غادرنا في الرابع عشر من آذار، عالم الفيزياء
الأشهر "ستيفن هوكنغ"، مخلفا وراءه نتاجا علميا هائلا، وجدلا سخيفا حول
حقيقة شخصيته، وجواز الترحم عليه!
مع إني قرأت بعض كتبه (عددها 15 كتابا)، واطلعت على
معظم أفكاره عبر عشرات المقالات والأفلام الوثائقية، وأزعم أني أفهمه إلى حد
معقول، ومع ذلك لم أرغب بالكتابة عنه، نظرا لعدد المقالات الهائل التي تناولت
سيرته بالتفصيل.. ولم أرغب بالدخول في النقاش العقيم حول جواز الترحم عليه؛ فمثل
هكذا جدل، يُثار في كل مرة يموت فيها أحد المشاهير، سواء كان عالما فذا، أم فنانا
مبدعا، أم قائدا سياسيا، أم شخصية إنسانية ملهمة.. بدلا من أن ندرس نتاجهم،
ونستفيد من أفكارهم، ننقسم بين من يدخلهم الجنة، ومن يدخلهم النار، وقد وضعنا
أنفسنا مكان الله، وأخذنا دوره، وفرضنا الوصاية عليه (تعالى شأنه)، لنُدخل برحمته
من نشاء، ونُـخرج من نشاء! وقد جعلنا رحمة الله التي وسعت كل شيء على مقياسنا
البشري الضيق، المحكوم بالأهواء ونزعات الكراهية والانتقام!
ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع، ذلك الانتشار
الهائل لعدد كبير من الأفلام القصيرة المنشورة على موقع "يوتيوب"، التي
تشكك بحقيقة شخصية "هوكنغ"، وتزعم أنه كان مجرد دمية، وأنّ آخرين، هم
الذين يملون عليه ما يقول، ويكتبون على لسانه ما يريدون.. وليست مصادفة أبدا، أن
من يقف وراء تلك الأفلام هم أنفسهم أصحاب نظرية الأرض المسطحة..
الجدال حول شخصية "هوكنغ"، وغيره، مسألة
طبيعية ومشروعة، بل ومطلوبة، لكن ما يستفز في الموضوع، أن عددا كبيرا من تلك
الأفلام تسخر من إعاقته، وتصور جوانب من حياته الشخصية دون احترام، وبعضها جاء
بعنوان: "أنظروا كيف انتقم الله من هذا العالم المشلول"!! وتلك سقطات
أخلاقية مرفوضة ومدانة.. فضلا عن أساليب الخداع والتضليل التي يلجأ إليها منتجو
تلك الأفلام، مثل اجتزاء مقاطع من سياقاتها، أو تحريف مقولات، أو نسب مقولات
لشخصيات تاريخية وسوقها على أنها دليل على صحة أفكارهم، دون أي فرصة للتأكد من صحة
تلك المقولات، وأنها قيلت بالفعل من قِبَل أصحابها.. فضلا عن الشعارات العاطفية
والأسلوب الخطابي الشعبوي الذي يخاطب العامة والبسطاء..
يرتكز أولئك المشككون على مسألة
"إستحالة" إنتاج هذا العدد الضخم من الكتب من قبل إنسان مشلول كليا، لا
يتحرك فيه سوى عضلات خده!! والحقيقة، أن "هوكنغ" ظل حتى مطلع العشرينات
من عمره إنسانا طبيعيا، وعندما تخرج من "أكسفورد"، ثم من
"كامبيردج" كان يستطيع الكتابة بيده، واستمر كذلك حتى سنة 1979، ثم بدأت
صحته تتدهور، فأخذ يملي أفكاره على مساعديه، ثم لجأ عام 1986 بمساعدة شركة
"إنتل" لحاسوب يحاكي حركة يده فيحول الكلمات إلى صوت، وعندما فقد صوته
كليا، وفقد القدرة على تحريك يده، استعان بحاسوب أكثر تقدما، يستجيب مجس خاص مثبت
على خده لحركة عضلته الأخيرة، فيختار الأحرف الأولى للكلمة المناسبة، فيتوقع
الحاسوب بقية الكلمة، أو يختار بعض الكلمات، فيكوّن الحاسوب جملة معينة، ما عليه
سوى الموافقة أو التعديل.. وهي تقنية موجودة بشكل أبسط على هواتفنا الذكية.. ولا
شك أن حاسوب "هوكنغ" كان متطورا وباهظ الثمن؛ لذلك فهو ليس متاح
للآخرين.. ومع ذلك، فإن مساعديه كانوا يتولون عمليات التحرير والتدقيق والصياغة،
فضلا على أنّ عددا من كتبه اشترك بها مع علماء آخرين.
يقول "هوكنغ" إنه لم يكن متفوقا في
المدرسة (حصل على الترتيب الثالث قبل الأخير)، وأنه قبل الإعاقة كان يشعر أن
الحياة مملة، وليس فيها ما يدعو للمثابرة، لكنه بسبب الإعاقة وجد نفسه أمام تحدٍ
كبير، وأنه تفرغ كليا لدراساته وأبحاثه، الأمر الذي ساعده على الوصول إلى هذه
المكانة العلمية الرفيعة (كرسي نيوتن، وخليفة إينشتاين)..
ما دفع هؤلاء للتشكيك بحقيقة شخصيته، وتسخيفها، هو
مقولاته العلمية، خاصة في كتابه الأخير "التصميم العظيم" الذي قال فيه:
"إن الكون لا يحتاج لوجود إله".. وهذا كلام خطير جدا، خاصة من قِبل عالم
فيزيائي كبير ومهم.. ولكن، كان بالإمكان الرد عليه بطريقة علمية محترمة، بدلا من
أسلوب التشكيك والتسطيح.
هؤلاء المشككون، هم أنفسهم أصحاب نظرية الأرض
المسطحة، التي أخذت تنتشر في الآونة الأخيرة بشكل ملفت للنظر، وهناك مئات المقالات
والأفلام القصيرة على الإنترنت تشرح نظريتهم.. والملفت للنظر أنهم ليسو بالبساطة
ولا السذاجة التي قد يتوقعها البعض، فمنهم مهندسون وطيارون وعلماء سبق أن اشتغلوا
في "الناسا"، وفي الحقيقة، لديهم الكثير من الأسئلة الوجيهة والمحيرة،
التي تستحق التأمل ولتفكير..
خلاصة نظريتهم أن الأرض ليست كروية، بل هي دائرية، محاطة
بجدار جليدي عالٍ جداً لم يعبره أحد قط، والقطب الشمالي مجرد وهم، وأن وكالة
"ناسا" توظف شرطة خاصة لمنع الاقتراب من الجدار خوفاً من افتضاح قصة
تسطح الارض، وأنه ليس للأرض جاذبية، وهي ثابتة ولا تدور حول نفسها، ولا حول الشمس،
بل إن الشمس والقمر هما الثابتين المعلقين في السماء بارتفاع 37 كلم، وكل صور كوكب
الأرض مفبركة، ولم تطأ قدم أي إنسان القمر، وأن غزو الفضاء مستحيل، وأنه ولا وجود للأقمار
الإصطناعية، ولا للمحطة الفضائية الدولية، ولا وجود للفضاء الخارجي، ولا وجود
للنجوم والمجرات..
ويطرحون أسئلة، قد تبدو محيرة، مثلا: إذا كانت
الأرض كروية وتدور حول نفسها بهذه السرعة الهائلة فلماذا تتدفق الأنهار في كل هذه
الاتجاهات؟ أليس من المفترض أن تتجه فقط مع حركة دوران الأرض؟ ولماذا لا يقوم
الطيارون بخفض الطائرة وتغيير ميلانها بشكل مستمر خوفاً من الانتهاء في الفضاء
الخارجي؟ ولماذا تثبت أطباق "الستالايت" على زاوية 45°، فلو فعلاً كانت
هناك أقمار صناعية على ارتفاع مئات الكيلومترات أليس من المفترض توجيهه عامودياً
بزاوية 90°؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق