حاليا، يشكل سكان المدن نحو 70% من سكان
الكوكب، ولدينا عشرات المدن الكبرى التي يزيد تعداد سكانها عن العشرة ملايين إنسان
(وتسمى مدن عملاقة).. تتربع طوكيو على القمة بتعداد يصل إلى 38 مليون إنسان، على
مساحة متصلة دون انقطاع تزيد عن العشرة آلاف كلم2، تليها دلهي بتعداد
27 مليون، ثم شنغهاي، بومباي، سان باولو، بكين، مكسيكو، أوساكا، القاهرة، وآخر
مدينة على قائمة أكبر عشر مدن في العالم هي نيويورك، بتعداد 19 مليون.
عادةً، لا يتم احتساب عدد سكان المدينة
فحسب، بل احتساب المنطقة الحضرية بأكملها المحيطة بحدودها والبلدات والضواحي
المجاورة المتصلة بها. وحسب معيار المساحة تأتي نيويورك ولندن وباريس ضمن المدن
الأكبر، لكنها أقل كثافة سكانية من مدن أصغر حجما وأكثر كثافة مثل الكثير من مدن آسيا.
تمتاز المدن الكبيرة بأنها تضم مجموعة
متنوعة من السكان، بما يشمل الأديان والثقافات والأعراق والمكانة الاجتماعية
المتباينة. وأهمية المدينة ليست بحجمها، بل بمدى تأثيرها في مجالات التجارة والمال، والإعلام والفن والأزياء، والعلوم
والتكنولوجيا والتعليم والترفيه والسياحة، وأيضا بقدرتها على احتواء سكانها، وبتعدّد
أنماطها الثقافية، وبروحها الحضارية، وبتراثها، وباحترامها للبيئة، وتكيفها
المستمر وقدرتها على التطور، ومستوى التكنولوجيا المتبع، ونظم اتصالاتها وطرق
مواصلاتها ومدى ازدحامها، وتخطيطها العمراني، ومساحاتها الخضراء، وطراز العمارة،
وأسواقها التقليدية والعصرية، وبمستوى الأمن الشخصي، وبطابعها الخاص.. فقد تلبي
مدينة صغيرة أغلب تلك المتطلبات، فتتفوق على كبريات المدن، من حيث أهميتها
وحضورها، وقدرتها على الجذب، وسعادة ورضا سكانها.
وهنالك ما يسمى بالمدن العالمية، وهي المدن المؤثرة في النظام الاقتصادي
العالمي، والتي تسيطر على قدر كبير من الصفقات التجارية العالمية مثل نيويورك، وهنالك
مدن أصغر مساحة وأقل سكانا لكنها أهم من مدن أكبر، مثلا، بومباي مساحتها 344 كم²،
لكنها المدينة الأولى في الهند، وتعتبر مركزها الاقتصادي والثقافي والتجاري.
وثمة مدن اكتسبت مكانة عالمية بسبب أهميتها الثقافية، واحتوائها قصورا
تاريخية ومتاحف ومعارض فنية مثل باريس وروما، أو بسبب إنتاجها السينمائي ومهرجانات
الأفلام مثل هوليود، أو بسبب الأزياء مثل ميلانو، أو بسبب الأوبرا والأوركسترا مثل فينا، أو بسبب الرياضة مثل مدريد وبرشلونة، أو لتنظيمها
المعارض الدولية المتخصصة مثل دبي، أو مدن القمار مثل فيغاس وماكاو.. وبعض المدن
الصغيرة اكتسبت شهرة عالمية لأسباب أخرى، كامتلاكها مزارات دينية مثل مكة والقدس والنجف،
أو بسبب أهميتها السياسية مثل رام الله.
مشكلة المدن الكبرى الازدحامات والمناطق العشوائية، وقدرة البنية التحتية
على تلبية حاجات سكانها.. وهذه المشكلة ستتفاقم أكثر في المستقبل، مع ازدياد
معدلات الهجرة إلى المدن..
في الوقت الحاضر نجد تجمعات مدن كبرى، تواصلت أطرافها واتحدت معا، حتى غطت
مساحات هائلة، وكأنها مدينة واحدة، فمثلا في كاليفورنيا ثماني مدن متصلة مع بعضها
ببناء عمراني ممتد، بمساحة تفوق مساحة فلسطين التاريخية، وبتعداد سكاني يبلغ 37
مليون نسمة. وتجد مثل هذه التجمعات في الصين واليابان والعديد من دول العالم.
أنت الآن تعيش في مدينة (مهما كان حجمها) بوسعك أن تركب سيارتك، وخلال
سويعات قليلة تكون خارج حدودها، حيث الطبيعة بتنويعاتها.. تخيل نفسك حين تحتاج نصف
نهار أو أكثر وأنت تتنقل بين غابات من الإسمنت والشوارع المزدحمة قبل أن تغادر
مدينتك، وهذا لن تفعله بسهولة، لذا ستشعر نفسك حبيسا في سجن كبير.
ثلث
سكان المدن العملاقة لا يرون نجوم الليل بسبب تشابك أضواء المدينة، ولا
يطئون التراب بأقدامهم الحافية، ولا يلمسون نبتة بأيديهم بسبب انعدام معالم
الطبيعة في بيوتهم وأماكن عملهم، ولا يسمعون حفيف أوراق الشجر ولا زقزقة العصافير
بسبب الضجيج والضوضاء، في ابتعاد عن الطبيعة يصل حد القطيعة. وهذه ستزيد من حالات
الكآبة، وتعمّق مشاعر الاغتراب، وأن الإنسان مجرد سن صغير بالغ الضآلة في ماكينة
عملاقة.
المدن
الحديثة تهتم بإيجاد متنزهات ومساحات خضراء داخل حدودها، وتراعي النظم البيئية، لكن
هذا لا يحدث دائما، وبالقدر المطلوب.
مدن
عديدة دخلت المستقبل في الآونة الأخيرة، بكل متطلباته وتجلياته الحديثة والمتطورة،
خاصة في سنغافورة، اليابان، الصين.. صُممت لتكون مدنا ذكية، ومثال على ذلك مدينة شنجن الصينية التي
كانت بلدة صغيرة لا يتجاوز سكانها 60 ألف نسمة قبل عقدين، اليوم تضم أكبر عدد من
ناطحات السحاب في العالم، وتفوقت على نيويورك، ووصل سكانها إلى 12 مليون.
خلال ثلاثة أعوام (2011~2013) استهلكت الصين كمية إسمنت تفوق ما استخدمته
أمريكا طوال القرن العشرين، ومنذ العام 2015 تبني الصين كل أسبوعين حياً جديداً
تعادل مساحته مدينة روما (روما التي استغرق بناؤها مئات السنين).. وتخطط الصين
لبناء مدينة تتسع لمائة مليون إنسان، بمساحة تفوق روما بمائة وثلاثين ضعف.
هذه المدن الحديثة يجري تصميمها على الحاسوب قبل بناء طوبة واحدة، والاعتماد
على الذكاء الاصطناعي، بحيث تُراعى أدق التفاصيل، بما يضمن الاستجابة لتحديات
المستقبل المعقدة، وعدد السكان الضخم، وتوفير شبكة اتصالات ومواصلات بأقل قدر من
الازدحام، وتجهيز بنية تحتية تضمن توفير المياه والصرف الصحي والاستجابة للكوارث،
وتوفير كافة الخدمات، بما فيها الرفاه والرعاية الاجتماعية، ومراعاة النواحي
الجمالية والثقافية. كل ذلك بشكل غير معهود، ومختلف عما نألفه في مدن اليوم.
في المستقبل، ستتضخم جميع مدن العالم بشكل سرطاني، ستنقسم كل مدينة إلى عدة
مستويات: المركز القديم والتقليدي، والذي سيكون عاجزا عن تلبية تحديات ومتطلبات
المستقبل، وعلى أطرافه وفي قلبه ستتضخم الأحياء الشعبية الفقيرة والعشوائيات، مثل
زائدة دودية متورمة، وستصبح الجحيم بحد ذاته، وفي الجانب الآخر ستكون الأحياء
والضواحي الجديدة الذكية، والتي تشبه الجنة.
مثل هذا المشهد نراه اليوم، لكنه في المستقبل سيكون أكثر حدة، وأكثر رعبا،
وأشد تعقيدا.. وبالمناسبة، المستقبل ليس ببعيد، حتى تلك الصورة التي ترسمها أفلام
الخيال العلمي بدأنا نرى تطبيقات عديدة منها في المدن الذكية..
التخطيط للمستقبل يبدأ الآن، شعوب كثيرة بدأت به، وقطعت أشواطا مذهلة..
مشكلة شعوب العالم الثالث أنها مغيبة، وغارقة في الأزمات، والمشكلة الأخطر أنها ما
زالت تعيش بعقلية القرون الوسطى.
هل سنكون جزءاً من المستقبل، أم عبئاً عليه؟ هذا هو التحدي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق