أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

ديسمبر 27، 2018

تحديث الخطاب الديني


 (1~2)

يُعتبر ابن إسحاق (85~151 ه) أول من كتب السيرة النبوية، بأمر من الخليفة أبو جعفر المنصور، ولولا ابن هشام (ت 218 ه) لما عرفنا عن كتاب ابن إسحاق شيئا.. في مقدمة كتابه، والذي يعد أهم مرجع لدراسة السيرة النبوية ذكر ابن هشام أنه هذب سيرة ابن إسحاق، وحذف منها ما رآه غير مناسب.. وفي الواقع، كل من كتب في السيرة من بعد ذلك استند إلى هذين الكتابين.

كما يعد الإمام البخاري (194~256 ه) أول من جمع الحديث الشريف، تبعه الإمام مسلم (206~261 ه)، ثم جاء من بعدهم أصحاب الصحاح (النسائي، أبي داوود، الترمذي، ابن ماجة).. أما علوم الفقه فقد نشأت مع أبو حنيفة (80~150 ه)، ومالك بن أنس (93~179 ه)، والشافعي (150~204 ه)، وابن حنبل (164~241 ه)، وجعفر الصادق (80~148 ه)، وكل ما كُتب عن الفقه بعد ذلك، إنما اعتمد على هؤلاء الأئمة الخمسة.

أما علوم التفسير فقد نشأت مع الطبري (224~310 ه)، ثم البغوي (ت 510 ه) والزمخشري (ت 538 ه)، والقرطبي (ت 671 ه)، وابن كثير (ت 710 ه)، وجلال الدين المحلي (ت 864 ه)، والسيوطي (ت 911 ه)..

حتى علوم النحو والبلاغة والتقعيد وتنقيط الحروف، فقد تطورت على يد أبو الأسود الدؤلي (ت 69 ه)، ثم الفراهيدي (ت 173 ه)، وسيبويه (ت 181 ه)..

من خلال هذه المقدمة المختصرة، يمكننا أن نتوصل للإستنتاجات التالية:

ما نعرفه عن علوم الدين بجميع أقسامه وفروعه إنما عرفناه من خلال هؤلاء العلماء والفقهاء والمفسرين، وهؤلاء كما نلاحظ ولدوا وعاشوا بعد وفاة الرسول بقرن أو قرنين على أقل تقدير.. بل إن ما نعرفه عن حياة الرسول وأحاديثه الشريفة، يعتمد بدرجة أساسية على ما نقله لنا هؤلاء السلف..

الرسول الكريم تلقى الوحي، وانشغل طيلة حياته بالدعوة للدين، وفي عهد الخلفاء الراشدين انشغل المسلمون في حروب الردة (عهد أبي بكر)، وفي الفتوحات (بدءا من عهد عمر بن الخطاب)، وفي جمع القرآن الكريم (في عهد عثمان بن عفان)، وفي الفتنة الكبرى (مقتل عثمان، وحروب الخوارج والأمويين) منذ بداية ولاية علي بن أبي طالب. وما يتوفر لدينا من آثار أركيولوجية ومصادر تاريخية موثقة عن تلك الحقبة شحيح جدا، أما تفسير القرآن، والتدوين، وجمع الحديث، وعلوم الفقه، والعقيدة، والسيرة... فقد نشأت وتطورت في أواخر العصر الأموي، والعصر العباسي الأول..

وفي تلك المرحلة المتأخرة ظهرت أيضا التيارات والفرق والمذاهب الإسلامية المتعددة، وظهر علم الكلام، والعلوم الشرعية، والمعتزلة، والفلاسفة.. كما أن جميع من نعرفهم من علماء في الطبيعة والكيمياء والطب والفلك والفلسفة.. نشأوا في تلك الفترة (800~1100 م).. أي بعد القرن الثاني الهجري.

بعد ذلك ظهرت العديد من الشخصيات الإسلامية الهامة، مثل أبو حامد الغزالي (ت 505 ه)، صاحب إحياء علوم الدين، والنووي (ت 676 ه)، صاحب رياض الصالحين، وابن تيمية (ت 728 ه)، والذي يعد الأب الروحي للسلفية الإسلامية، وتلميذه ابن الجوزية (ت 751 ه)، ، والعسقلاني (ت 852 ه)، الذي يعد أمير الحديث.

إذن، الإسلام الذي نشأ في مكة، وبشّر به النبي الكريم، فهمه الصحابة آنذاك وفقاً للأرضية المعرفية التي كانت سائدة في حينها، ولم يكونوا بحاجة لكل هذه التصنيفات والتقسيمات لفهم دينهم، فالرسول بين أيديهم، وبوسعهم سؤاله عن أية مسألة، وتلقي الإجابة مباشرة من منبع الدين الأصلي.. وكانت البيئة الثقافية والاجتماعية في ذلك الوقت بسيطة، وأقرب للبداوة، ولا تعرف تلك التعقيدات التي نشأت فيما بعد، خاصة بعد توسع الدولة الإسلامية، والانفتاح على التراث اليوناني والفارسي والروماني، وثقافات الشعوب التي فتحوا بلادهم..

فمنذ ذلك الوقت، أي مع نشوء الدولة الأموية، تغير شكل وبنية الدولة الإسلامية، ونظام الخلافة (والتي كانت تمثل مرحلة ما قبل الدولة، والأشبه بالنظام القبلي)، فعدى عن تحولها إلى نظام التوريث، بدأت الدولة تستفيد من تجارب وخبرات حضارات الفرس والرومان في بناء الدولة الجديدة، ومقتضياتها، وأشكالها، مثل صك العملة، وإنشاء الدواوين، والبريد، والجند، والشرطة، والسجون، وتشكيل الجيوش النظامية، وبناء المرافق العامة..

وفي العصر الحديث، نشأت علوم إسلامية جديدة، لم تكن معروفة سابقا، أهمها علم الإقتصاد الإسلامي.. فطوال المراحل السابقة، كان اقتصاد الدولة رعوي، في غاية البساطة (كل أموال الدولة بيد الخليفة، ويديرها شخص واحد بوظيفة أمين بيت المال)، والاقتصاد الإسلامي يقوم على فكرة التكافل الاجتماعي، وتوزيع الثروة بالعدل، واستغلال موارد الدولة، والتي كان أهمها الخراج، والفيء، والغنائم، والزكاة..

وبدءا من الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ميلادي، سينشأ اقتصاد جديد، ومختلف كليا، وسيتطور لاحقا بسرعة مدهشة، حتى صار في غاية التعقيد والتشابك: (بورصات، أسواق مالية، بنوك، سعر فائدة، تبادل عملات، تجارة دولية، جمارك، رسوم، تضخم، انكماش، غسيل أموال، موازنة عامة، تأمين، أسهم، أوراق مالية، نمو اقتصادي..إلخ) وتلك المصطلحات والتي تشكل لب وجوهر الاقتصاد الحديث، لم تكن معروفة ولا متداولة في تلك الأزمان.. فلم يرد فيها آية كريمة، ولا حديث نبوي، وحتى الفقهاء الأولين لم يعرفوها، وبالتالي كل من كتب عن الاقتصاد الإسلامي الحديث إنما اجتهد من تلقاء نفسه، اعتمادا على مبادئ عامة، وعلى فهمه وتأويله الخاص لأصول الفقه.. وهنا لا أناقش مدى دقة وصوابية هذا العلم، إنما للتأكيد على أنه علم مستحدث، تم استنباطه على يد مجتهدين من لحم ودم، ولا يكتسب صفة القداسة.

وبموازاة تطور علم الاقتصاد، تطور مفهوم الدولة نفسه، وأساليب إدارتها وأنظمة حكمها، بشكل يفترق كليا عن مفهوم الدولة السابق (أي في مرحلة ما قبل الحداثة).. وأيضا لا أجادل هنا في مدى صوابية دولة الخلافة بالمفهوم العصري، وحسب المعطيات الجديدة، بل أردت الإشارة إلى أن هذا النوع من العلم نشأ وتطور على أيدي مجتهدين من لحم ودم، ولا يكتسب صفة القداسة.

هل الإسلام نصوص ثابتة معلقة في فضاء مثالي؟ أم هو دين ديناميكي مرن يتطور مع الأزمان؟ هل هو تجربة المسلمين الأوائل، والتي يمكن استنساخها حرفيا في كل زمان ومكان؟ وهل هنالك نموذج واحد وحيد للإسلام؟

 (2~2)

نعيش اليوم عصرا جديدا، يختلف في شكله ومضامينه عن كل العصور السابقة، فقد ظهرت مفاهيم حقوق الإنسان، والقانون الدولي، والديمقراطية، والعولمة، والإرهاب.. ونشأ معها تشكيلات ومنظمات ومواثيق ومعاهدات عالمية، لم تكن معروفة من قبل، وفي نفس السياق ظهرت مشكلات وأزمات جديدة كليا، أو تعمقت أزمات قديمة، واتخذت أشكالا جديدة، منها النمو السكاني، التلوث البيئي، الطاقة، تطبيقات التكنولوجيا، الحروب، توحش الرأسمالية... وكل ما ينبثق عنها من أزمات ومشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية يعاني منها الإنسان الحديث..

والعالم الإسلامي (والذي يعيش مرحلة تأخر وانحطاط) أمام تحديات خطيرة وجدية، فإما أن ينخرط في منظومة العولمة الإنسانية، أو يظل في مؤخرة الدول.. وحتى لو اختار الانعزال، فعليه أن يستجيب لمتطلبات العصر، واجتراح حلول لمشكلاته العديدة والمعقدة..

ومن الواضح أن السلفية الإسلامية (التي تتبناها مختلف حركات الإسلام السياسي) لم تقدم حتى الآن حلولا ناجعة، وما زالت تعاني من أزمات خانقة، وتراوح في إطار التنظير، وضمن رؤية ماضوية، فضلا عن صراعاتها الداخلية، وبالتالي نحن بحاجة لخطاب إسلامي حديث، وعقلاني.. تماما كما فعل المسلمون في القرن الثاني والثالث الهجري.. مع مراعاة التغيرات الجوهرية التي أصابت كل مجالات الحياة في عصرنا الراهن..

هذا لا يعني أن المسلمون الأوائل هم من اخترع الإسلام، بل يعني أنهم أول من تلقاه، وفهموه من منظورهم الخاص، وفقا للأرضية المعرفية المتوفرة آنذاك، وضمن البيئة والظروف المحيطة، ولكن بالطبع استنادا لجوهر الدين، كما جاء في القرآن، وكما علمهم الرسول.. ولكن مع الوقت (أي بعد قرون قليلة من ميلاد الإسلام) أخذت تتشكل تمظهرات جديدة ومتباينة لفهمه وتأويله، فمثلا بعض أمور العقيدة فهمها الصحابة على شكل مختلف عما فهمه التابعون في مراحل الدولة العباسية، كما جاء في مجادلات الحسن البصري، وواصل بن عطاء والغزالي وابن رشد والفارابي وغيرهم.. فالبيئة الصحراوية التي عاش فيها الصحابة تختلف عن بيئة الحواضر المدنية في العصرين الأموي والعباسي.

في مجالي الحديث والسيرة، سنجد أن كتب الصحاح، تحتوي على مئات الأحاديث المنسوبة للنبي، وهي أحاديث ضعيفة وموضوعة، ومع ذلك ما زالت تفعل فعلها إلى اليوم، بوصفها نصوصا مقدسة.

كذلك ظهرت تباينات واضحة في القضايا الفقهية، بين الأئمة أنفسهم، وبين التيارات والفرق الإسلامية، كما اشتملت بعض كتب التفسير على الكثير من الإسرائيليات، والخرافات، والتفسيرات الغيبية التي يبدو واضحا جهل المفسرين آنذاك بالقضايا العلمية والتاريخية..

إذن، مع أن جوهر الإسلام واحد، ومرجعيته محددة؛ إلا أنه ظهرت له صور ونماذج وتفسيرات متعددة ومتباينة، كانت في حقيقتها عبارة عن نتاج تفاعل حي بين مسلمي ذلك العصر وظروفهم الموضوعية والذاتية..

وخلاصة القول، أن الإسلام دين ديناميكي، مرن، متطور.. بدأ بسيطاً، بساطة البيئة التي نشأ فيها، وتضمن الأحكام والمبادئ العامة (القرآن الكريم).. ثم نما وتطور وأخذ صيغته الحالية (المتعددة) في العصرين الأموي والعباسي، وكل التطورات التي حدثت فيما بعد لم تبتعد كثيرا عنها (بسبب تعطيل الاجتهاد). وهي صيغة تشكلت وتطورت على يد فقهاء ومجتهدين بشر، وكانت انعكاسا للبيئة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تبلورت فيها.

فإذا امتلك فقهاء وعلماء ومفسرو صدر الإسلام الشجاعة والتطور المعرفي ليقدموا تأويلاتهم وفهمهم الخاص للإسلام، وهم على بعد قرن أو قرنين من وفاة الرسول، فنحن اليوم، وقد مضى أزيد من ألف سنة على آخر تحديث للإسلام، بأمس الحاجة لتقديم رؤية جديدة ومتطورة للإسلام، خاصة فيما يتعلق بما ظهر من مستجدات..

وفي الوقع ثمة أسباب موضوعية أخرى تستدعي هذا التحديث، أولها: أن العالم الإسلامي يعيش حالة ضعف وتخلف، ويعاني من مشكلات وأزمات لا حصر لها، وثانيها: بسبب حالة التشرذم والتفكك والصراعات الطائفية والمذهبية، التي تتطلب خطابا توحيديا ديمقراطيا يستوعب الجميع، وثالثها: ظهور نماذج متخلفة ومتطرفة للإسلام السلفي (القاعدة، النصرة، داعش..) ساهمت في تشويه صورة الإسلام، وعمقت حالة الإرباك حول من يمثل الإسلام الحقيقي. ورابعها: تقديم إجابات عصرية عقلانية لتحديات العصر..

وإزاء قضية تحديث الخطاب الإسلامي، نحن اليوم أمام وجهات نظر متناقضة؛ منها ما تدعو لتنقية التراث الإسلامي من كل ما علق به من مظاهر سلفية متخلفة ومتطرفة، ومن خرافات، وتفسيرات مغلوطة.. سنرى هنا البحيري، صبحي منصور وغيرهم.. أو من يفسر القرآن برؤية يراها عصرية (محمد شحرور)، ومن يقدم قراءة نقدية للخطاب الديني برمته (نصر أبوزيد، محمد أركون، جمال البنا)، ومن ينتقد كل التراث الديني، ويدعو لتحييد النصوص التي لم تعد مناسبة في العصر الحالي، مثل مواضيع العبيد والجواري والغنائم والفتوحات والخراج والفيء والعقوبات البدنية.. (سيد القمني). ومن ينقد الفكر الديني أساساً (صادق جلال العظم)، ومن يعتقد أن أي عملية تجديد للدين إنما هي محاولة تجميل فاشلة (حامد عبد الصمد)، إضافة لما تقوم به السعودية ومصر من محاولات شكلانية لتجديد الخطاب الديني، تحت إشراف الدولة، وبما يخدم مصالحها.

في الموقف المضاد، سنجد المؤسسات الدينية التقليدية (وأهمها الأزهر)، ومعظم الحركات الإسلامية السياسية (أبرزهم الإخوان المسلمين، حزب التحرير)، علما أن موقف الإخوان غير واضح، ومتذبذب، فمثلا، الترابي والغنوشي يقدمان قراءة أكثر تطورا من التيار التقليدي الإخواني..

عموما، هؤلاء يعتقدون بوجود نموذج موحد للإسلام، وهو صالح لكل زمان ومكان، وليس بحاجة لأي تحديث، بل بحاجة لدولة خلافة تطبقه بأمانة.. علما أن هذا الطرح (من وجهة نظر من يدعو للتجديد)، غير واقعي، وغير تاريخي، بدليل ما نراه اليوم من صور متعددة ومتناقضة لنماذج كلها تعتقد أنها تمثل "الإسلام الصحيح".. وأن دولة الخلافة، من بعد الخلفاء الراشدين، كانت عبارة عن إمبراطوريات عائلية، طبقت نماذج مشوهة للإسلام. أما النموذج السائد حاليا، فهو ما تم تناقله عبر الأجيال كجسد بلا حراك، ودون روح، وهو النموذج الذي ساد بعد تراجع دور العقل لصالح النقل وتقديس النصوص، وبعد تفريغ الإسلام من مضامينه الثورية.

إذا اتفقنا على أهمية وضرورة تجديد الخطاب الديني؛ فالأسئلة المطروحة: هل يمكن ذلك دون مناخ ديمقراطي يضمن حرية التفكير والتعبير والاجتهاد، بكل صراحة، ودون تخويف أو تكفير من الغير؟ هل هذه المهمة منوطة برجال الدين فقط؟ وهل يمكن للنخب المثقفة من خارج المؤسسة الدينية أن يؤثروا في هذا الاتجاه؟ والسؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن ذلك؟





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق