"التاكسي"،
واحد من أهم معالم المدينة، هو من يعكس صورتها، وأنماط معيشتها، وثقافتها، يصور
واقع الحياة اليومية فيها، يرصد طبيعة المجتمع، ومستواه الاقتصادي والحضاري، من
خلال طريقة تعامل السائق مع الركاب، أو من خلال الأحاديث المتبادلة بينهم..
ملايين "التاكسيات" تجوب شوارع المدن
وأزقتها، تنقل الناس بلا توقف.. في كل لحظة على كوكب الأرض تسمع نداء "تاكسي"،
حيث يقف على الأرصفة ملايين الناس، يرجون بقلق مشوب باليأس توقف
"تاكسي"، ليقلهم إلى حيث يريدون.. وهذه المعاناة تزداد في الصيف..
الروائية الفلسطينية حزامة حبايب، كتبت مادة جميلة
حول «التاكسي» في مجلة "القافلة"، وأوردت فيها معلومات مجهولة، وأوضحت أن باريس كات أول من دشنّت مفهوم "التاكسي"
تاريخيا، تبعتها لندن، ثم نيويورك، اللواتي كن كبريات مدن العالم آنذاك، كان ذلك
قبل أربعة قرون.. كان "التاكسي" حينا عربة بأربعة عجلات يجرهها حصان أو
أكثر، تسمى "الكابريوليه"، وبعد نحو قرنين طورت باريس عربة
"الهانسوم"، لتصبح بعجلتين، لتكون أخف وزنا عن سابقتها وأسرع حركة، ويكفيها
حصان واحد..
ومع نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت في شوارع لندن
سيارات أجرة كهربائية تعمل بالبطارية، تبعتها مدن عالمية أخرى، لكنها استُبعدت من
الخدمة بعد تسببها بحوادث سير مميتة، وكانت القاهرة، أول مدينة عربية تُدخل هذه
العربات إلى شوارعها، بحدود العام 1900.
ومع اكتشاف النفط، ظهرت سيارات التاكسي التي تعمل
بالبنزين، وفي نفس الفترة تقريبا، وبمسار تطوري آخر، ظهرت في اليابان العربة
البشرية، الـ"ريكشا"، وهي عربة صغيرة ذات عَجَلَتين، تتسع لشخص واحد
ويجرّها رجل بيديه. ولا تزال هذه العربات منتشرة في مدن آسيا، وخاصة في الهند،
يستخدمها الفقراء وسيلة للتكسب. وأذكر في زيارة لإحدى المناطق السياحية في الصين،
أن عرض عليَّ سائق "ريكشا" أن أجربها، ولو من باب المغامرة، بيد أني
رفضت بشدة، لأني رأيت فيها امتهانا للإنسان..
وقد تطورت "الريكشا"، وأصبحت دراجة
هوائية يقودها رجل، وهي لا شك أفضل، وأكرم، فضلا على كونها صديقة للبيئة. ثم تطورت
إلى "التوك توك".. وهي عربة صغيرة بماتور يعمل على الوقود، وغالبا ما
تنتشر في الأحياء الفقيرة..
وحتى ستينيات القرن الماضي كانت سيارات الأجرة دون
لون مميز، كان بعض سائقو السيارات الخصوصية يعرضون خدمات التوصيل لقاء أجرة متفق
عليها. ومع تفشي الجريمة والحوادث العنصرية في المدن الأمريكية، وانتشار جرائم
الخطف، أمر عمدة نيويورك في العام 1967 كل سيارات الأجرة المرخصة أن يتم طلاؤها
باللون الأصفر، للحد من النشاط غير المشروع لسائقي الأجرة غير المرخصين.
مدن أخرى اختارت ألوان مختلفة؛ لندن مثلا اختارت
الأسود لتاكسياتها، حتى صار علامة مميزة لمدينة الضباب، والتي تُعد الأفضل بسمعة
سائقيها، بفضل ما يتمتُّعون به من خبرة، وحكمة في التعامل مع الشارع، وبمظهرهم
الأنيق، ورقي تعاملهم، وصبرهم في التعامل مع النوعيات المختلفة من البشر، حتى صار السائق
اللندني بمثابة دليل سياحي، ما جعله مرغوباً من قبل ملايين السياح الذين تستقبلهم
المدينة سنوياً. خلافا لمدن
أخرى، خاصة العربية منها، التي يطفّش سائقوها السياحَ والأجانب، بسبب جشعهم
ورغبتهم في استغلال السائح، بوصفه صيد سهل، وفرصة للتكسب.
مثل نيويورك، اختارت أغلب مدن العالم اللون الأصفر،
بما فيها فلسطين والأردن، القاهرة اختارت الأسود الموشح بالأبيض، والذي اكتسب شهرة
كبيرة بفضل الأفلام السينمائية، السعودية اختارت الأبيض، بينما لبنان, ربما وحدها،
أبقت على تاكسياتها بلا أي لون مميز!
وبسبب التفاوت الكبير في أجرة التاكسي، ومع جشع بعض
السائقين، اخترع المهندس الألماني "فريدريك غوستاف" "العدّاد"،
وهو جهاز بسيط يحسب تكلفة أجرة الرحلة بناءً على المسافة. العداد قلل إلى حد كبير
استغلال السائقين للركاب، ومع ذلك هناك طرق كثيرة للتحايل عليه، أو عدم تشغيله..
في تعليق على الفيسبوك كتب أحدهم: "بعض السائقين يشغلون القرآن، ولا يشغلون
العداد!"..
في العام 2009، أطلقت شركة "أوبر" في سان
فرانسيسكو خدمةً عالميةً جديدةً في منظومة النقل، من خلال طرح تطبيق يتيح لمستخدمي
الهواتف الذكية طلب سيارة أجرة، بحيث يتم توجيه سائقي "أوبر"، الذين
يستخدمون سياراتهم الخاصة، بواسطة نظام الملاحة.. ثم ظهرت في دبي شركات وتطبيقات
مشابهة، من بينها "كريم"، وهي مختصة بتوفير خدمات التوصيل عبر موقعها
الإلكتروني وتطبيقات الهواتف المتنقِّلة، ويغطي نشاطها عشرات المدن في الشرق
الأوسط وشمال إفريقيا. ومؤخرا دخلت السوق الفلسطيني.
بعد "أوبر" و"كريم"، سيظهر
خلال العقد القادم "التاكسي" بلا سائق، وبالفعل، بدأت مدن كثيرة بتدشين
تجارب أولية على هذه السيارات؛ "تاكسيات" بلا سائقين، تنطلق بكل ثقة
وهدوء، دون حوادث، ولا تجاوزات أو مخالفات للقانون، ودون ثرثرة السائقين، وتذمرهم
الدائم من غلاء المعيشة، ومن تسلط الشرطة عليهم، ومن غش ورش التصليح..
هموم سائقي "التاكسي" لا تنتهي: ارتفاع
الضرائب، خراب السيارة المتكرر، ازدحامات المرور، مزاجية الركاب.. وأيضا هموم
الركاب لا تنتهي: صوت المسجل الذي يعكس الأذواق السوقية لبعض السائقين، عدم تشغيل
العداد، جشع البعض منهم، أو فضولهم القاتل بطرح أسئلة غريبة، السرعة الزائدة، خاصة
على الطرق الخارجية..
سائقوا التاكسي لا يحظون بأية إجازة، وإذا لم يكن السائق
مالكا للسيارة، فعليه أن يعمل بجهد مضاعف، يكتفون بساندويشه على الطريق، يركنون
سيارتهم على قارعة أي طريق ليؤدوا صلواتهم، يحتاجون للحمّام، ولا يجدونه بسهولة، بعضهم
يختار الفنادق، وآخرون يختارون الحمامات العامة، في الليل تصبح الأجرة أغلى، لأن
السائق حرم نفسه من لقاء العائلة المسائي، ولأن ناس الليل في المدن الكبيرة لا
يشبهون ناس النهار.
ومع ذلك يمكن رصد دبيب الحياة في المدينة، وخباياها
وأزقتها، وعالمها السري، وأهلها وعواطفهم، وأطياف حيواتهم.. من خلال التاكسي؛ حيث تتكشف
هذه العوالم بوضوح داخل فضاء "التاكسي"، ويصبح السائق مخزن أسرار
المدينة.. وهذا الموضوع تناوله بعض الكتّاب بأسلوب شيق، منهم المصري خالد الخميسي، في كتابه "حواديت
المشاوير" (2007)، كما تناوله المسلسل الشيق "أبو جانتي" للفنان
السوري سامر المصري.. وأيضاً، تناول الموضوع الإعلامي الفلسطيني إيهاب الجريري في
عدد من برامج الصباح.
رحلة آمنة للجميع.. ركابا وسائقين..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق