تتفاقم أزمة سد النهضة يوما بعد يوم، دون بوادر لحلها
سلميا، وقد تتطور الأمور إلى نشوب صراع عسكري، إذا ما اضطرت مصر إلى استخدام
القوة، بالرغم من الجوانب الخطيرة لهذه الخطوة، والتي على ما يبدو ستكون أقل ضررا عليها
من الخطر الحقيقي المتمثل بتعطيش الشعب، ومن جهة أثيوبيا قد تذهب في التحدي إلى
آخر مدى، في الدفاع عمّا تعتبره مصالحها الحيوية..
والخلاف حول نهر النيل ليس جديدا، ولم ينشأ بعد البدء
ببناء السد؛ بل إنه يرجع لأكثر من قرن، حين كان حوض النيل بأكمله يخضع للاستعمار
الأوروبي، والذي كان همه الرئيس الهيمنة على مياه النيل، بما يخدم مصالحه في
القارة، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول المتشاطئة، وعددها 11 دولة. وقد رأت إثيوبيا
أن الاتفاقيات التي عقدت بشأن تقاسم المياه لم تكن عادلة، وأنها سلبت دول المنبع (أثيوبيا
وأوغندا) حقها في المياه لصالح دولتَيْ المصب (مصر والسودان)، فيما ترى مصر أن
حصتها من المياه أقل من احتياجاها الفعلية، وبناء السد سيؤثر عليها سلبا..
يقع السد على النيل الأزرق على بعد 40 كلم من الحدود
السودانية الإثيوبية. وتقدر تكلفته الفعلية بحوالي خمسة مليارات دولار، بتمويل
غربي وأمريكي (البنك الدولي، وبنك الاستثمار الأوروبي، وبنك التنمية الإفريقي)،
والصين، وإسرائيل. وعند اكتمال عمليات الإنشاء سيكون أكبر سد كهرومائي في القارة
الأفريقية (والعاشر عالميا) بطاقة توليد تصل إلى 6 آلاف ميغاوات. وتخشى مصر بشكل
كبير من تراجع حصتها من مياه النيل على ضوء ضخامة المياه اللازمة لتعبئة البحيرة
الاصطناعية المتشكلة بمساحة 246 كيلومترا مربعا وتتسع إلى أكثر من 74 مليار متر
مكعب، وهي كمية تزيد عن حصتي مصر والسودان مجتمعتين.
لا تعاني أثيوبيا من خطر الجفاف، فلديها 9 أنهار و12
بحيرة، لذا فأن حاجتها للسد ليس لتخزين المياه، بل لتوليد الطاقة الكهربائية، حيث
70% من البلاد لا تصلها الكهرباء، وبالتالي فهي تعول على السد لإحداث تنمية كبيرة
في البلاد، وتحقيق عائدات سنوية تقدر بنحو ملياري دولار.
ولا تعترف أثيوبيا باتفاقية "أديس أبابا" لعام
1902، وتقول إنها أُجبرت عليها، والتي تنص على عدم قيام إثيوبيا بأي مشاريع أو
سدود على النهر قد تُؤثِّر على حصة مصر من المياه، ولا تعترف باتفاقية 1929، التي
تعطي لمصر حق الاعتراض على أي مشروع مائي على نهر النيل، ولا باتفاقية 1959، التي
تعتبرها مجرد اتفاقية ثنائية بين مصر والسودان.. وكبديل عن هذه الاتفاقيات، وقعت
ستة من دول المنبع عام 2010 "اتفاقية
عنتيبي"، والتي اعتبرتها تلك الدول عادلة للجميع، فيما رفضتها مصر والسودان.
بدأ التفكير العلني بناء سد النهضة في العام 2001، أما
حجر الأساس فقد تم وضعه في العام 2011، ومن الواضح أن توقيت الإعلان قد جاء متأثرا
بالتغيرات السياسية الإقليمية التي حدثت آنذاك؛ انفصال جنوب السودان، حيث دولة
الجنوب ضعيفة ومتخلفة، ولن يكون بمقدروها التأثير في المحيط، أما الخرطوم فكانت
غارقة في أزمات اقتصادية وسياسية بسبب قرار المحكمة الدولية لمحاكمة البشير،
وتداعيات أزمة دارفور، أما في مصر فقد اندلعت ثورة يناير، التي أدخلت البلاد في
مرحلة اضطرابات سياسية وقلاقل داخلية، أدت إلى تراجع نفوذها الإقليمي؛ بل وتراجع
الدور العربي عامة.
كان موقف السودان معارضا للسد، ثم تغير، وفي تصريح لوزير
المياه والسدود السوداني "معتز موسى" قال: إن السد لن يؤثر على حصة
السودان من المياه، بل سيحميها من الفيضانات والجفاف، وسيزودها بمصادر إضافية من
الكهرباء، لذا فهي غير معارضة تماما..
أما مصر، فهي معارضة منذ زمن بعيد، وقد سبق لها قصف منشآت
تتعلق بالسد عام 1976، لكن الموقف اليوم مختلف، وعلى ما يبدو أن الوقت قد فات على
إمكانية توقيف بناء السد، فقد وصل المشروع إلى نقطة اللاعودة، وما هو مطروح حاليا
في المفاوضات هو فترة ملء السد، حيث تريد أثيوبيا ملئه في ثلاث سنوات، فيما تطالب
مصر بخمس سنوات على الأقل، ومن الواضح أن أثيوبيا تعطل المفاوضات كسبا للوقت، إلى
حين اكتمال البناء، ويصبح السد أمرا واقعا.
تخشى مصر من خطر العطش، في حال انخفاض حصتها من مياه
الشرب، التي لم تعد كافية بعد الزيادة الكبيرة في تعداد السكان، وحيث ستتأثر 50%
من الأراضي الزراعية.
وهناك دراسات بحثية عبرت عن مخاوفها من آثار بيئية مدمرة
للسد المقام فوق أرض قلقة زلزاليا، ومع الأوزان الهائلة للمياه المحتجزة قد ينهار
السد مع أول زلزال، وبالتالي سيغرف السودان في الفيضان، والطمي، فيما يشكك
الأثيوبيين في دقة تلك الدراسات.
هل
يمكن لأزمة خطيرة من هذا المستوى أن تكون بمعزل عن إسرائيل؟
إسرائيل
ومنذ بداية الستينيات وهي تولي اهتماما كبيرا لإفريقيا، وبالذات منطقة حوض النيل
والقرن الإفريقي، لأسباب إستراتيجية وسياسية وأمنية، ولم يعد خافيا دعم إسرائيل لأثيوبيا
في بناء السد (تقنيا، وماديا، وأمنيا)، وأكد وزير الري والمياه المصري السابق محمد
علام وجود طابق كامل في مبنى وزارة المياه والكهرباء الإثيوبية يقيم فيه خبراء
إسرائيليون، يقدمون الخبرة التفاوضية والفنية للفرق الإثيوبية، وتحدث نائب رئيس
الأركان المصري محمد بلال عن وجود إسرائيليين يعملون في السد، وعن شركات إسرائيلية
لها علاقة باحتياجات السدّ، كما أكد النائب المصري أحمد العضوي وجود عشر مؤسسات إسرائيلية
تعمل في إثيوبيا، وأن الدعم الإسرائيلي لأثيوبيا يستهدف التأثير على المصالح
المصرية وأبرزها حصة مصر من النيل. وفي 2019، نصبت إسرائيل منظومة دفاع جوي من نوع
سبايدر حول السدّ، يمكنها إسقاط الطائرات الحربية على بعد 5-50 كلم. ما يعني أن مصر ستقاتل عمليا إسرائيل في حال شنت هجوما على سد
النهضة في أثيوبيا.
مع تعثر
المفاوضات، باتت المنطقة تترقب بأعصاب مشدودة اندلاع حرب، وإذا لم تندلع، سننتظر
سنوات ثقيلة حتى يمتلئ السد، وخلالها سيترقب المصريون كيف ستؤمّن الدولة حصتهم من
المياه، وكيف ستحميهم من العطش.. فيما سينتظر الأثيوبيون الكهرباء، وسيختبرون جدية
وعود الدولة بشأن التنمية، وسنعرف لمصلحة من كان بناء السد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق