أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

نوفمبر 15، 2018

الخلافة والعالمية



 تسعى معظم حركات الإسلام السياسي لإقامة دولة إسلامية، أو لإعادة نظام الخلافة، أو لتطبيق الشريعة في نطاق المنطقة التي تحكمها.. وحسب أيديولوجية تلك الحركات، وفقا لأدبياتها المنشورة، فإن دولة الخلافة لن تظل محصورة في نطاقها الجغرافي الضيق، (لأنها لا تعترف بمفهوم الوطن) وستسير على خطى الأولين، وستسعى لتوسعة رقعة حكمها بالقدر الذي تستطيع، وهذا ينطلق أساسا من نظرتها للآخرين، وتقسيمها العالم إلى "فسطاس الحق"، و"فسطاس الباطل"، أو دار الإسلام، ودار الحرب.. أي مسلمين وكفار..

كما تعتبر تلك الحركات أن القانون الدولي قانون وضعي باطل، ولا تعترف بالشرعية الدولية، ولا بالمنظمات الدولية، بما فيها هيئة الأمم وكافة المنظمات المنبثقة عنها، وبالتالي لن تنضم إليها (إذا أصبحت دولة)، فهي على الأقل تنظر لها بمنظار الشلك والريبة. كما تنظر بنفس المنطق للعالمية، وكل ما نشأ وينشأ عنها من علاقات وقوانين وأنظمة ومخرجات..

لتوضيح الصورة أكثر، لنفترض مثلا أن حزبا إسلاميا معينا نجح بالوصول إلى السلطة في بلد ما، فإنه سيجعل منها دولة إسلامية، وسيعلن عن عودة نظام الخلافة.. وهذا يتطلب منه تطبيق أيديولوجيته بأمانة، ودون تدرج، في كل الأمور الداخلية والخارجية، بما فيها علاقة هذه الدولة مع العالم.

فإلى أي مدى هذا الطرح واقعي؟ وكم بوسعه الصمود؟ وكيف سيكون شكل هذه الدولة؟

في هذا المقال، لن نتطرق لكيفية إخضاع سكان الدولة لنظامها الديني، أي الأقليات الإثنية والطائفية، ولا لكيفية التعامل مع الأحزاب (خاصة غير الإسلامية)، ولا لكيفية إدارة الشأن الداخلي، مثل القوانين المستحدثة، الحاجات المستجدة، الأزمات الموجودة كالمواصلات والإسكان والبطالة والغلاء، ومشاكل البيئة والصحة وإقامة المشاريع الكبرى وغيرها، ومدى ضرورة أن يكون التعامل مع هذه القضايا من منظور إسلامي؟ سيما وأن هذه القضايا جديدة، ولم يرد فيها نص قرآني.

سنتناول فقط زاوية علاقة دولة الخلافة بالعالم.

نحن نعلم أن الدولة بمفهومها الحديث (الدولة الوطنية، أو القومية) نشأت فبل قرنين من الزمان، وكل مؤسسات الدولة الحديثة ونظمها البرلمانية والقضائية والتنفيذية نشأت معها؛ أي في مرحلة ما بعد الحداثة.. وقبل ذلك كانت إمبراطوريات، ودولا ريعية، وأنظمة قبلية، وإقطاعية.. وهذا المسار التطوري أخذ خطا تصاعديا، يسير دوما نحو الأمام، وكان في كل مرحلة يأتي نتاجا لما سبقه من ظروف ومعطيات، وبالتالي ينجم عنه معطيات جديدة ستولد مزيدا من التغيرات الجديدة، وهكذا.. إلى أن وصلنا إلى ما يعرف بالعالمية.

لا نقصد بالعالمية الماركات التجارية المشهورة وانتشارها العالمي، ولا قواعد النظام الرأسمالي العالمي، وهيمنة الدول الكبرى، ولا الابتكارات العلمية وثورة الاتصالات والمعلومات.. وإن كانت تلك مكونات مهمة من نظام العولمة، بل نقصد شبكة العلاقات المعقدة والمتداخلة بين الدول والشعوب والمنظمات والشركات والأفراد والمصالح والمنتجات على مستوى العالم.. وهي بهذا المعنى لا تعني تعميم النموذج الأمريكي والغربي على نطاق عالمي، بل تعني حركة الشعوب والحضارات وتشابكها على مدى التاريخ.
والحقيقة أن نظام العالمية تأسس منذ بدء الحضارة الإنسانية، فلم يكن التاريخ الإنساني مجرد تاريخ الملوك والحروب والصراعات، بل كان في جوهره تاريخ الشعوب في تلاقيها السلمي الطبيعي، وعلاقاتها المتشابكة بروح الإنسانية، وتبادلها المنافع والعلوم والخبرات والثقافات.

وبغض النظر عن حسنات وسلبيات العالمية (أو العولمة)، فإنها صارت أمرا واقعا، أدى إلى خلق قوانين ومعطيات وعلاقات إنتاج جديدة كليا، لا يمكن لأي فرد أو نظام أن يعيش بمعزل عنها (بما فيها الدول العظمى)، فضلا عن محاربتها.. فالمخترعات الحديثة بدءا من الكهرباء إلى الإنترنت وما بينهما ليست أمورا ثانوية يمكن الاستغناء عنها، وهي نتاج العالمية وتعبيرا عنها. فالسيارة التي تصنع في ألمانيا تحتاج قطع غيار تصنع في فرنسا، ومواد خام تستخرج من أفريقيا، وتكنولوجيا تصمم في اليابان، وتصنعها شركات كورية، وينقلها تاجر مكسيكي عبر بنك بريطاني بعملة أمريكية، والعاملون في هذه المراحل والأماكن المتعددة يحتاجون ملابس وغذاء ودواء وما لا حصر له من احتياجات يومية ملحة.. وكل عنصر من هذه العناصر سيمر بنفس آلية صنع السيارة.. من حيث الحاجة لاشتراك مجموعات معقدة من الناس والشركات لإنتاج سلعة ما..

حسنا، ما علاقة ذلك بالخلافة؟

إذا كانت دولة الخلافة ستقيم علاقتها مع العالم وفق منطق دار الحرب ودار الإسلام، وستعزل نفسها عن النظام الدولي القائم، فكيف ستصمد؟ وبأي مقومات؟

كيف ستقيم دولة الخلافة علاقاتها مع العالم؟ كيف ستحارب دولة الخلافة دار الكفر إذا كانت الدبابة التي ستحارب بها هي أصلا من صناعة الكفار، والهاتف الذي سيتصل به الخليفة مع أمراء الأمصار سيكون من صناعة الكفار.. لا أعرف إجابة على هذا السؤال، خاصة وأن الدول العربية والإسلامية الحالية (الدول المرشحة لإقامة الخلافة) لا تمتلك قاعدة علمية وتكنولوجية متطورة تمكنها من الاعتماد على نفسها، فحتى الدول الصناعية الكبرى لا يمكنها الاستغناء عن بقية العالم، لا من حيث ضرورة استيراد المواد والتكنولوجيا، ولا من حيث أهمية تصدير ما تصنع. فضلا على أن النظام الاقتصادي العالمي أصبح متشابكا على نحو لا يقبل التفكيك بأي شكل من الأشكال (وهو بالمناسبة نظام رأسمالي). وهذا الأمر ينطبق على المجالات السياسية والعلمية والتجارية والسياحية والبيئية والصحية وكافة أشكال الحياة.

لنفترض جدلا أن دولة الخلافة نجحت بأن تكون منيعة وقوية، وتصنع وتنتج كل شيء بالاعتماد على نفسها.. ماذا بشأن المليار ونصف مليار مسلم المنتشرون في أصقاع الدنيا؟ هل سيهاجرون جميعا إلى تلك الدولة؟ وأي دولة بإمكانها استيعاب هذا الكتلة البشرية الضخمة؟ ولنفترض مرة ثانية أن كل مسلمي العالم أو معظمهم هاجروا إلى تلك الدولة، كيف سيكون شكل العالم حينها؟ وطبيعة علاقته بهذه الدولة؟ خاصة إذا قامت حرب عالمية ضدها!

عالم اليوم، ليس عالم القرن الأول الهجري.. ويتوجب علينا إدراك حجم وقوة التغيرات العميقة والجذرية التي حصلت في العالم خلال تلك القرون.. أو نظل معلقين في أحلامنا الطوباوية، بينما العالم يتطور من حولنا..

أفيقوا.. يرحمكم الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق