قبل
الراديو والتلفزيون والإنترنت، كان المصدر الوحيد للأخبار "الحكواتي"،
والذي كان أيضا وسيلة التسلية المفضلة، والحكواتي يتمتع عادة بقدرات مميزة في
السرد والخطابة؛ وكان حتى يستحوذ على انتباه السامعين يضفي على حديثه عناصر
التشويق والمبالغة، وإختلاق الأخبار وفبركة القصص، إذا لزم الأمر..
اليوم،
انتقلت هذه "الصنعة" بكل مزاياها وسماتها إلى الأدوات الحديثة، أي إلى وسائل الاتصال التكنولوجية،
وظل نفس جمهور المستمعين، يصغي لهذا الحكواتي الجديد، بنفس الآلية القديمة، ويبني
ثقافته، ومواقفه السياسية، وحتى وشخصيته الفكرية، بناء على ما يسمعه منه فقط.. ونعني
بهؤلاء من يكتفون بسماع نشرات الأخبار وتحليلات "الخبراء الإستراتيجيون"
الذين تستضيفهم المحطات الفضائية المختلفة.. ونضيف إليهم من يستمدون ثقافاتهم من
منشورات فيسبوك وتويتر، السريعة والسطحية..
ولا
نستغرب حين نشاهد متعلمين وخريجو جامعات، ومنهم من بلغ درجات أكاديمية متقدمة
لكنهم يصنفون ضمن فئة "جمهور المستمعين"، ذلك لأنهم لم يقرؤوا شيئا خارج
نطاق تخصصهم، وظلت العوالم الأخرى بالنسبة لهم غامضة، مع أنهم بالطبع لا يعترفون
بذلك..
وفي
المقابل هنالك من يستمدون ثقافاتهم من الكتب والروايات والدوريات والصحف والمراجع
الرصينة.. أي جمهور القراء..
لكن بعض
من يحسبون أنفسهم من "جمهور القراء"، تجدهم بالكاد يقرؤون كتابا أو
كتابين في السنة، وصارت مطالعاتهم تقتصر على المنشورات القصيرة والسريعة.. على أية
حال تلك كلها سمات المرحلة؛ حيث صار الناس في هذا الزمن
"السريع" يفضلون كل شيء سريع وقصير: الوجبات، الأغاني، المقالات..
وفي
الواقع، ثمة فارق كبير بين جمهور المستمعين، وجمهور القراء.. وبالتالي فرق كبير
بين الثقافتين..
الثقافة
السمعية، تعتمد فقط على التناقل الشفهي، والقراءات المبتورة والمجتزأة، وبالتالي
لا تقدم علما يعتد به، ولا تعطي خبرا صحيحا، ولا تبني ثقافة محترمة.. بل هي في
أغلب الأحيان مجرد إشاعات، أو قصصا مفبركة وأخبارا زائفة، أو عبارة عن استنتاجات
متسرعة، وتحليلات خاطئة، لأنها تفتقر لأسس التفكير المنطقي، ولأنها غير موثقة، ومنزوعة
من سياقاتها العامة..
وعندما تُبنى أي معرفة
استنادا للسمع فقط، عادة ما تكون ناقصة ومشوشة، بل إنها كثيرا ما تعكس جهلا فاحشا
بالموضوع، لذلك هي ثقافة مدمرة للعقول ومدمرة للمجتمع.
الثقافة
السمعية هي الأكثر انتشارا في أغلب المجتمعات، لأنها أسهل، ولا تتطلب جهدا، وهي
تحاكي الطبيعة البشرية بنزعاتها البدائية وأمراضها ونواقصها، وهي تناسب أكثر أولئك
المفتونون بنظرية المؤامرة، أو الذين تستهويهم قصص الفضائح، والإثارة، وحياة الناس
الخاصة (بالذات المشاهير).. لهذا، عندما تنتشر أخبار تتضمن جوانب سلبية، وفضائح،
أو اتهامات لآخرين.. تجد رغبة عجيبة لتصديقها، وترويجها، حتى لو كانت تتناقض مع
أبسط الحقائق المعروفة والموثقة.
والسبب
في ذلك، أن البشر بطبعهم يميلون لتصديق الروايات السيئة عن الآخرين، ويجدون فيها تعويضا
عما ينقصهم، وعزاء لخيباتهم وضعفهم، وفرصة للتعبير عن غضبهم المكبوت، يفعلون ذلك
بنوع من التطهر، ليظهروا أمام أنفسهم وأمام الآخرين كما لو أنهم ملائكة، وأشخاصا
مثاليين، وكأنَّ حياتهم بلا أخطاء.. ربما
تكون تلك القصص والأخبار ساذجة، وغير قابلة للتصديق إطلاقا، لكن حب الإثارة،
والرغبة للخروج عن المألوف، تجعل الكثيرين يعيدون إنتاج تلك القصص والأخبار والتعليق
عليها، مع التهويل وبناء استنتاجاتهم الخاصة، والمرعبة.
ما مدعاة
كل هذا الحديث؟
في السابق كانت الأنظمة المستبدة تحتكر الإعلام، وتضعه تحت
سيطرة أجهزة الأمن، وتمنع عن الناس أي مصدر مستقل للمعلومات.. ثم تعمل على توجيه
الرأي العام كما تريد، واختلاق قضايا رأي عام يتلهى
بها المواطنون، فتبدأ في ترويج مقولات معينة.. والناس تصدق ما تسمعه من الإعلام،
وتتعامل معه بوصفه حقيقة مطلقة، لأنهم لم يتعودوا على القراءة، ولا يدققون فيما
يسمعونه.. لأنهم تعودوا على ثقافة التلقين (السمعية) في المدرسة والجامع
والجامعة..
في
السابق كان لكل بلدة حكواتي واحد، اليوم، صار كل مواطن حكواتي.. بفضل تكنولوجيا
الاتصالات الحديثة، التي مكنته أيضا من استخدام وسائل رهيبة في سرعة انتشارها
والمديات التي تصل إليها، مثل يوتيوب وفيسبوك وواتس أب وغيرها.. ولكن، لم يرافق
هذا التطور التقني تطور في ثقافة المجتمع، فظلت الثقافة السمعية هي السمة
الطاغية..
وبفضل
الانتشار غير المسبوق لوسائط التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخبارية الإلكترونية،
التي لا تلتزم بمعايير العمل الصحافي.. صار المواطن بديلا عن الإعلام الرسمي
للأنظمة في ترويج الإشاعات والأخبار، أو في نشر ثقافة التجهيل والسطحية، من خلال
تلك المنشورات التي تمتلئ بها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أقل ما يقال عنها
أنها هبل..
ولا بد
من التأكيد، على أن الثقافة السمعية بحد ذاتها ليست خطأ؛ فالاستماع صار من ضرورات
العصر، لكن الاعتماد عليها فقط، دون مصادر المعرفة الحقيقية، وأهمها الكتب، يخلق
ثقافة مشوهة..
اليوم
توفر التقنيات الحديثة إمكانية تحويل الكتب إلى محاضرات سماعية، وقد لجأ العديد من
المفكرين والمنظرين والعلماء والأدباء إلى تقنية السمع، أي بدلا من تأليف كتاب،
يقوم بتسجيل فيلم ينشره على قناة يوتيوب، وفيه يحكي كل ما أراد كتابته، وهذا له
جمهور واسع، وآخذ بالازدياد.. وقد يجمع بين التأليف والكتابة مع التسجيل والتوثيق
الصوري.. هذا إلى جانب الكتب الناطقة التي كانت مصممة أساسا للمكفوفين، ثم انتشرت
بسرعة، لأنها مناسبة لمطالعة كتاب في الحافلة، وأثناء المسير..
أُحب
منظر الناس وهم يضعون في آذانهم سماعات "هدفون"، أثناء تجوالهم، فإذا
كان ما يسمعونه أغاني، فستمنحهم طاقة وحيوية، وإذا كانت كتبا ومحاضرات ستعطيهم
معرفة..
ولكن،
يبقى خير جليس في الزمان كتاب.. له ملمس، ورائحة، وشعور خاص لا يعرفه إلا من اعتاد
على المطالعة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق