمرٍ يجري إيقاده منذ 73
عاما؛ حيث أتت الرياح من القدس وغزة والضفة الغربية فكشفت ما كان مخبأً.. ممارسات
قمعية، قوانين عنصرية، إفقار، إذلال، تهميش، إغراق في المشاكل والمخدرات والسلاح،
تفتيت للنسيج الاجتماعي، هدم بيوت، مصادرة أراض، مشاريع أسرلة ودمج وتهويد وعبرنة..
حتى بلغ السيل الزبى..
سنوات
وعقود من التعسف والتمييز، ومن تنامي اليمين القومي الصهيوني والتطرف الديني
اليهودي، ومن الاستيطان، حتى شرعنت الحكومة كل ممارساتها العنصرية والاستيطانية وصاغتها
في حزمة من القوانين، ثم كثفتها في قانون القومية اليهودي.. وهذا كان الحصاد؛ مواجهات
عنيفة وصدامات في كل مكان؛ فالظلم يضر بالظالم أولاً، والعنصرية تنقلب على العنصري
بنفس القدر، والغطرسة نهايتها السقوط، والسياسات الغبية لا بد أن تودي بصاحبها في
نهاية المطاف.. تلك سنة الحياة وقانون الطبيعة..
ظنت
إسرائيل في لحظة نشوة أن سياساتها العنصرية والظالمة تجاه فلسطينيي الداخل ستنجح،
وأنها ستدجن هذا الشعب، وتحتويه ضمن منظومتها الصهيونية العنصرية.. فأتت انتفاضة
أيار لتظهر مدى غباوة واستعلاء تلك السياسات.. ولتؤكد لها أنها كانت تعاند منطق
الطبيعة، ونواميسها، وتسبح ضد تيار التاريخ.
حتى
الشحيح المقتر الذي كانت "تجود" به على شكل حقوق مدنية مجتزأة، وموازنات
هزيلة للمجالس المحلية (مقارنة بما تهبه للمستوطنات) والتي هي مجرد تحسين لشروط
العبودية؛ أخذت تقننها وتخفضها تدريجيا، وتستبدلها بقوانين عنصرية أكثر وضوحا
وصلافة، وفوق هذا أغرقت التجمعات العربية بالعصابات وتجار السلاح والمخدرات، وصار
تواطؤها معهم لا يحتاج أي دليل.. ثم أضافت مجموعات منفلتة ومتطرفة من غلاة المستوطنين
وزجت بهم للتصادم مع العرب، والاعتداء عليهم، واستفزازهم بكل الطرق..
الآن،
وقد عرفنا أبرز العوامل التي أوصلت إلى هذه النتيجة، لنناقش تأثيراتها وتداعياتها
على مستقبل العلاقات بين المجتمعين، ومستقبل الدولة العبرية، ومستقبل التسوية
السياسية، وبالذات حل "الدولة الواحدة"..
ما
ميز تلك الهبة طابعها العنيف خاصة في الأيام الأولى، وربما كان هذا سبب تراجعها؛
فالصدامات المسلحة بين الأهالي والمستوطنين المتطرفين أمر ليس بالهين، ومن الصعب
أن يدوم لفترة طويلة، فالأهالي فقدوا إحساسهم بالأمان، وصار الخروج من المنزل،
والتنقل بين المدن وحتى داخلها محفوفا بالمخاطر، والأمر ذاته ينطبق على السكان
اليهود، وهو أمر لا يحتمله أي مجتمع، ولا تطيقه الدولة؛ إذ يضر بالاستقرار والهدوء
الذي تفاخرت به إسرائيل، ويفضح زعمها أنها واحة الأمان في الشرق الأوسط، المضطرب
والمشتعل بالحروب الأهلية. ويضر بصورة إسرائيل التي تحاول بثها في العالم، ويثبت
فشل وخواء إدعائها بالديمقراطية، واستحالة الجمع بين الديمقراطية ويهودية الدولة،
وبين الاستقرار والقمع، وبين المساواة والعنصرية..
وقد
تركت تلك الأحداث جروحا عميقة في الطرفين، وكشفت وهم التعايش المشترك، وأظهرت
بجلاء صورة المجتمعين المنفصلين، بفوارق طبقية، واجتماعية، واقتصادية، وحقوقية
كبيرة جدا.. وقد أثر هذا على دعاة التعايش من الجانبين، أي الذين كانوا يؤمنون
بإمكانية تحقيق المساواة، ويطالبون بالعدالة، وحقوق المواطَنة، سواء من بقايا
اليسار الإسرائيلي والقوى الليبرالية والعلمانية اليهودية، أم من الجانب العربي،
بما في ذلك من أقنعتهم إسرائيل بأنهم أقليات معزولة عن العرب، وانتمائهم فقط للدولة؛
فقد أظهر المتطرفون اليهود كراهيتهم وعدائهم لكل ما هو عربي، من كل الطوائف
والشرائح الاجتماعية، والذين بدورهم أظهروا معدنهم الأصيل، وعبروا عن انتمائهم
العروبي وهويتهم الفلسطينية.
وهذا
يضع حل "الدولة الواحدة"، و"دولة كل مواطنيها" أمام اختبار
صعب، حيث غدت تلك الحلول أبعد منالا، بعد انهيار حائط الثقة الذي كان بين الطرفين
(حتى لو كان واهنا وضعيفا)، لكنه قد يُحدث صدمة إيجابية في الوعي المشترك، بمعنى
إدراك الطرفين خطورة القوانين العنصرية، وخطورة سياسات تهميش وإقصاء العرب، وخطورة
الاقتتال الداخلي والصدامات العنيفة، وانعدام الأمن، وخطورة اتساع الهوة بين
المجتمعين.. مما يولد وعيا مشتركا بأهمية إلغاء القوانين العنصرية، ومدى غباوة
فكرة "يهودية الدولة"، وتخلفها عن روح العصر، وتناقضها مع إيقاعاته
وتياراته الحداثية، وبالتالي ضرورة نبذ التعصب والتطرف والاستيطان، والتخلي عن
فكرة تفوق العنصر اليهودي، وحقه بالهيمنة والتوسع.
لكن
تشكل هذا الوعي سيحتاج فترة طويلة، وهو مسؤولية المجتمع اليهودي بالدرجة الأولى،
بوصفه المسؤول عن إنتاج كل هذا التطرف والغلو واليمينية. وما لم يتبلور هذا الوعي،
وتخرج أصوات يهودية منددة بسياسات الحكومات الإسرائيلية، وإذا ظلت إسرائيل مصرة
على فكرة القمع والهيمنة والقوة العسكرية، سيظل شبح الاقتتال الداخلي ماثلا أمام
الجميع، وبالتالي لا بد أن يخرج ويتجدد مرة ثانية وثالثة، وسيكون أهم عامل لتفكيك
الدولة، والذي سيسرع من انهيارها.
مع
نشوة النصر الذي حققه الفلسطينيون، ومع حالة التوحد على جانبي الخط الأخضر، والتي
بلغت ذروتها في يوم الإضراب الكبير، تفاءل البعض حينها لدرجة الاعتقاد بأن هزيمة
إسرائيل التاريخية صارت مسألة أسابيع أو أشهر، وأن انهيارها صار وشيكا جدا،
وبالتالي يتوجب استثمار الفرصة وطرح مشروع الدولة الواحدة في كل فلسطين، أي دولة
ديمقراطية دون صهيونية، وهي فكرة طرحتها فتح في العام 1968، لكن باعتقادي أن
موازين القوى لم تتغير لدرجة تسمح
بإمكانية تحقيق هذا الهدف.. ولأن إسرائيل استطاعت استيعاب الصدمة، وتمكنت من فرض
حلولها الأمنية، والتي وصلت درجة الانتقام..
ما يمكن تحقيقه، في هذه المرحلة، مواصلة
النضال، والبناء على ما تحقق من إنجازات وطنية، وسياسية، وحقوقية، واجتماعية، وصولا
إلى بلورة قومية عربية تفرض نفسها على الدولة، وهذا يقتضي إلغاء قانون القومية
اليهودية، وسائر القوانين العنصرية، ويتطلب اعتماد الوسائل السلمية، كنضال ضد نظام
أبارتهايد، لضمان انخراط كل فئات وشرائح وطوائف فلسطينيي الداخل، ولضمان ديمومته،
ولتفويت الفرصة على إسرائيل للاستفراد والبطش بهم، وبالتالي خسارتهم لكثير من
الإنجازات التي فرضوها على الدولة عبر نضالهم السلمي القانوني الطويل، أو استغلال
إسرائيل أجواء الفوضى الأمنية والاقتتال الداخلي لدفع العرب نحو التشريد والتهجير،
وفقا لمخططات اليمين الإسرائيلي.
وهذا يحتاج أيضا النضال مع القوى اليهودية والإسرائيلية
التي تؤيد ولو جزئيا الحقوق الوطنية والسياسية والاجتماعية لفلسطيني الداخل. وهو نضال
تراكمي طويل الأمد، أحيانا ضمن سقف قوانين الدولة، وأحيانا يتجاوزها.
وفي السياق ذاته، يتوجب على منظمة التحرير وسائر القوى
الفلسطينية إعادة تعريف المشروع الوطني التحرري، بما يضمن إشراك فلسطينيي الداخل،
ليكونوا في قلب المشروع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق