في "كيب تاون" ثمة تمثال متوسط الحجم لأول
مستعمر هولندي يطأ أرض جنوب أفريقيا "جان فان ريبيك"،
ومع أن هذا الرجل جلب ثلاثة قرون ونصف من العنصرية والاستعباد لجنوب إفريقيا، ومع
ذلك، بعد سقوط نظام الفصل العنصري 1994، إلا أن السكان لم يزيلوا تمثاله، ولم
يحطموه! ربما لأنهم أرادوا الاحتفاظ بذكرى ما عن تلك الحقبة البائسة، أو لأن
الديمقراطية الجديدة استدعت منهم الصفح والتسامح، من أجل التعايش والمستقبل..
من وجهة نظري، إذا كان لا بد من الاحتفاظ بتماثيل لرموز من حقبة
الاستعمار والعبودية كنوع من الاحتفاظ بسجل تاريخي توثيقي، فيمكن ذلك، على أن تُخصص
لهم ساحة معينة، ويفضل أن تكون مكب نفايات، وهناك توضع رموز تلك الحقب المظلمة،
بحيث يظل الذباب والبعوض وسائر الحشرات تنهش وجوههم، وتقض مضاجعهم، فلا تهدأ
أرواحهم.. وكل من يأتي للتفرج عليهم، سيشتم روائحهم النتنة، ويراهم على حقيقتهم
البشعة.
إذا تم اعتماد هذا الاقتراح، سنجد في تلك الساحة تماثيل كلٌ من:
"كولومبوس"، "خوان دي أونيت"، "توماس جيفرسون"،
"جون سوتر"، "جيفرسون ديفيس"، "روبرت ميليغان"، "إدوارد
كولستون"، "سيسيل رودوس"، "ليوبولد الثاني"،
"ونستون تشرشل".. وهؤلاء من تم تحطيم تماثيلهم حتى الآن، أو إلقائها في
النهر من قبل محتجين على العنصرية، خلال المظاهرات الغاضبة التي اجتاحت مدن
أمريكية وأوروبية عديدة بعد مقتل الأمريكي من أصل أفريقي "جورج فلويد"
في أيار الماضي، على يد شرطي أبيض متعصب، وبطريقة قاسية. وبالتأكيد هنالك عشرات
التماثيل الأخرى حول العالم التي يجب وضعها في تلك الساحة، والتي سيكون اسمها
"مزبلة التاريخ"، حيث مكانهم الطبيعي.
ماذا حصل لتماثيل هؤلاء المجرمين؟
و"كولومبوس"، وهو من يُنسب إليه اكتشاف أمريكا، والذي تعامل مع
السكان الأصليين بوصفهم حيوانات، ولا يستحقون رحمة الرب. كان يقتل كل من يُصاب بالزكام،
أو بأي مرض آخر، خشية العدوى، ويقدم أجسادهم طعاماً للكلاب. سخَّر السكان الأصليين
بما لا يطيقونه، واستعبدهم، وكان يطلب من كل شخص حتى الأطفال جمع مثقال كشتبان من
الذهب، ومن يعجز عن ذلك كان يأمر بقطع أذنيه، أو إحدى يديه، وتركه ينزف حتى يموت،
وهكذا قتل في عامين 250 ألفاً من سكان جزر الكاريبي.
في نورث كارولاينا، وسكرامنتو تم تحطيم تمثال لعنصري
أبيض اسمه "جون سوتر"، وهو
مستوطن مشهور بدوره في حمّى الذهب في كاليفورنيا، الذي استعبد واستغل السكان بطريقة
وحشية ولا إنسانية.
في ريتشموند، فيرجينيا، حطم المتظاهرون تمثال
"جيفرسون ديفيس"، رئيس الولايات الكونفدرالية في فترة الحرب الأهلية،
والذي كان من أشد أنصار العبودية.
وضمن موجة التظاهرات ضد العنصرية، أضرم محتجون بلجيكيون النيران في تمثال
"ليوبولد الثاني" في العاصمة بروكسل، وفي مدينة أنتويرب، كما فككت
السلطات تماثيل أخرى، بعد أن صبغها المتظاهرون بالطلاء الأحمر في مدينتي غينت
وأوستند. و"ليوبولد الثاني"، هو ملك بلجيكا، المتورط بقتل 10 ملايين
إنسان، خلال فترة استعمار الكونغو، وكانت ممارساته في غاية الوحشية والدموية، حتى
أن الدول الاستعمارية الأخرى أدانتها، فقد كان يطلب من كل شخص (بما في ذلك النساء
والأطفال) جمع مقدار معين من المطاط، ومن يعجز كان يقطع يده، وقد قطع بالفعل مئات
آلاف الأيدي.
في نيومكسيكو، حطم المتظاهرون، وبمعاونة البلدية
تمثال "خوان دي أونيت"، الغازي الإسباني، والحاكم المستبد للمكسيك في
القرن السادس عشر، والذي نفي منها بسبب معاملته القاسية والوحشية للسكان الأصليين.
في
لندن، أزيل تمثال لتاجر العبيد الشهير "روبرت ميليغان" من أمام متحف
دوكلاندز، تحت إلحاح الجماهير الغاضبة، نظرا لسوء سمعته في الاتجار في العبيد،
ومعاملتهم دون رحمة، والذي كان يمتلك مصنعين للسكر في جامايكا وأكثر من 500 عبد.
وفي مدينة بريستول جنوب بريطانيا، أزال المتظاهرون المناهضون للعنصرية تمثالا
لتاجر العبيد "إدوارد كولستون" من إحدى الساحات. وفي مدينة ساندرلاند شمال بريطانيا، حطم المتظاهرون تمثالا للجنرال "هافلوك"،
المسئول عن سحق المظاهرات الشعبية في الهند عام 1857، عندما كانت تخضع للاستعمار البريطاني.
كما أعلن عمدة لندن "صديق خان"، عن إجراء مراجعة لكل التماثيل الموجودة
في المدينة وأسماء شوارعها، وضرورة إزالة أي تمثال أو اسم شارع له علاقة بالعبودية.
كما قامت الشرطة البريطانية بتغطية تمثال "ونستون تشرشل" المنتصب في
ساحة البرلمان بألواح خشبية، خشية تحطيمه من قبل المتظاهرين، حيث أن اسمه ارتبط
بالعنصرية.
وكانت بريطانيا قد
دمرت سجلات الجرائم التي ارتكبت خلال حقبة الاستعمار بعد استقلال مستعمراتها
السابقة؛ حيث حرصت وزارة المستعمرات خلال السنوات الأخيرة من حكم الإمبراطورية على
إتلاف سجلاتها للحيلولة دون وقوع المعلومات المحرجة المتعلقة بالممارسات
الاستعمارية في أيدي الحكومات المستقلة حديثًا.
تحطيم تلك
التماثيل، وهذه المظاهرات الشعبية التي جرت في مدن عديدة في أوروبا وأمريكا منذ بداية حزيران 2020، على أثر مقتل
"فلويد"، لها دلالات عميقة، من أبرزها أن العالم الجديد بدأ يتعافى
"إنسانيا"، ويسترد جزءا من إنسانيته التي فقدها لقرون عديدة، وكان
خلالها يمارس أفظع أشكال التنكيل والاضطهاد بحق الشعوب المستضعفة، ويمارس العنصرية
بأبشع صورها، ويتاجر بالعبيد دون أي اعتبار لإنسانيتهم.
في
تلك الحقب البائسة كانت تلك الممارسات عادية ومقبولة وغير مستنكرة، ولكن منذ إلغاء
العبودية، وبعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، بدأ ضمير العالم يصحو شيئا فشيئا، في
البداية على شكل قوانين تتخذها الحكومات والمنظمات الدولية، ثم بدأ الوعي الجمعي
يستوعب مدى بشاعة العنصرية، ويخجل من تاريخ استعباد الإنسان لأخيه الإنسان. ولكن
العالم لم يبرأ تماما من هذا الوباء؛ فما زالت العبودية والعنصرية موجودة بأشكال
عديدة، لكن تلك المظاهرات تدعونا لإعادة الثقة بالإنسانية من جديد، وتحيي الأمل
بأن بنو البشر سيتخلصون ذات يوم من كل أشكال العبودية والاضطهاد والعنصرية
والاستقواء على الضعفاء.
شكرا
لكل من أدان العنصرية، ولكل من تخلص منها في أعماقه الدفينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق