أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

فبراير 19، 2021

مسؤولية الإنسان عن تصرفاته

 

عاش الإنسان نحو مائتي ألف سنة من تاريخه الطويل، معتمدا على الصيد وجمع الثمار.. وقبل نحو 12 ألف عام أطلق الثورة الزراعية، بعدها بنحو خمسة آلاف سنة بدأ يبني المداميك الأساسية للحضارات.. ومنذ الألف الثانية قبل الميلاد أخذ يهتدي للديانات السماوية.. وفي القرون الخمسة الأخيرة بدأ بعصر النهضة، ثم أطلق الثورة الصناعية، فالثورة المعلوماتية..

تلك أهم الحقب المفصلية في تاريخ الإنسان، وقد أحدثت كل حقبة نقطة تحول كبرى في حياته، ومن جميع النواحي.. ما يهمنا هنا تلك التحولات المتعلقة بتكوينه النفسي والفيسيولوجي، والعلاقة بينهما، وأثر ذلك على تصرفاته وشخصيته.

وطالما أن مرحلة الصيد وجمع الثمار هي الأطول مقارنة ببقية المراحل، فمن المتوقع أن يكون لها أثرا كبيرا ومهما.. فقد تركت فينا أبرز صفاتنا السيكولوجية، وطبّعت سلوكياتنا وطرائق تفكيرنا إلى حد كبير، ومن مخلفات تلك الحقبة ما اكتسبناه من ممارسات يومية مثل الخوف، ردات الفعل الغريزية، الميل للعنف، صراع البقاء..

لكن الأثر الأكبر والأهم يعود إلى ملايين السنين التي سبقت ظهور نوعنا العاقل، أثناء مسيرة تطوره البطيئة، حيث طبعت الجزء الأطول في سلسلة الجينوم البشري، وورثت القدر الأكبر من جيناتنا، المسؤولة عن تصرفاتا وطبيعة أجسامنا.  وللتوضيح؛ عادة النوم مثلا، اكتسبناها منذ أن بدأت أولى الكائنات التي غادرت البحر تتكيف مع ظروف اليابسة الصعبة، وتقلبات المناخ الحادة، وشح الموارد، فكان النوم الحل الأمثل لتوفير الطاقة، وإسكات فعاليات الجسم وعملياته الأيضية أطول فترة ممكنة.. تماما كما تواصل الدببة فعل نفس الشيء من خلال السبات الشتوي.

في مرحلة الصيد كان الرجال من يتولون مهمة ملاحقة الطرائد، وهي مسألة تحتاج تركيزا أحاديا، وتقتضي ممارسة العنف، وتتطلب الصمت.. بينما كانت النساء يتولين مهمة قطف الثمار، وإعداد الطعام، ورعاية الأطفال، وهي مهمات متعددة،  لا تحتاج عنف، ولا تقتضي الصمت..

اليوم، نلاحظ أن الرجال (وخلافا للنساء) يميلون للعنف أكثر، يتحدثون أقل، ولا يستطيعون توزيع تركيزهم على أكثر من مهمة واحدة في الوقت نفسه.

وفي مرحلة الزراعة بدأ الإنسان بتنظيم الجنس، وتكوين العائلة، والمجتمعات، وتنظيم العلاقات، وتقنين العنف، وتأسيس أول عقد اجتماعي أخلاقي، ما زال يطوره إلى اليوم..

إضافة إلى تأثير الجينات، سنجد تأثير بنية الدماغ، حيث كل قطاع فيه مسؤول عن جانب معين من وظائف الجسم؛ المنظومة الحوفية (وهي الأقدم في تاريخ تطور الدماغ) مسؤولة عن السلوك الغرائزي، وردات الفعل، واتخاذ القرارات الغريزية البدائية (القتل مثلا)، بينما قشرة الدماغ الأمامية مسؤولة عن التفكير الواعي والتصرفات والتفاعلات الاجتماعية، والسلوك المدرك المنضبط (الحوار مثلا)، وكلما كانت القشرة الدماغية أنشط وأنضج يكون سلوك الفرد أكثر تهذيبا وتحضرا.. وكلما كانت المنظومة الحوفية أكبر تصرف الفرد بصورة بدائية، لأنَّ تلك البنية الدماغية فطرية، ما يعني أن بعض المجرمين صاروا مجرمين لأن المنظومة الحوفية في أدمغتهم غلبت القشرة الدماغية، والأشخاص الهادئين والحكماء والمبدعين صاروا كذلك لأن قشرتهم الدماغية متطورة أكثر.

نأتي إلى تأثير الهرمونات، وهي الأكثر وضوحا، حيث تؤثر على أغلب مناحي حياتنا، وعلى أمزجتنا، وكيفية اتخاذنا للقرارات، بما في ذلك أهمها على الإطلاق: الحب والزواج؛ وحسب من يعتبرون الإنسان مكونا من أعصاب وهرمونات وتفاعلات بيوكيمائية.. فإن الحب هو تفاعل هرموني، ينشأ ويجري في العقل بفعل هرمون الدوبامين، الذي يمنح شعورا بالانجذاب والراحة للطرف الآخر.. وحين يضعف هذا الهرمون، يضعف معه الحب.. والمشكلة أن لهذا الهرمون عمرا محددا، ما يعني أن للحب فترة صلاحية، مدتها بحدود السنة للرجل، وسنوات أطول بكثير عند المرأة..

وحسب هؤلاء أيضا، فإن عقولنا وعواطفنا وأمزجتنا محكومة بآليات كيميائية حيوية تطورت عبر ملايين السنين، وبالتالي فإن السعادة يحددها نظام معقد من هرمونات السيروتونين، والدوبامين والأوكسيتوسين، وما إحساس الفرد بالسعادة وردة فعله تجاه أي حدث يدعو للغبطة، أو سماعه خبرا مفرحا، أو التقائه بالحبيب.. إلا ردات فعل الهرمونات التي تجري في دمه، ونتيجة دفقات من الإشارات الكهربائية التي تومض وتخفت في دماغه. وهذا النظام مبرمج ليحافظ على مستوى ثابت من السعادة بحيث لا تزيد ولا تنقص، ولكل شخص نصيبه من مقياس السعادة، فإذا افترضنا جدلا أن هذا المقياس من واحد إلى عشرة، فإن أغلب الناس سيكونون ضمن معدل من ستة إلى ثمانية، وإذا ما انخفض المؤشر أو ارتفع فإن الهرمونات تعيده إلى المعدل الطبيعي، وهناك أشخاص بطبيعتهم يحظون بمؤشر منخفض، وهؤلاء من الصعب جدا أن يسعدهم شيء، وآخرون يحظون بمؤشر مرتفع، وهؤلاء دوما راضين ومكتفين ومبتهجين حتى في الظروف الصعبة.

هل المسألة تتوقف عند الجينات والهرمونات وخلايا الدماغ، وحظ كل فرد ونصيبه منها، ونسبتها في جسمه؟ الجواب لا، فهنالك فاعل آخر لا يخطر ببالك.. الباكتيريا والفيروسات..

يحمل جسم الإنسان (السليم والنظيف والمعقم) نحو ألفي نوع من الباكتيريا والفطريات والفيروسات، والتي يبلغ عددها نحو مائة ترليون خلية! وتلك الكائنات الدقيقة تسكن في مختلف أنحاء الجسم، بما فيه الدماغ، وهي بالعموم مفيدة، وتؤدي أدوارا حيوية وتساعد الجسم، وبعضها يساعد في إفراز فيتامينات أو أنزيمات، وبعضها تدخل في الجهاز العصبي، أو وتساهم في تصنيع هرمونات الدوبامين والسيروتونين وغيرها، وبالتالي فهي تؤثر على الحالة النفسية مثل القلق والتوتر والمزاج والنشاط والصحة.. المشكلة أن مقدار ونوعية وأثر تلك الكائنات الدقيقة يختلف من إنسان إلى آخر.

ما يعني أن الجينات والدماغ والهرمونات والميكروأورغانيزم هي من تقود الإنسان وتوجهه، وهي المسؤولة عن تكوينه النفسي، وعن تصرفاته، وطبيعة شخصيته.. فهل هذا يتنافى مع ادعاءات حرية الفرد وإرادته المطلقة؟ وما هو تأثير العوامل الخارجية: البيئة، الموروث الثقافي، الدين، القوانين، الأعراف، التنشئة الأسرية، التدريب؟!

هل الإنسان مجرد دارات عصبية وتفاعلات بيوكيماوية وشبكة معقدة من الهرمونات والخلايا العصبية؟ أم هو نفس وروح وعواطف ومشاعر وأحاسيس مجردة ووعي وضمير؟ وهذه كلها أشياء غير محسوسة.. من الأكثر تأثيرا؟ وهذا الموضوع ما زال موضع نقاش ساخن بين الفلاسفة والعلماء..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق