أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

سبتمبر 30، 2020

ألغام العقل واللغة

 

إلى أي حد ممكن أن نثق بكلام وآراء الآخرين؟ وقبل ذلك، هل يمكن الوثوق بآرائنا ووجهات نظرنا الخاصة كحقائق نهائية؟

عقولنا وأفئدتنا هي المسؤولة عن بلورة وجهات نظرنا، وهي المعيار الذي نحتكم إليه في بناء أحكامنا، حواسنا الخمسة، هي المدخل المادي الذي يوصل المعلومات لأدمغتنا، وحيث هناك يتم تسجيل ما سمعناه من أصوات، وتحميض ما رأيناه من صور، وإدخال البيانات المتعلقة بما شممناه من روائح، وما لمسناه من أسطح ومواد وأجسام، وطبخ كل تلك المعلومات، وتخزينها في الذاكرة، وبالتالي تكوين انفعالاتنا وعواطفنا وأحكامنا، وإنضاج أفكارنا وتصوراتنا ووجهات نظرنا المختلفة.

في الغالب، نعتمد بشكل كبير في صياغة أفكارنا وتحديد مواقفنا على ما نراه، وما نسمعه، وما نتذكره..

المشكلة إنّ كل إنسان تقريبا، يثق بحواسه وبعقله ثقة عمياء، وبالتالي لا يرى ضرورة للتشكيك، أو إعادة النظر، أو إجراء مراجعة لمجمل أفكاره وتصوراته، فهذه عملية مرهقة للدماغ، وتستنزف طاقة كبيرة، وجيناتنا مبرمجة على تجنب الإرهاق الفكري، وعلى جعلنا نميل للكسل الذهني، والاستراحة في واحات الاطمئنان لعوالمنا التي نشأنا عليها..

التشكيك في إحدى الحواس إذا كانت مصابة بعلة ما أمر سهل؛ لكن التشكيك بها إذا كانت سليمة أمر صعب، ولم نعتد عليه بعد، فمثلا نعتقد أنّ ما كل نراه هو الواقع تماما، وهذا غير صحيح؛ فحتى العين السليمة لا ترى كافة أجزاء الصورة، خاصة إذا كانت متحركة وتتضمن مشاهد عديدة؛ كما أنَّ الإحاطة بالمشهد تعتمد على اتساع الإطار، والزاوية التي نراه فيها. الأمر نفسه ينطبق على السمع، فنحن لا نسمع كل الأصوات، وأحيانا نسمع الكلمة بطريقة خاطئة، أو نفسرها كما يحلو لنا، ومن البديهي أن الذاكرة تُصاب بالضعف مع مرور الوقت، وكثيرا ما يتداخل الوهم مع الواقع، والخيال مع الذكريات، والتمنيات مع التحليل.. حيث أن الدماغ يخدعنا، أو يكون هو نفسه مخدوعا. وهناك عشرات الدراسات العلمية التي أثبتت ما ذكرته، ولا يتسع المجال لذكرها.

لو استمع مائة شخص لمحاضرة، ثم طلبنا منهم تلخيص أهم ما جاء فيها، سنحصل على مائة إجابة مختلفة، وبعد سنوات، سيكون البون بين الإجابات أشد اتساعا.. التباين والاختلاف سيظهر أيضا عندما نشاهد فيلما، أو نستمع لقصيدة، أو نقرأ رواية، أو حتى حين نسمع نفس نشرة الأخبار..

المشهد الذي نراه، والمعلومة التي نتلقاها تشكلان الركيزة لبناء وجهة النظر ووصف الحكاية وتحديد الموقف.. حتى لو كانت المعلومة صحيحة والمشهد واضحا، سنحصل على آراء متباينة.. فمثلا يمكن الاستناد إلى نفس المعلومات العلمية أو نفس الوقائع التاريخية، لكن الفرق سيظهر في النظريات التي ستُصاغ بناء عليها فيما بعد.. المشكلة أخطر عندما نبني حكما بناء على معلومة خاطئة، أو نتبع نهجا بناء على أشياء تتعلق بالبيئة والوراثة والموروث الثقافي دون تفكير منطقي، وهذا يفسر كيف أن عالما في الفلك أو الطب يتبع شيخ الطريقة أو زعيم الطائفة، وينحّي كل علمه جانبا..

اللغة لها قدرة عجيبة على الإقناع، أحيانا للتوضيح وأحيانا للتضليل، واللغة العربية بالذات لها ميزات فريدة تمكّن المتحدث بها من التلاعب بالمفردات والمترادفات، والاستفادة من سحر البيان، وبلاغة الألفاظ، ليكون مقنعا أكثر، وعندما نقول فلان مقنع لا يعني ذلك بالضرورة أن كلامه صحيح. الشكل وأسلوب الحديث ونبرة الصوت ولغة الجسد لها أدوار خطيرة في الإقناع؛ فمثلا نصدق المتحدث ونثق برأيه بحسب شكله (الزي والمظهر يعكسان المستوى الاجتماعي، والثقافي، والمكانة، وأحيانا الدين والطائفة) وهذا يعتمد بدوره على المتلقي.. نصدق المتحدث ونرتاح إليه حين يتحدث بهدوء ونبرة واضحة وبطلاقة لسان وكلمات فصيحة (أحيانا نرغب أن يكون الكلام مطعّما بمصطلحات كبيرة ومعقدة ومفردات أجنبية)، العوام تحب الكلام المرسل والعاطفي والخطاب الشعبوي والإنشائي، لأنه يلائم الغريزة أكثر.. بغض النظر عن محتوى ومضمون الكلام نفسه، حيث يلعب العامل النفسي دورا مهما.

الكتاب إذا كان مؤلفه شهيرا، أو كان من ضمن الكتب "الأكثر مبيعا"، أو إذا حظي بترويج إعلامي.. نهتم به، ونصدقه، خلافا للكتب التي مؤلفوها مغمورون، ولم يسمع بهم أحد، لذلك تخسر الثقافة العربية سنويا عشرات الكتب المهمة، لأن أصحابها غير مشهورين.

الكلمة نفسها، ومترادفاتها، استخدام حرف جر أو أدوات اللغة الأخرى، استبدال كلمة مكان أخرى، طريقة صياغة الجملة.. يمكن أن تقلب المعنى وتغيّر المقصود.. وهذا يحدث في العلاقات بين الناس، وكثيرا ما يؤدي إلى سوء فهم.

اللغة مطواعة بشكل لا يصدق، يمكنها تغيير المعاني، وتجميل القبيح، وتشويه الحسن، وتبرير الخطأ، وقلب الحقائق، وليّ ذراعها، حتى الهزيمة تحولها إلى نصر مبين.. وهذه مهارة يمكن تطويرها.

بواسطة اللغة يمكن أن نطلق تسميات مختلفة على مسمى واحد، والتسمية هنا ستغير المعنى بالكامل، فمثلا كلمة استعمار تثير في النفس مشاعر سلبية، بينما كلمة انتداب تأتي أخف وطأة، بالمثل يمكن استبدال كلمة الغزو بالفتح، والعنف الأسري بالتأديب، والاعتداء بالدفاع المشروع، والتكبر بالثقة بالنفس، والتزين بالتبرج، والجمال بالفتنة، والتزمت بالمحافظة، والكذب بالشطارة، والسرقة بالفهلوة، والفن بالخلاعة.. ويمكن عمل العكس، بحسب التسمية التي نطلقها.. وهذا يعتمد على الموروث الثقافي والديني.

في كل خريف تُسقط الأشجار أوراقها، ثم تستبدلها بأوراق جديدة.. أجدى بنا نحن البشر أن نسقط الكثير من المفاهيم التي تشربناها مطولا، دون أن نراجعها ونقيمها ولو مرة واحدة..

آن لنا أن نغادر واحاتنا الفكرية التي نمنا في ظلها قرونا، وأن نفتش بشجاعة وموضوعية عن أسباب تخلفنا..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق