السمندل، حيوان زاحف يشبه السحلية، لديه وسيلة فريدة في الدفاع عن نفسه، فإذا هاجمته أفعى مثلا، يقوّس جسمه أمامها، مظهراً رقبته الحمراء، فتدرك الأفعى أن جلده سام، فتتركه. أحيانا التهديد ينفع. بينما الضفدع الضخم لا يستوعب هذه الرسالة، فليتهمه بلقمة واحدة، وهناك في جوفه، يفرز السمندل سمومه، فيفتك بالضفدع في أقل من دقيقتين، ليغادر جوفها، مكملا طريقه وكأن شيئا لم يحدث. أي أنه اخترق العدو من الداخل، كحصان طروادة.
في الغابات الاستوائية المطيرة، ثمة نوع
من النباتات المتسلقة، أي التي يكون ساقها لينا، لا يقوى على حملها، فتحتاج إلى سند
تتكئ عليه في التسلق (مثل الهيدرا)، هذه النبتة تختار شجرة ضخمة باسقة، طولها عشرات الأمتار، فتطمئن هذه
الشجرة إلى أن جارتها المتسلقة إنما تتكئ عليها، بحثا عن الضوء، ومن فرط ثقتها
بنفسها تتركها تلتف عليها، ولكنها بعد فترة من الزمن، تجد نفسها عاجزة عن طرد
المتسلقة، أو إيقافها، فتواصل الضيفة المتطفلة مد أذرعها وأغصانها إلى أن تحيط
بالشجرة من كل جانب، ثم تبدأ بالضغط عليها، وخنقها، إلى أن تموت، وتصبح مجرد عامود
خشبي متين، يحمل نبتة متسلقة، وصلت أعلى قمة.
وفي تلك الغابات أيضا، ثمة نوع من الحشرات
الطائرة (تسمى الدبور الزمردي)، ربما تكون الوحيدة في عالم الحيوانات (بعد
الإنسان) من تمارس العبودية على غيرها، إذ تقوم أنثى الدبور بلسع نوع من الصراصير
التي بضعف حجمها، فتخدره تماما، ثم تقوم بسحبه إلى داخل مسكنها في باطن الأرض، ثم
تقوم بغرس بيوضها في جوفه، متخذة منه حاضنة ترقد على بيضها، بدرجة حرارة ملائمة،
ويظل الصرصور مخدرا إلى أن يفقس البيض بعد أربعة أيام، وتخرج اليرقات، فتجد
الصرصور نفسه طعاما لها، فتلتهمه ببطء إلى أن يموت.
أما طائر الوقواق، فهو العصفور الأكثر
خباثة، حيث تقوم أنثى الوقواق بوضع بيضة واحدة في عش طائر آخر، بدلا من أن تتعب
نفسها بعمل عش لها، بل إنها لا تتعب نفسها بالعناية بصغيرها، فتضع بيضتها بين بيض
الطائر المغدور، الذي لا يعلم ما سيجري لبيضه، وغالبا ما تفقس بيضة
"الوقواق" قبل بيض الطائر الأصلي. والأمر لا يتوقف على دهاء الأم واستغلالها للآخرين، وتطفلها عليهم، فجينات الخباثة تنتقل إلى صغيرها مباشرة، وهو قطعة من اللحم منتوف الريش، فيقوم الفرخ الصغير بمجرد فقصه من
البيضة بدحرجة بيض الطائر الأصلي صاحب العش
وإلقائه خارجا واحدة تلو الأخرى؛ حتى يصبح العش له بمفرده، وعندما يأتي الأبوان
الأصليان يظنان هذا الفرخ لهما، أو يشفقان عليه، فيقومان بإطعامه، ولأن حجم فرخ الوقواق أكبر من الأبوين
المغشوشين، فيستهلك طاقتهما إلى أن يُنهكا في رحلات مكوكية طوال ساعات اليوم في
إطعامه، إلى أن يكبر، وينمو
ريشه فيطير ويتركهما.
يقولون إن البطريق أكثر حيوان مظلوم، فهو طائر لا يطير، أقدامه القصيرة لا
تتيح له الركض بسرعة، ويعيش في أقسى بقعة على الأرض "القطب الجنوبي"،
حيث درجات الحرارة تهبط إلى دون الستين تحت الصفر، وحيث الليل يمتد ستة أشهر.. في
الصيف القصير جدا، تنشط البطاريق، وتتكاثر، وعند قدوم الشتاء، تكون قد وضعت بيضها،
ولأن برودة الجليد ستقضي على البيضة، تضطر الأم إلى حفظها بين قدميها حتى لا تلامس
الجليد، فتتقيد حركتها، وعليها أن تظل على هذا الحال واقفة طوال فصل الشتاء
القارس، ولحماية بعضها من التجمد بردا، تلتف البطاريق على بعضها في صفوف دائرية
متلاصقة، لتدفئ بعضها البعض، وبيوضها بين أقدامها، في هذه الحالة تكون البطاريق
التي في محيط الدائرة الخارجي عرضة للرياح شديدة البرودة، وفي ممارسة تعاونية
جماعية يبدأ البطريق الذي في محيط الدائرة باستبدال مكانه مع بطريق في الصف
الداخلي، ليحل الأخير محله، وهكذا تبدل مواضعها حتى يدخل من كان في المحيط إلى
المركز لينعم بدفء نسبي، ثم تُعاد الكرَّة، وهكذا يمضون ستة أشهر قاسية، إلى أن
يدفأ الجو قليلا وتفقص البيوض وتعود الذكور من المحيط، وقد جمعت غذاء يكفي إطعام
الأم الجوعى والوليد الجديد.
في موسم تكاثر الطيور يحاول الذكر استمالة الأنثى، وجذب انتباهها، إما
بالتغريد، أو بالمغازلة، أو بالرقص، أو باستعراض جماله، بفرد ريشاته، وتغيير ألوانها
وإبراز الزاهية منها.. وأجمل مثال هو ذكر الطاووس بذيله الفخم الزاهي المزركش
بالألوان، الذي يفرشه أمام الأنثى ليستميلها. وكذلك طيور الجنة تتبارى في إظهار
ريشها الحريري الجذاب. أما طائر الغطاس ورقصاته المتوجة فمن أكثر المشاهد إثارة، حيث
يسرع الزوجان جيئة وذهابا على وجه البحيرة رافعين جناحيهما وهما يهزان رأسيهما،
وفي نهاية الرقصة يغطسان في الماء سوية ثم يخرجان إلى السطح متقابلين وفي منقار كل
منهما قطعة عشب، ما يعني المشاركة وتبادل الثقة، وكذلك رقصة طائر البجع، التي
استوحي منها أوبريت رقصة البجع.
في عالم الطيور لا يستطيع الذكر الاقتراب من
الأنثى إلا إذا أظهرت رضاها وموافقتها، وبعضها بعد أن يتفق الزوجان، يُنذر الذكر سائر
الذكور بعدم الاقتراب من أنثاه، ليعيشا زوجين متحابين إلى أن يفرق الموت بينهما،
بينهما ثقة عالية، وتعاون كامل في بناء العش، والتناوب على تدفئة البيض، وإطعام
الصغار.
الطبيعة مليئة بالعجائب، وبالمخلوقات
الغريبة، لكن أغربها هو الإنسان؛ الإنسان أخطر وحش في الطبيعة، وأكبر عدو للبيئة،
وهو أيضا عدو لنفسه، ولبني جنسه، هو أكثر خبثا ودهاء، وأشد فتكا، وتطفلا، وعدوانا،
وتخريبا.. يسترق العبيد، ويستغل من هو أضعف منه، ويتكبر على من هو مختلف معه،
يسرق، ويكذب، ويغش.. وظَّف العلم في صناعة الأسلحة، واستغل الدين في افتعال
الحروب.. وانحاز لبدائيته وهمجيته..
وفي المقابل، الإنسان هو أذكى المخلوقات، صاغ
نظاما اجتماعيا معقدا، وبنى حضارة متطورة، واجترح منظومة الأخلاق والقيم والقوانين
الناظمة.. هو الكائن الاجتماعي المتعاون، هو الحنون، الطيب، المتسامح، هو من قال
في العشق شعرا، ومن نظم في وصف الجمال القصائد، من اهتدى لخالقه بروحه وقلبه، ومن
أوصله عقله إلى أقاصي الكون، ومكّنه من صناعة الموبايل، والإنترنت، هو الفنان
والمبدع والمخترع، هو الإنسان بفطرته النقية..
فاختر، أيّ إنسانٍ أنت؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق