(1~2)
في أواخر
عصر الميسونين، قبل ستة ملايين سنة، بدأ النيل يحفر مجراه منطلقا من بحيرة
فكتوريا، مروراً بسلسلة من الاتصالات المتبادلة بين عدد الأنهار المنفصلة، حتى اتخذ
مجراه الحالي قبل عشرة آلاف سنه، جالبا معه الخير والنماء لكل أرض يصلها، ويفيض
عليها بالخصب والحياة..
بسببه، ومن
خيراته عاش خلق كثيرون، وما زال ليومنا هذا الشرط الأول لبقاء الحياة على طول حوضه
الممتد لآلاف الأميال.. على ضفتيه نشأت أقدم الدول، وأول الحضارات، وكانت مصر هبته
الأثمن، فرفعه المصريون القدماء الي مصاف الآلهة، وأسموه "حابي"، إله
الخير والسعادة.
في القرن
الثاني والثلاثين ق.م تمكن الملك "نارمر" من توحيد مصر الجنوبية مع
الشمالية وإقامة أول دولة مركزية في التاريخ، ومن بعده حكمت البلاد ثلاثون أسرة
ملكية عرفوا بالفراعنة.. وبين "مينا" الفرعون الأول، و"نخت أنبو
الثاني" آخر فرعون، أنجز المصريون أعظم وأهم حضارة عرفتها الإنسانية.. فإذا
احتوت الدنيا بأسرها على عجائب سبع، فإن في مصر وحدها سبع عجائب، لا نظير لها في
أي مكان في العالم.
كان "سنفرو"
أول من بنى هرما، بتصميم بدائي، وظل هذا التصميم يتطور حتى جاء "خوفو"،
وبنى الهرم الأكبر، أطول وأعظم وأعقد بناء على كوكب الأرض لأربعة آلاف سنة، ما زال
هذا المبنى يجلب الأموال والسياح لمصر.. من بعده أتى "خفرع" فبنى هرما
ثانيا، وأضاف إلى جانبه أبو الهول، أضخم تمثال في العالم قُـدَّ من صخرة واحدة..
ومن بعده بنى "منقرع" هرما ثالثا، والذي بموته انتهى حكم الأسرة الرابعة..
ومن ضمن الأرقام القياسية التي حطمها المصريون حُكم "بيبي
الثاني"، الذي دام 94 سنة، وهي أطول فترة حكم في التاريخ، والذي بعد موته
انهارت الدولة المصرية القديمة.
ستمر على البلاد فترات ضعف وقلاقل، تخللها احتلال
الهكسوس، الذي دام قرنين، حتى طردهم "أحموس"، مؤسس الأسرة الثامنة عشرة،
أشهر وأهم أسرة في التاريخ الفرعوني..
في هذه الفترة تأسس أول جيش نظامي محترف في العالم، وتشكلت
أول بيروقراطية، ونعرف من هذه الأسرة "أخناتون"، أول من دعا لتوحيد إله
واحد، "أتون"، إله الكل.. و"توت عنخ آمون"، الذي أعاد البلاد
لدين إلهها القديم "آمون"، ومات عن ثمانية عشر عاما، وكانت مقبرته أول
وأعظم مقبرة مكتشفة غبر منهوبة، مليئة بالكنوز والمقتنيات الثمينة والأسرار
الدفينة.. وفي هذه الفترة برز دور ريادي للمرأة، فظهرت "حتشبسوت" العظيمة،
صاحبة أطول المسلات، التي حكمت كل مصر عندما كانت أقوى دولة في العالم،
و"نفرتيتي" الجميلة، و"نفرتاري" التي كانت تطلع الشمس لأجلها.
في عهد الهكسوس وفترات ضعف الدولة انتشرت سرقة المقابر،
التي كان يعرفها اللصوص من خلال الأهرامات، فتوقف الفراعنة عن بنائها، وبدأوا
يدفنون موتاهم في وادي الملوك، الذي ظل مخفيا لآلاف السنين..
ثم جاءت الأسرة 19، التي لا تقل أهمية عن سابقتها، ظهر
فيها "رمسيس الثاني" الذي حكم 67 سنة، وبنى معبد أبو سمبل، ويُقال إنه
الفرعون الذي تربى النبي موسى في بلاطه..
في الأُسر
العشرة التالية بدأت الدولة تضعف، فتداولها الفرس والأشوريين والرومان، إلى أن جاء
الإسكندر المكدوني.. والذي من نسل أحد جنرالاته، وهو "بطليموس"، تحدرت
"كليوباترا" أشهر النساء التي حكمت مصر، كانت ذات قوة حضور، وشخصيتها لا
تقاوَم، بقدراتها الدبلوماسية، ودراستها للرياضيات والطب والكيمياء، وإتقانها تسع
لغات.. كانت آخر ملوك البطالمة، وهي التي سجنت "يوليوس قيصر"، إمبراطور
روما، ثم تحالفت معه، ثم مع "أنطونيو" من بعده من أجل الحفاظ على قوة
مصر، لكنها انتحرت قبل 30 عاما من ميلاد المسيح.
في فترة الاحتلال اليوناني، الذي دام 300 سنة، أُلغيت
طبقة رجال الدين، لأنها غير منتجة، وهؤلاء وحدهم من يكتبون بالهيروغلوفية، وبذلك
انقطعت العلاقة بهذه اللغة، ولم تكن خسارة المصريين لغتهم الخسارة الوحيدة؛ فقد
خسروا حكمهم لأنفسهم لقرون طويلة قادمة..
بعد
البطالمة، استولى الرومان على مصر، لقرون ستة، باستثناء فترة وجيزة خضعت فيها لحكم
الملكة "زنوبيا".. ستصير "الإسكندرية" عاصمة للبلاد، وسيبنى
فيها منارة عظيمة، وأضخم مكتبة في العالم، وأهم متحف روماني؛
في تلك الحقبة كانت مصر من أوائل مراكز المسيحية في
الشرق. لكن موجة عنيفة من الصراعات الطائفية بين المسيحيين واليهود والوثنيين
ستضرب البلاد، وستؤدي إلى قتل "هيباتايا"، أجمل عالمة رياضيات، والتي
بعد مقتلها أُحرقت مكتبة الإسكندرية بكنوزها ولفائفها الثمينة، ليسود الظلام
والجهل في كل العالم القديم لخمسة قرون تالية..
في القرن السابع الميلادي احتل الفرس مصر، ثم طردهم الرومان،
ثم جاء الفاتحون العرب المسلمون داعيين إلى دين جديد، ولغة جديدة، مدشنين صفحة
جديدة في التاريخ المصري.
سيتعاقب على مصر بعد الراشدين الأمويون والعباسيون، ثم
الفاطميون، الذي أعادوا لمصر دورها المركزي، بعد أن ظلت ولاية على هامش
الإمبراطوريات، ثم جاء الأيوبيون ونكلوا بالفاطميين، للقضاء على التشيع.. في تلك
الفترة المضطربة مثلت "شجرة الدر" استثناء مشرقا، فهذه الملكة العظيمة
حكمت مصر في ظرف دقيق وصعب، وأثبتت تفوق المرأة وتمكنها، وأنقذت البلاد من
الانقسام، ومن بعدها جاء المماليك، لتشهد البلاد فترات ضعف وقلاقل، ومؤامرات على
السلطة، وتقاتل على من يستعبد المصريين، وكانت "الشدة المستنصرية"
الفترة الأسوأ، حيث دفعت المجاعة الناس لأكل بعضهم بعضا..
لكن المصريين في تلك الحقبة ردوا عن المشرق أخطر عدوين:
الفرنجة والمغول..
قبل 500 عام، رفض قائد المماليك "طومان باي" طلب
السلطان "سليم الأول" بالتسليم والخضوع لدولة الأتراك، فانتهى الأمر
بهزيمة المماليك في موقعة الريدانية (بعد هزيمتهم في مرج دابق)، ودخول السلطان
العثماني القاهرة، وشنق السلطان المملوكي وتعليق جثمانه على باب زويلة، لتنتهي 267
سنة من حكمهم.
لكن المماليك سينتهون للأبد بعد مذبحة القلعة، التي قتل
فيها "محمد علي" كل من تبقى منهم.
كانت "قلعة الجبل" (التي بناها السلطان الكامل
شقيق الناصر صلاح الدين)، مقراً للحكم، واستمرت كذلك حتى عهد "محمد علي"،
لينتقل مقر الحكومة من القلعة إلى قصر عابدين، في عهد الخديوي إسماعيل.
ستخضع البلاد لاحتلالين: الفرنسي، ثم البريطاني، وستنشب
ثورات وطنية، وستشهد تغيرات اجتماعية وثقافية عميقة.. ومع بداية القرن العشرين،
ستبدأ مصر عهدا جديدا ومختلفا..
(2~2)
منذ العهد الأيوبي حتى خروج العثمانيين، توقفت مصر عن
الإبداع الفكري والمادي، باستثناء محاولات "محمد علي" لبناء دولة عصرية،
والتي دفع ثمنها ثلث الشعب المصري، حيث أجبر على العمل بنظام "السخرة"..
مثّل مشروع "محمد علي" الطموح سابقة فريدة في
الشرق، حيث كانت مصر حينها أول دولة عصرية في الإقليم، وبدأت تظهر فيها معالم
الحداثة والتطور، لم يتمثل ذلك في تجهيز بنية تحتية متطورة ونظيفة، أو في شق قناة
السويس (التي ستغير معالم النظام الدولي)، بل في تكوّن نواة نخبة مثقفة، ذات توجه
حداثي ليبرالي، أخذت تنافس وتحل محل الأزهر.
لكن الثقافة
الشعبية ومنذ العهد الفاطمي، أبدعت الكثير: المعمار الفاطمي، المشربيات،
الأرابيسك، السبيل، التكية، زينة وفوانيس رمضان، مدفع الإفطار، المواسم الدينية،
الأعياد الخاصة كشمّ النسيم، الموالد، الأفراح، التصوف، الحرف التقليدية، الألقاب،
الأمثال الشعبية، بالإضافة للرقص الشرقي والنكات والأكلات المصرية الشهية، والحلويات
المميزة كالبقلاوة.. فصارت تلك العناصر سمات خاصة بالثقافة الشعبية المصرية.. شرقية
المظهر، عربية الملامح، إسلامية المحتوى، متسامحة، بسيطة، ولها جذورها الفرعونية..
ولها روافد مختلفة اللغة في الصعيد والواحات والنوبة وسيناء..
في بدايات القرن العشرين كان الشيخ محمد عبده مفتي مصر،
وهو شخصية معتدلة، ذو فكر متنور ونهج منفتح، فصار الفضاء الديني امتدادا لشخصيته؛
مرنا، متسامحا، محلقا.. والتدين الشعبي بسيطا وفطريا ونقيا، فظهرت كوكبة من
العلماء والأدباء والفنانين والمفكرين شقوا بداية الطريق لنهضة مصرية كان يمكن لها
أن تنتج الكثير..
ما عزز ذلك، تبلور طبقة أرستقراطية من بقايا الإقطاع،
ذات تقاليد راسخة، لديها وسائل إنتاج وطنية، وطبقة وسطى عريضة متعلمة، ونظام سياسي
وفّـرَ قدرا معقولا من الأمن والحريات والازدهار الاقتصادي، رغم ما شابه من فساد
وترف واستبداد، وهيمنة الإنجليز على مراكز صنع القرار.. انتهى هذا العهد الملكي
بسلبياته وإيجابياته في ثورة يوليو 1952.
كان عبد الناصر أول مصري يحكم البلاد منذ ألفي سنة،
فطوال هذه المدة كل الذين حكموا مصر لم يكونوا مصريين.. وهذه ليست السمة الوحيدة
في تاريخ المصريين؛ فقد بدلوا ديانتهم ولغتهم ثلاث مرات على الأقل.. طيبة
المصريين، وبساطتهم، وفقرهم، وبرتوكولاتهم الاجتماعية بمضامينها الطبقية.. عوامل
موضوعية أثرت عميقا في تشكيل التاريخ المصري..
وكما بالغ الناصريون في تشويه صورة العهد الملكي، بالغ
الإسلاميون في تشويه صورة عبد الناصر وثورته، وقللوا من أهمية منجزاته..
لم تنحصر مآثر عبد الناصر في تأميم القناة، أو بناء السد
العالي، أو القضاء على الإقطاع، ووعود بعدالة اجتماعية.. كانت في خطابه السياسي،
رغم شعبويته، حيث استشعر كل عربي في زمنه بمعاني الفخار القومي، كانت خطاباته
وأغاني أم كلثوم مطلع كل شهر أهم عنصرين في توحيد مشاعر العرب أجمعين.. وكانت مصر
في مصاف الدول القوية، وذات دور إقليمي محوري.. لكن أخطاء عبد الناصر كانت مثل
منجزاته؛ كبيرة..
رغم سياسات "السادات" الاقتصادية والاجتماعية،
التي سماها "الانفتاح"، وكل ما نتج عنها من أزمات، إلا أن طعم الزمن
الجميل كان ما زال ماثلا طوال عقد السبعينات، لكنها شكلت مقدمات للحقب التالية،
التي اتسمت بالنكوص وتراجع مكانة مصر.. وستظل في انحدار مستمر طوال ثلاثة عقود من
عهد مبارك..
ستقوم ثورة يناير، وستطيح بالرئيس المستبد، لكنها ستعجز
عن إحداث التغيير المجتمعي والفكري كشرط أساسي لاستئناف النهوض من جديد، وستمر على
البلاد فترة من الفوضى، ستنتهي بقدوم أول رئيس مدني منتخب "مرسي"، الذي
سيحكم سنة واحدة، وسيقترف فيها من الأخطاء ما يكفي لاندلاع ثورة شعبية ضده،
سيخطفها العسكر من جديد، وسينقلبون على الحكم، منهين بذلك على بذور
"ديمقراطية" كانت على وشك التشكل..
عندما كانت قِبلة مصر المعرفية والثقافية باتجاه الشمال والغرب، ظهر أحمد
شوقي، وطه حسين، وعباس العقاد، والمنفلوطي، والمازني،
وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وعبد الرحمن بدوي، ولطفي السيد، وعلي
عبد الرازق.. وعندما تحولت صوب الشرق، تمثلت الفكر الوهّابي، فظهر محمد عمارة،
وسليم العوا، والشيخ حسان، والشيخ كشك، وعمر عبد الرحمن، وزغلول النجار، ووجدي
غنيم.
وهو "تطور" عكسي، كانت نتائجه نكوص الثقافة المصرية التقدمية
والليبرالية المنفتحة على آفاق الأنسنة واستبدالها بثقافة متزمتة مغلقة..
وهي
انتكاسة مماثلة لما ألمَّ بالإنتاج الفني والأدبي والسينمائي والمسرحي، ففي العقود
الثمانية الأولى من القرن العشرين لم تتوقف مصر عن الإبداع بكل أنواعه، فظهرت أم
كلثوم، وعبد الحليم، وعبد الوهاب، والأطرش، وشادية، وسعاد حسني، وأحمد زكي، ونور الشريف ونادية
لطفي، وعشرات غيرهم.. لكنها بعد ذلك ستفقد قدرتها على تجديد مثل هؤلاء العباقرة..
ستظهر ما تعرف بالسينما النظيفة، وظاهرة الفنانات المعتزلات، والأغاني الشعبية الهابطة،
وسيهبط سقف الحريات كثيرا، وستنشغل الحكومة ومعها المجتمع في محاكمات المفكرين
وقتلهم، وتكفيرهم، ومطاردة المعارضين واعتقالهم، وسيصير التطرف الديني،
والعشوائيات، والتحرش بالنساء السمات الجديدة للثقافة المصرية.. وسيهبط الإعلام
عند مستوى عكاشة وأحمد موسى ولميس الحديدي.. وكل هذا نتاج متوقع لحكم العسكر..
لكن مصر، ورغم كل ما أصابها تظل عصية على الكسر؛ تداولها
الفاتحون والغزاة فابتلعتهم، دخلها العرب فقادتهم، تعاقب عليها الطغاة والمستبدون
وظلت منارة إشراق وإبداع، أصيبت بالنكسة، فاجترحت العبور، وقّعت حكومتها "كامب
ديفيد"، فرفض الشعب التطبيع، وحتى في أسوأ مراحلها قدمت "زويل"،
وفاروق الباز"، و"مجدي يعقوب" و"مصطفى السيد"، و"محمد
صلاح"..
مصر التي في
خاطرنا هي الشيخ إمام، وفؤاد نجم، وأمل دنقل، والأبنودي، وعمر محجوب، وعبد المنعم
رياض.. هي بليغ حمدي والنقشبندي وعبد الباسط، هي الأزهر ودار الهلال والمعارف
ومدبولي، ومقهى الفيشاوي، والأزبكية، والحسين، والنادي الأهلي.. هي ابن البلد بخفة
ظله، والصعيدي بسمرته وشموخه، هي عيون بهيّة، والعمال الكادحين.. هي التي أنتجت
قبل كل البشر الأديان والشعر والأدب..
ذُكرت
في القرآن مقترنة بالأمان، وبخزائن الأرض، وهي التي أُفرد لها عِلم خاص سمي "علم
المصريات".. هي أرض الكنانة، والمحروسة، والشقيقة الكبرى لكل عربي..
يستحق
المصريين قيادة نزيهة وعادلة، ونظام ديمقراطي يليق بتاريخهم الطويل والحافل..
لكنهم من أجل ذلك يحتاجون ثورة فكرية وثقافية، تعيد بناء الإنسان المصري، وثورة
اجتماعية تطيح بالفاسدين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق