كانت "خيمور"، قبل أن يقتلها
الجفاف، ويشرد أهلها، قرية وادعة، تسكن بطمأنينة على كتف جبل "أشومو"
الأعظم، يمر من أسفلها نهر "سيفور"، هو أصغر من نهر، وأكبر من جدول، ففي
الأصياف الحارة يجف، ويتحول قاعه إلى طين متشقق.. لكن الأهالي عرفوا كيف يخزنون
مياهه في كل الفصول.. يسقون بها ماشيتهم، ويروون مزروعاتهم، ويخصصون الحصة الأكبر
منها لمعبد الرب "يغوث"؛ إله الشمس..
الشمس والمياه، كل ما تملك القرية..
هما عماد حياتهم البسيطة..
في كل موسم، يضع الأهالي ثلث غلالهم
على باب بيت الرب، وفي كل مرة يعدهم الكاهن "أوريخا" بأن الرب سيخرج عليهم
شخصيا.. وسيبارك لهم بساتينهم وبيادرهم وأغنامهم.. مضت سنين كثيرة، ولم يفِ "أوريخا"
بوعده، وصارت الناس تشكك به، ومنهم من يلعنه في سره.. لكنه كان في كل مرة يخترع
لهم الذرائع والحجج..
في تلك السنة المطيرة، كان الغلال
وفيرا بشكل غير مسبوق، وفي موسم الحصاد، جمع "أوريخا" أهل البلدة،
وبكلمات مقتضبة صريحة، قال: إليكم البشرى؛ هذا العام سيخرج إليكم الرب شخصيا،
بشحمه ولحمه، سترونه رأي العين، وسيكون ذلك بعد اكتمال البدر بساعات، من الشهر
القادم..
أتى اليوم الموعود، والناس بأشد الشوق
لرؤية ربهم، ومنذ ساعات الظهيرة بدؤوا يتجمعون قبالة المعبد، انتظروا ساعات طويلة
وهم في الحر، وفي غاية القلق والخوف، والترقب، كان لديهم فضول شديد ليروا كيف شكل
هذا الرب؟ كم يبلغ طوله؟ لا بد أنه طويل جدا، بحيث يكون قادرا على إمساك الشمس
بقبضته، ووسيم جدا، كضوء الشمس.. هل لديه أرجل وأيدي وعيون مثلنا؟ أم تراه بشكل لم
نعهده من قبل؟؟
انقضت ساعات الظهيرة بكل حرها، ثم مر
العصر بطيئا، حتى غابت الشمس، والناس لم تفقد الأمل برؤية الرب.. ظلوا أماكنهم مزروعين،
وكأنهم حقل من القمح، روؤسهم مرفوعة نحو قمة التلة، من حيث سيطل الرب عليهم، بكل
جلاله وبهائه.. بعد المغيب، وعند أول طلوع القمر، خرج إليهم "أوريخا" ليذكرهم
بكلمات صارمة واضحة: سيكون الرب سخيا هذا المساء، أطلبوا ما شئتم، أدعوه يلبيكم، لا
تبخلوا عليه بالقرابين، ولكن، ممنوع على أي أحد التقدم للمصافحة، أو حتى التفكير
بالاقتراب,,
مضت عليهم ساعات طويلة مملة، حتى غلب
النعاس معظمهم، فأخذتهم الغفوة واقفين، الأطفال والكهول استلقوا على الأرض.. فيما
تجمعت النسوة، وهن يتهامسن، ويبحن لبعضهنّ بمطالبهن.. هذه تبحث عن عريس، وتلك تريد
الإنجاب، وأخرى تدعو لزوجها أن يفتح أمامه أبواب الرزق..
قبيل الفجر بدأت لسعات البرد توقظهم
واحدا تلو الآخر.. استيقظوا مرعوبين، خافوا أن يكون الرب قد أتى عليهم وهم نائمون،
فغضب من استقبالهم الباهت ومضى.. ما يعني أن عليهم الانتظار خمسين سنة أخرى..
لم تهدأ لوعتهم حتى خرج الكاهن
"أوريخا" بصوته الجهوري: دقائق قليلة ويطل عليكم الإله "يغوث"،
موقد الشمس، وحاميها.. هو الآن مشغول بإخراجها من مخبئها.. صمت برهة، ثم تمتم
بكلمات وأدعية، كان القلق والجدية باديان على وجهه، ثم هتف بأعلى صوته: سبحو باسم
الرب الحنون الجبار..
تعالت أصواتهم كأنها خلية دبابير فزت
مفزوعة.. "سبحانك يا حامل الشمس بيمينك، تقدس سرك، نبتهل إليك، بحق ابنك
الصغير القمر، ألا تححب عنا شمسنا الرؤوم.. وأن تبقيها في كبد السماء، ومن تحتها
السحاب الطري، وعلى جنباتها الكواكب والنجوم"..
كانت عيونهم متركزة على قرص الشمس الذي
أخذ يرتفع رويدا رويدا.. حتى صار بارتفاع ذراع.. في تلك اللحظة الباهرة، وقف
"أوريخا" مثل رمح، وبصوت حاسم: سيخرج الرب الأعلى بعد لحظات، سيسمح لكم
برؤيته برهة واحدة، بمقدار رمشة عين، من بعدها عليكم جميعا السجود بخشوع لعظمته..
لا يرفع أحدكم رأسه حتى يأذن لكم، من يحاول التلصص بطرف عينه سيُصاب بالعمى.
بالفعل، مرت لحظات قصيرة، خرج الرب من
باب المغارة، كان طوله يتجاوز المترين، رداء أبيض واسع يلفه من رأسه حتى الأرض..
ومن خلفه تماما تواصل الشمس بزوغها.. فبدا نوره متحدا مع نور الشمس، لا يقوى أحد
على النظر إليه مباشرة، فخروا جميعا ساجدين..
بعد دقائق من الصمت الرهيب، سمع
الساجدون صوت "أوريخا" من جديد، كان صوته واثقا مرتاحا: لقد رضي الرب
عليكم، وأمدكم ببركاته.. وسيظل يرسل لكم الشمس كل صباح، فقوموا إلى أشغالكم..
رفع الجميع روؤسهم، نظروا إلى المكان
الذي وقف فيه الرب، كان فارغا، لكن ضوء الشمس ما زال مسلطا عليه، تسارعوا جميعا
لتقبيل بقعة التراب التي وقف عليها "يغوث"، والتي صارت مقدسة، ثم صارت
مزارا ومقاما مباركا..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق