نحن العرب والمسلمين، وشعوب العالم الثالث
عموما لا نملك شيئا ذا قيمة نقدمه للعالم، وأقصد هنا أشياء مادية، كأدوات الإنتاج
مثلا، أو صناعات حقيقية، أو تكنولوجيا متطورة.. كنا نملك البترول، ولم نعد نملكه
فعليا، ولم يعد قطع النفط عن العالم سلاحا بأي معنى. حقيقةً لا نملك سوى أنفسنا
كقوة استهلاكية، أو سوق كبير لمنتجات الغير..
كان الزميل أكرم عطا الله قد نشر مقالا
تساءل فيه: "ماذا لو اختفى العرب جميعاً؟ ماذا لو أفاق العالم فجأة واكتشف
أننا لم نعد موجودين؟ بالتأكيد لن يخشى من خسارة أي شيء، فلن ينقطع الإنترنت ولن
تتوقف الأقمار الصناعية، ولا مصانع السيارات، ولا حركة الطائرات والقطارات، ولن
تتوقف أسواق البورصة، ولن يفتقد أي مواطن في العالم أي نوع من الدواء ولا المعدات
الطبية، ولا حتى السلاح الذي يقتل به بعضنا بعضا، فلم نقدم للعالم أي خدمة سوى
الكلام وصورة قتل بعضنا في الصحف ونشرات الأخبار".
ونظرا لضعف حالنا، وتشرذمنا، وهواننا على
أنفسنا، وبالتالي هواننا على العالم، فقد اعتاد الآخرون على الاعتداء علينا،
واحتلال بلداننا، ونهب مقدراتنا، وإهانة مقدساتنا ورموزنا.. كنا نواجه المعتدي بما
توفر من أدوات، وسلاح بدائي، وقد خضنا العديد من الثورات، وقدمنا تضحيات جسام..
فقد كانت لدينا إرادة، وإحساس بالكرامة، ورغبة بالثورة والتغيير..
اليوم، تغير العالم، وتغيرت معه معظم
المعطيات التي كانت سائدة، ونحن بدورنا تغيرنا.. ولكن على ما يبدو فقدنا البوصلة..
ومع كل ذلك، ما زلنا نمتلك أدوات وأسلحة
فعالة، لكننا لا نجيد استخدامها، أو نستخدمها بالاتجاه الخاطئ، ومنها سلاح
المقاطعة..
في العام 1989 أصدر الخميني فتوى باستباحة
دم الكاتب البريطاني سلمان رشدي، بسبب روايته آيات شيطانية.. والتي قال عنها بأنها
مسيئة للرسول.. وهنا لم يتأخر المسلمون في الاستجابة، على الفور خرجت مئات
التظاهرات في مختلف مدن العالم، أحرقت، وكسّرت، وهددت، ونددت.. وبعد أن كانت
الرواية مغمورة، ولم يسمع بها أحد صارت من أشهر الروايات العالمية، ولم يبقَ مثقف
أو فضولي إلا وقرأها..
وفي العام 2006 نشر رسام دانمركي
كاريكاتيرا قيل عنه أنه مسيء للرسول، وتكرر الأمر مرة ثانية.. موجة غضب عاتية
امتدت من الرباط حتى جاكارتا، أحرقت في طريقها الأخضر واليابس، وتمت الدعوة
لمقاطعة المنتجات الدنمركية.. علما بأن تلك الصور كانت قد نشرت قبل أربعة أشهر من
شيوع الخبر ولم ينتبه لها أحد، ولولا تلك الضجة لبقيت في عالم النسيان.
في 2015 هاجم مسلحون مجلة شارلي
أبيدو بباريس، وقتلوا 12 شخصاً وأصابوا 11 آخرين، بسبب نشرها رسوما كاريكاتيرية
اعتبرت مسيئة للرسول.. وخرجت مظاهرات غاضبة في مختلف مدن العالم تندد بالرسوم. وفي
الشهر الماضي قتل طالب فرنسي مسلم معلمه، لأنه أعاد نشر تلك الرسوم أمام التلاميذ.
وكما هو متوقع عمّت المظاهرات الإسلامية مدنا عديدة تنديدا بالرسوم.. إضافة إلى
دعوة لمقاطعة المنتجات الفرنسية.
لا جدال على أن حرية الرأي لا تبرر
التطاول على الرموز الدينية للشعوب، وأنه لا يوجد مسلم يقبل بتوجيه إهانة للرسول
الكريم، ولكن هل مجرد رواية، أو بضعة صور "أجزم بأن جموع الغاضبين لم يروها"
سببا كافيا لكل تلك الموجات العاتية من السخط والغضب! وطالما أن الأمر يتعلق
باحترام الرموز الدينية فلنا أن نتساءل: كم مرة داس الجنود الصهاينة المصحف الشريف
تحت بصاطيرهم في السجون الإسرائيلية؟ كم مرة أحرق الجنود الأمريكان صفحات من
القرآن الكريم في معتقل جوانتنامو؟ ألم يحرق الإسرائيليون المسجد الأقصى؟ ألم يقتل
متطرف إسرائيلي عشرات المصلين الفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي؟ ألم ينتهك الشرف
العربي بالمعنى المباشر في معتقل أبو غريب على يد مجندة أمريكية؟ ألم تسقط بغداد
أمام أعيننا وعلى الهواء مباشرة دون أن نحرك ساكناً؟ ألم تسقط أفغانستان من قبلها
في القبضة الأمريكية؟ ألا يعتبر احتلال فلسطين وتدنيس الأقصى إساءة لمشاعر
المسلمين! ألا يمثل مقتل آلاف العراقيين والسوريين واليمانيين وأكثرهم من الأطفال
سببا كافيا لاستفزاز المشاعر الإسلامية؟ ألا يستحق ضم الجولان وافتتاح سفارة
أمريكية في القدس مظاهرة واحدة؟
لماذا لم نعد نتأثر ونحن نتلقى كل
هذه الإهانات؟ لماذا لم نسمع طوال هذه الفترة عن دعوات لمقاطعة البضائع
الإسرائيلية ولا الأمريكية! ولم نرَ جموع الغاضبين وهي تندد بالسياسة الأمريكية!
لم تتعرض المصالح الإمبريالية لأي خطر! أم إنه مع الأسف حتى كلاب الحي لم تنبح!
طبعا، النزول للشارع، وتسيير
التظاهرات والمقاطعة الاقتصادية.. أسلحة فعالة، وضرورية، حتى يحسب الغرب لنا ألف
حساب قبل أن يفكر في إهانة مقدساتنا أو الاعتداء علينا في المستقبل.. على ألا تكون
مجرد هبات عاطفية، وأن تكون في الاتجاه الصحيح. لكن ما يحصل حاليا مقاطعة تصب في
مصلحة حرب تجارية تقودها وتؤججها الولايات المتحدة لخدمة مصالحها من جهة، ولتعميق
العداء الأوروبي / الإسلامي من جهة أخرى وحتى تظهر هي في النهاية كدولة حيادية
تحترم معتقدات الآخرين. وهي أيضا فرصة ثمينة لأردوغان وغيره لأن يظهر في زي حامي
حمى الإسلام، ليتزعم العالم الإسلامي، ولخدمة اقتصاد بلاده.. كما فعل من قبله
القذافي والأسد..
بدلا من مقاطعة زبدة اللورباك، وجبنة
كيري، وقلايات التيفال، وهي منتجات استهلاكية، لنفكر في مقاطعة ذات جدوى، أو لنفكر
بتطوير صناعاتنا، وتطوير عقولنا، لعل واقعنا يتغير، فيحترمنا الآخرون..
هنا في فلسطين، البعض يقاطع المنتجات
الفرنسية، ولا يتورع عن شراء التبوزينا والشمينت وجبنة عيمك.. وآخرون ينادون بفتح
باريس، وهم عاجزون عن دخول معبر قلنديا.. بعض دول الخليج المطبعة انضمت لقائمة
الدول التي تحظر وتجرم حركة مقاطعة إسرائيل BDS، لكنها
اليوم تنادي بمقاطعة المنتجات الفرنسية!! "أروني موقفا أكثر بذاءة"
(مظفر النواب).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق