أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أبريل 20، 2018

شيء محــير



قديما، كان يُقال أن الإعلام العربي مقصّر، بل ومتآمر؛ لأنه لا ينقل صورة الأحداث، وبالكاد يعرض صور مجتزأة ومقتطفات موجزة عن الحراك الجماهيري، أو عن الحروب والعمليات العسكرية وغيرها,, ربما لأن الأنظمة تخشى أن تحرض تلك الصور الجماهير، وتدفعها للنزول إلى الشارع والاحتجاج..

حاليا، تتدفق آلاف الصور، عن كل حدث، صغيرا كان أم كبيرا، وباتت بمتناول الجميع، وبأدق التفاصيل.. وصار يقال أن الإعلام يقصد من وراء ذلك (أو ربما عن غير قصد) إلى جعل مشاهد الدمار والقتلى والضحايا والأحداث الساخنة مشاهد عادية جداً، لا تثير أحدا..

وكان يقال أن الفنانين والكتّاب الذين ينتقدون الأنظمة والحكومات إنما تدفعهم المخابرات لفعل ذلك لامتصاص غضب ونقمة الشعوب، أو لتخديرها.. اليوم، نتساءل عن دور الفنانين والكتاب والمثقفين في نقد الأنظمة..

وكان البعض يعتبر أن كل الاتفاقيات والمعاهدات ومشاريع التسوية، مجرد مؤامرات دولية لإلهاء الشعوب وإسكاتها.. وحتى الحروب والمعارك عبارة عن مسرحيات معدة سلفا، هدفها تضليل الجماهير وخداعهم.. وأنّ أمريكا (والقوى الاستعمارية) تسعى لتمرير مشاريعها من خلف ظهر الشعوب، بتضليلها وإشغالها، الحكومات تفعل نفس الشيء، وبنفس الآلية.. لأن الشعوب والجماهير بمجرد أن تعلم بالحقيقة، أو أن تسمع بالخبر، أو أن تشاهد الجريمة.. على الفور ستتحرك وتقلب الطاولة، وتسقط المؤامرات.. لكنها لم تفعل ذلك، لأنها لم تكن تعلم، ولأن الإعلاميون والسياسيون أشغلوها بقضايا ثانوية وهامشية...إلخ.. اليوم، كل شيء على المكشوف، وعلى الهواء مباشرة، وبكل وضوح.. ومع ذلك، لم يحصل شيء!!

هل الشعوب والجماهير عاجزة؟ أم مغيبة؟ أم هي مجرد ظاهرة صوتية؟

وكنا ننتقد ونسخر من الزعماء العرب لأنهم يكتفون بشجب واستنكار الاعتداءات الأمريكية والإسرائيلية.. اليوم، ننتقدهم ونسخر منهم لأنهم حتى لم يعودوا يصدرون بيانات شجب وإدانة إزاء ما يجري من أحداث وجرائم..

عندما انطلقت الثورة الفلسطينية، كان جُل كوادرها ومنتسبوها وقادتها متطوعون، ولا يتقاضون أية مخصصات.. وبعد أن زادت أعدادهم بشكل كبير، وزادت أعباءهم ومسؤولياتهم، وبرزت الحاجة لتفرغ أعداد كبيرة منهم، صار لزاما على الثورة أن تؤمن لهؤلاء مصدر عيشهم، ومن البديهي أن تتأسس من أجل ذلك هيكلية تراتبية ونظام مالي.. حينها انقسمت الآراء بشكل حاد بين من يقولون أن المال سيفسد الثورة، ولا حاجة لنا به، وبين من يقول أن المال مسألة أساسية ولا يمكن العمل والتقدم دونه.. وفي الانتفاضة الأولى انقسم الناس بين من يقول أن منظمة التحرير تريد إفساد الانتفاضة بإغداقها الأموال عليها، وبين من يتهمها بالتقصير في دعمها..

وما زال الانقسام بالرأي مستمرا، وحادا، بين من يتهم السلطة الوطنية بأنها أفسدت الشعب بالأموال والبنوك والقروض، وبين من يتهمها بالشح والتقصير في توفير الدعم المالي للمواطنين.. فيُقال أن الشعب جائع، وفقير، ويجري وراء رغيف الخبز، وليس لديه لا الوقت ولا الرغبة في الانخراط في الفعاليات النضالية (أو الاحتجاج على الحكومات) لأن السياسات الاقتصادية جعلته لا يفكر سوى بتأمين لقمه عيشه ومصروف بيته.. وفي المقابل، يُقال أن السلطة متورطة (وكذلك الكثير من الحكومات العربية) في سياسات اقتصادية سهلت على المواطنين شراء السيارات والبيوت والحصول على قروض، والسفر والعيش الوثير الذي جعل الناس ينشغلون بمشاريعهم، وأساليب عيشهم الجديدة، وبالتالي لم يعودوا يفكرون لا بالنضال ولا بالمقاومة، ولا بالاحتجاج..

وإذا نفذت السلطة مشاريع خدماتية وبنى تحتية يتهمها البعض بأنها تسعى لتحسين ظروف العيش تحت الاحتلال، وأنها بذلك تسعى للتكيف معه، وإذا لم تنفذ، قد يتساءل هؤلاء أنفسهم: لماذا لا تقيم السلطة مشاريع لدعم ولتثبيت صمود الناس في مواجهة الاحتلال!

عموما، الناس لا يعجبها العجب؛ فمثلا قد يمضي مناضلا ما زهرة شبابه في السجون الإسرائيلية، سيقول البعض إنما تريد إسرائيل تلميعه، وإعداده لمرحلة قادمة، وإذا أفرجت عنه قد يقول البعض لأنه عميل، أو لأنه تعاون مع السجان، وإذا هاجمت الصحافة الإسرائيلية شخصية قيادية معينة، سيقول البعض: إسرائيل تريد فضحه والتخلص منه، لأنه بات ورقة محروقة، وإذا لم تهاجمه سيقول آخرون لأنه متواطئ ومهادن للاحتلال! وإذا كان هذا الشخص على قيد الحياة، سيشكك البعض به قائلين: لو كان وطنيا مخلصا لقتلته إسرائيل.. يعني يظل الفلسطيني متهما إلا أن يثبت موته، ويفضَّل أن يموت قتلا، حتى يسلم من ألسنة الناس وانتقاداتهم..

مشكلة الجماهير أنها تعتقد أن المشكلة فقط في الأنظمة والحكومات والقوى الخارجية.. وهذه عوامل مؤثرة ومهمة، ولكن، في حقيقة الأمر جوهر المشكلة يكمن في الجماهير نفسها، وتحديدا في طرائق تفكيرها، وأنماطها السلوكية..

عندما تقع الهزيمة، وتتوالى الكوارث السياسية تبدأ الناس بالتفتيش عن شخص يحمّلوه كامل المسؤولية، وغالبا ما يكون القائد.. وعندما تحدث أزمة، وتتعقد الأمور، يبدؤون بالبحث عن قائد مخلّص، قائد يتولى بنفسه كامل المهمة.. وفي الحالتين، تضع الجماهير نفسها في خانة المتفرج، السلبي، تتخلى عن دورها طواعية.. ليس لأنها متقاعصة، أو يعوزها الشجاعة؛ بل لأنها تعودت على فكرة القائد والزعيم.. لأنها لم تمارس تاريخيا دورها الطبيعي في صنع الأحداث..

وغالبا، النخب المثقفة، هي التي تلعب هذا الدور، تنأى بنفسها عن الأحداث، تبقى متفرجة، مشككة، منتظرة، بعقلية تطهرية، متعالية، تبرئ نفسها من المسؤولية، وتستسهل تحميلها للآخرين!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق