أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 21، 2018

دوران



 لا يعرف "وصفي" هل صعد إلى السيارة باختياره، أم أن أحدا أرغمه على ذلك، فقد وجد نفسه في الكرسي الخلفي، بين راكبين: سيدة ثلاثينية، ورجل سبعيني، وإلى جانب السائق شاب في سنته الجامعية الأولى.. كان الوقت صباحا، ونسمات البحر الندية تتسلل من فتحة الشباك، كان السائق منذ بداية الرحلة قد شغل المسجل على صوت المقرئ عبد الباسط، وهو يرتل قصار السور بصوته الشجي، والكل منصت له بخشوع..

لم يميز "وصفي" كم مضى من الوقت، وإلى أين وصلوا.. بل إنه كان متيقنا بأنهم لم ييرحوا مكانهم، وأن السائق الملتحي ما زال جالسا بتوتر خلف المقود، وعينيه على الشارع، بانتظار ركاب آخرين ليملأ بهم السيارة..

نزل الركاب واحدا تلو الآخر، ولم يبق إلا هو.. فيما نزل السائق وأشعل سيجارته، وأخذ ينادي بصوت مرتفع: رفح، رفح..
صعد ركاب جدد، وامتلأت السيارة بهم، فسأله السائق باستغراب: كنك راجع معنا يا أخ؟! سكت وصفي، ولم يجب، كان هو الآخر مسغربا من السؤال..

مضى وقت طويل، ووصفي غارق في تساؤلاته وحيرته.. وكان الركاب ينزلون تباعا، ويصعد بدلا منهم ركابا آخرين.. ووصفي ما زال ينتظر السيارة أن تنطلق.. يريد أن يصل بيت حانون قبل الظهر، يجب ألا يتأخر عن موعد العرس، سيزعل أعمامه منه كثيرا إن لم يأتي..

تنبه وصفي فجأة على رجة عنيفة هزت السيارة، صحا مذعورا وكأنه في كابوس.. رائحة الدم والبارود تزكم أنفه، وصوت الرصاص يدوي في كل مكان.. السيدة الثلاثينية تبكي بحرقة، الرجل السبعيني يكابر في إخفاء دمعته.. الشاب الجامعي ينظر إلى الأمام برعب وحيرة، وكأنه تائه وسط صحراء ممتدة.. والسائق يواصل المسير وكأنّ شيئاً لم يحدث.. بل إنه نظر إليه من المرآة بثقة متعالية، وبصوت ساخر: مالك يا زلمة خايف؟! هاي رابع مرة بنعمل حادث، والسيارة لسه ماشية.. ما شاء الله عليها.. طيب، ليش الركاب بعيطوا؟ سأل وصفي.. أنا شو دخلني، المهم يدفعوا الأجرة.. أجاب السائق..

أدرك وصفي أن الوقت متأخر، ومن المفترض أنهم على وشك الوصول إلى بيت حانون.. لكن، ولشدة دهشته، نزل جميع الركاب دفعة واحدة، ونزل السائق ليشعل سيجارته، وينادي بصوته الجهوري: بيت حانون، بيت حانون..

اللعنة، أين نحن الآن؟ كم الساعة؟ ما هذا السائق الغريب، الذي يملأ السيارة بالركاب، ثم ينزلهم منها، دون أن يغادروا أماكنهم؟! وكل ما يفعله، جمع الأجرة! حتى سجائره يأخذها من الركاب!!

التفت الشاب الجامعي إلى الخلف، موجها كلامه إلى وصفي: والله يا حاج، ماني عارف شو أحكيلك.. من عشر سنين وأكثر، وأنا بطلع معك كل يوم، وبلاحظ أنك بتسأل نفس الأسئلة.. وهيني تخرجت صارلي سبع سنين، ومش لاقي شغل، وأنا مش عارف إنت رايح على بيت حانون، وإلا على رفح؟؟ مين فينا صاحي؟ ومين مخرفن؟! وليش بصير هيك؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق