انتهى
فصل الصيف سريعا، أو هكذا هُيئ لي، فربما مـرَّ على آخرين ثقيلا بطيئا.. على
العموم كان هذا الصيف الأكثر اعتدالا في فلسطين منذ 14 عاما، في حين كان الأكثر
حرا في مناطق متعددة من العالم، مثل أوروبا وكندا.. لكنه جاء حارا قائظا، مشبعا
بالرطوبة، كعادته كل سنة في دول الخليج، وغيرها من المناطق الصحراوية والساحلية..
فكان عذابا ومعاناة لمن يعيشون في بيوت الصفيح، واللاجئين في الخيام، ولأهلنا في
غزة، الذين عاشوه بلا كهرباء تقريبا..
فلكياً،
انتهى الفصل في 21 أيلول، وفي الواقع بقيت بعض ذيوله.. بيد أن كل ما يتعلق بالصيف
من حركة دؤوبة، وصخب، وأحلام، ومشاريع سفر، أو زواج، أو ولائم، أو سباحة واستجمام،
وأزمات مرورية، وشقاوة الأولاد، والسهرات على الشرفات، وضجيج المكيفات، وإزعاج
البعوض..
كلها ستصبح بعد حين مجرد ذكريات مؤقتة..
في هذا
الوقت، نتقبل فكرة الشتاء بسهولة أكثر، والبعض يحنُّ إلى أوقات البرد، والجلسات
المغلقة من حول المدفأة، وصوت المطر على الشباك، وانتظار الثلج، وشي الكستناء
والبطاطا الحلوة.. حتى أن البعض ينتظر أول "شتوة" ليغسل بها آثار الصيف
وأتعابه.. والغريب (وربما كان طبيعيا) أننا في تلك الأوقات نحنُّ إلى الصيف،
والملابس الخفيفة، والحركة النشطة، والسماء الزرقاء الصافية، وتناول البطيخ البارد
مع الجبن الأبيض الطري..
انتهى
الصيف بكل حمولته الثقيلة، فقد جاء هذا الفصل محملا بالمواسم.. شهر رمضان، بعطشه،
وخروبه، وولائمه، وعيدين بكل ما يعنياه من مصاريف، وموسم حج، وعودة المدارس
السنوية والجامعات، وعدد لا يحصى من الأعراس، وزيارات المغتربين العائدين بشوق
كبير، والمغادرين بخيبات كثيرة..
هو موسم
عمل ورزق لكثيرين: سائقو التكسيات، الحرفيون، العمال، أصحاب الفنادق والمطاعم
والكافتيريات وصالات الأفراح.. لكنه عبء ومشقة على آخرين: الموظفون، وأصحاب الدخل
المحدود، والفقراء.. الذين يؤجلون أحلامهم بصيفٍ جميل عاماً بعد آخر..
أغلب
الناس تحب الصيف، سواء من لديه القدرة على السفر إلى الشواطئ الجميلة والبعيدة، أم
من يكتفي ببساط الصيف الواسع، على الأسطح، وتحت الدوالي، بالنسبة للأطفال هو جنتهم
الموعودة، لعب وسهر، ونوم إلى أعالي الضحى، وانفلات من قبضة الآباء الصارمين الذين
يطالبونهم بالنوم باكرا.. وهو أيضا موسم التزاوج، والرحلات، والنهارات الطويلة،
وليالي السامر.. في فلسطين هو موسم مهرجانات الرقص والدبكة والفرح الفنية
والتراثية: وين عَ رام الله، وليالي بير زيت، ومهرجان سبسطية والبيرة.. وغيرها.
أنا أفضّل
الخريف.. أجده فترة للتأمل، والتفكر، وإعادة الحسابات.. آخرون يفضلون الربيع،
بخضاره وفراشاته وعصافيره، وما يعنيه من انبعاث للحياة بعد موات مؤقت، سببته موجات
البرد المتلاحقة..
في هذا
الصيف ودّعنا أحبّة غاليين على قلوبنا، منهم مسافرون عادوا لغربتهم المؤقتة، ومنهم
من غادرنا إلى السماوات العلى.. سنتفقدهم، وسندعو لهم بالرحمة.. منهم أقرباء
وأصدقاء سنكتوي بلهيب أشواقنا إليهم.. ومنهم شخصيات عامة، فنانون، وكتّاب،
وأدباء.. سنعيش على ذكراهم، وما انتجوه من إبداع خالد.. سمير سلامه، خيري منصور،
جميل راتب، مي إسكاف، ياسر المصري، حنا مينا، مظفر النواب، سعد السيلاوي.. وغيرهم.
بعد أيام
قليلة سيبدأ موسم الزيتون، الموسم الكنعاني المتجدد منذ آلاف السنين، سيخرج
الأهالي إلى التلال والكروم، ومعهم أباريق الشاي المطيبة بالميرمية، وصواني
البندورة المنكهة بالثوم والفلفل الحار.. يقولون أنّ هذا الموسم سيكون شحيحا
بزيتونه وزيته.. وهذا صعب على الأسرة الفلسطينية التي تغمّس الزيت مع كل شيء..
المهم أن نحرس زيتوناتنا من عصابات المستوطنين..
أحيانا
يأتي الصيف ويروح.. كما جاء، دون تغيير يذكر، نستقبله بأحلام كبيرة، ونودعه بخيبة
أمل.. من يرجو فرصة عمل، أو شفاء من مرض، ومن تنتظر عريسا، أو لقاء مع حبيب طال
انتظاره.. كما غنّت فيروز: ولع الصيف، ودبل الصيف، وحبيبي ما لفي.. أما عند
العاشقين، فالأمر سيان: حبيتك في الصيف، حبيتك في الشتي..
يبدأ
الصيف عادة بحزيران، في هذا الشهر يستقر الطقس، ويكون ناعماً، سخيا بفاكهته
ومشمشه.. ثم يأتي تموز وآب، بحرّهما اللاهب، وتينهما وأعنابهما وصبرهما.. ثم يأتي
أيلول فاصلا بين الصيف والخريف.. يصفر فيه العشب، وتذبل الأزهار التي زرعناها في
الربيع، وتتساقط فيه أوراق الشجر، ومعها يتساقط ما علق بذكرياتنا من أتعاب السنة،
وهمومها.. ثم ننتظر الشتاء من جديد، وهكذا سنة بعد أخرى.. تمر الفصول تباعا، وبانتظام
لا يخلف موعدا، ومعها يمر العمر بأيامه وسنينه.. بحلوها ومرها.. بأشخاصها الطيبين،
المقيمين أبدا في وجداننا، ومن أساؤوا لنا من الطارئين الذين مروا سريعا في
حياتنا، ونرغب أن ننساهم، ونسامحهم.. ثم فجأة، نجد أنفسنا في عمر الكهولة.. فيأتي
علينا الصيف مثلما يأتي الشتاء.. ننتظر الفرج، ونمني أرواحنا بأفراح ستأتي حتما..
وبأحبة سنلقاهم، وآخرين سنودعهم.. إلى أن يأتي آخرون ويودعونا..
في نصيحة
لأحد المشاهير الناجحين: إذا أردت انطلاقة جديدة لحياتك، فلا تنتظر بدء موسم معين،
ليس ثمة فرق بين الشتاء والصيف، ولا يهم إن كنت صغيراً أم كبيراً، بوسعك البدء
فورا..
انطلقوا إلى
الحياة، بحب وشغف، واسعوا في مناكبها..
عبد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق