أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 09، 2018

لا شيء يعجبني



شاهدت على قناة "يوتيوب" مشهدا بدا لي غريبا، شاب عريس في إحدى القرى الإفريقية، في قمة أناقته، يرتدي بذلة وربطة عنق، ومن حوله المحتفلون، بدأ بتمريغ نفسه في التراب، وذر الرمل على رأسه، ثم الشقلبة فوق الوحل، حتى بدا في حالة مزرية، ورغم ذلك كان مبتسما! جميع التعليقات على المشهد كانت ساخرة، وتستهزئ بالشاب، وتصفه بالمجنون.. بالبحث تبين أن هذه عادة متبعة في تلك المنطقة، تعبر عن فلسفة اجتماعية مفادها أن العريس مستعد للتمرغ في الوحل من أجل عروسه، أو أنه مستعد للتخلي عن كبريائه، والقدوم للعروس متجردا من مظاهره الخارجية، متحدا مع الطبيعة بكل بدائيتها..

حتى لو لم تعجبنا تلك الفلسفة، أو رأينا هذه العادة سخيفة وغبية.. إلا أنها بالنسبة لهؤلاء القوم مقبولة، وعادية.. البعض منا يسخر من الهندوس لأنهم يقدسون البقرة، وينسون أن بعضنا يتبارك ببول البعير، ويعتبره شفاء لكل داء!! حتى أن إحدى الجامعات السعودية نظمت مؤتمرا علميا عنوانه: التداوي ببول البعير!

لكل شعب ثقافته الخاصة، وعاداته التي ارتضاها لنفسه، ومن الخطأ إسقاط معيارنا للصواب والخطأ على الشعوب الأخرى.. كما لديهم تقاليد تبدو لنا مستهجنة، هم يعتبرون بعض تقاليدنا مستهجنة أيضاً..

المشكلة أننا نعتبر أنفسنا أرقى الشعوب، ونقيس رضانا عن المجتمعات الأخرى وقبولنا لها وفقا لمسطرتنا الخاصة.. وهذا ينطبق على معظم شعوب الأرض؛ كل قوم يرون أنفسهم الأعلى منزلة، والأذكى، والأحق بالحياة.. وهذه عنصرية..

هذا على المستوى الجمعي؛ على المستوى الفردي تبدو الظاهرة أشد وضوحا..

قبل فترة، أخطأ مذيع أردني في قراءة خبر ما، فانهال نشطاء الفيسبوك عليه بالسخرية، والتجريح، حتى أنهم اعتبروا المسألة مرتبطة بالفساد والواسطات ووو.. وتبين أنَّ ذهن وقلب المذيع كانا مشغولين بابنته المريضة.. الأمر الذي جعله يرتكب تلك الغلطة "الفظيعة"..

نحن عادة لا نرى الشخص إلا عندما يخطئ، وأحيانا ننتظر وقوعه بالخطأ، ونبتهج لذلك! عندها نبدأ برجمه ومحاسبته كما لو أننا ملائكة.. نستسهل إطلاق الأحكام على الآخرين بكل خفة، محكمتنا دوما مفتوحة، وأحكامها قطعية، وغالبا بلا رحمة.. من النادر أن نضع أنفسنا مكان الشخص المخطئ، لنلتمس له العذر، أو لنتفهم حالته..

نسخر من كل الناس، لا يعجبنا شيء، ننتقد حتى العلماء المتخصصين، والفنانين والأدباء الكبار، والرياضيين المحترفين.. ونعتقد أننا أفضل وأذكى منهم.. أكثر سخرياتنا شيوعا تلك المتعلقة حول النساء اللواتي يضعن على وجوههن المساحيق ويغطينها بالمكياج.. نصفهنَّ بأقذع الصفات.. ما ذنب الفتاة التي جاءت للدنيا بحظ قليل من الجمال؟ لماذا نسخر من خلقتها.. لو خرجت كما هي لا نوفرها من التعليقات، وإذا تجملت نستهزيء بها!! كل ما تفعله أنها تحاول الظهور بمظهر حسن، لتجاري أقرانها، لتتغلب على خوفها من مواجهة الناس.. هل تستحق منا الاستهزاء! أم التقدير؟

إذا رأينا شخصا سميناً، نعلق عليه، ننتقده، نعتقد أنه صار كذلك لأنه يأكل بشراهة! في حين أنه لا يتوقف عن محاولات التخسيس، ويحرم نفسه من أطيب الطعام، لكنه يخفق بسبب خلل في الهرمونات!

نسخر من الأشخاص الذين ولدوا بتشوهات معينة، كأن تكون آذانهم كبيرة، أو أصابعهم طويلة، أو جباههم عريضة.. وكأن من يسخرون منهم في قمة الوسامة.. نسخر حتى من ذوي الاحتياجات الخاصة.. ونستخدم بعض المصطلحات المهينة: منغولي، معاق، عاهة..

إذا رأينا شبانا يقودون دراجاتهم النارية بتهور نشتمهم، نلعن تربيتهم الناقصة، ونطالب بسجنهم.. لم نفكر للحظة بهم، لم نسأل أنفسنا: أين وكيف يصرف هؤلاء الشبان طاقاتهم المكبوتة؟ كيف وأين يعيشون توقهم للمغامرة؟ وليس في بلادنا ملاعب وميادين وأندية تستوعبهم.. ليفرغوا في طاقاتهم.. ويمارسوا فيها جنونهم.. وبعد ذلك نلومهم، لأنهم يفكرون بالهجرة!

وإذا رأينا شخصا يقود سيارته بسرعة فائقة ويتجاوز الإشارات الحمراء نصبُّ اللعنات عليه، ولا نفكر للحظة بأنه قد يكون مسرعا لأمر طارئ وخطير..

عندما ننظر في المرآة، لا نرى عيوبنا، نتغاضى عنها، وحتى عندما نخطئ، نغفر لأنفسنا بسهولة، ونبرر أخطاءنا، ونفعل العكس تماما مع الآخرين.. نلعن أزمة المرور، وننسى أننا جزء منها، ومن أسبابها.. في طوابير الانتظار مثلا (في البنوك والمؤسسات الحكومية) كل شخص يعتقد أن من حقه تجاوز الدور، لأنه مستعجل، حتى في العيادات الصحية، يأتي أحدهم ويستأذن من الآخرين لأنه مريض جدا، وكأنَّ الآخرين آتون للسياحة!

الأطفال هم أكثر الكائنات قسوة وأنانية، خاصة تجاه بعضهم، وإذا كنت تشك في ذلك، تابع قصص التنمر والسخرية والاستهزاء في المدارس.. ومع ذلك، لا نلومهم، ونسامحهم، ونتفهم أخطاءهم.. لأنهم ما زالوا أطفالا، وأمامهم الكثير ليتعلموه.. لكن المشكلة في الكبار، فعندما تحدث مشكلة بين طفلين، كل عائلة ستجزم أن ابنها على حق، لأنه حسن التربية.. ومن النادر أن نعترف بأخطائنا، وبتقصيرنا في تربية أولادنا! وهكذا يكبر الأولاد وفي ذهنهم اعتقاد أناني بأنهم دوما على صواب..

جوهر المشكلة، أن كل شخص منا يرى نفسه بصورة نرجسية، يعتقد أنه الأفضل، وأنه محور الكون، حتى عندما يسرد ذكريات الطفولة والمراهقة، والتي عادة ما تكون مليئة بالأخطاء والعثرات والنظرة الضيفة الأنانية، يتحدث عنها بإعجاب، ويبرر لنفسه تلك الأخطاء، بدلا من الخجل منها، أو الاعتراف بأنها كانت أخطاء فادحة.. والسبب أننا لا نرى العالم إلا يمنظورنا الأحادي، وفق معيارنا الخاص، ونتعصب لآرائنا بطريقة عجيبة..

لذلك، يريد كل أب لأبنائه أن يكونو نسخة عنه، ويسيرون على هداه، دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات العميقة بين الأجيال، وتغير معطيات العصر.. وقد يعاقب الأستاذ طالبا لأنه تأخر، أو تقاعص، دون أن يحاول تفهم ظروفه العائلية.. وقد يطالب مدير العمل مرؤوسيه ببذل أقصى جهد، والعمل لساعات إضافية، دون أي تفهم لظروفهم الخاصة ومتطلباتهم الإنسانية.. 
لكل إنسان قصته الخاصة، ولديه ما يكفي من الهموم والمشاكل، والتي قد يخفيها وراء ابتسامة، أو ضحكة مدوية.. فلا تنخدع بالمظاهر..

تفهّم الآخرين، والتماس الأعذار لهم، لا يعني تبرير الأخطاء، والسكوت عليها، أو الإقرار بها.. المسألة أننا كلنا خطاؤون، ولكننا نتعامى عن أخطائنا..

لسانك لا تذكر به عورة إمرئ، فكلك عورات وللناس ألسن (الشافعي)..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق