وقفت
الشابة الإيرانية "ويدا موحد" (31 عاما)، على منصة حجرية، في شارع
الثورة وسط طهران، سافرة تلوح بمنديلها الأبيض؛ مشكّلة إلهاماً لنموذج الاعتراض
السلمي الهادئ، لتتحول إلى أيقونة للحركة الاحتجاجية للنساء الإيرانيات الساعيات لإسقاط
قانون فرض الحجاب في البلاد.
تبعتها
ست فتيات طهرانيات، الأمر الذي دفع بشرطة الآداب لاعتقالهن، وإصدار بيان يتهمن
بالعمالة للخارج ويهددهن بالسجن الدائم. ثم ما لبثت أن تحولت عبارة "فتاة
شارع الثورة" إلى عنوان لحملة شعبية آخذة بالاتساع في عموم المدن الإيرانية، تضم
نساء ورجال من مختلف القوميات والطوائف، فاقت قدرة شرطة الآداب على لملمتها (على
حد تعبير الكاتبة اللبنانية بادية فحص).
وصف
رسام الكاريكاتور الإيراني "بيناخواهي" هذا الحراك الشعبي بالإعصار. حيث
رسم "ويدا موحد"، تقف على منصة ملوحة بمنديلها وخلفها يقف شاب وفتاتان
يفعلون مثلها، ويظهر الرسم رجلي دين طيرهما الإعصار، وعدد من العمائم والسبحات
وقعت أرضا.
كيف
حدث ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال، ينبغي الرجوع إلى
بدايات الثورة الإيرانية، التي أسقطت الشاه، وحولت البلاد إلى جمهورية إسلامية،
كانت أولى قوانينها فرض الحجاب.. وفي الواقع، ما الحجاب إلا أحد مظاهر الأزمة،
والأزمة في حقيقتها أعمق من ذلك بكثير؛ إنها أزمة بنيوية تتعلق بطبيعة النظام
نفسه.. ما يدعونا لطرح السؤال: هل الثورة الإيرانية التي اندلعت في مثل هذه الأيام
من عام 1979، كانت ثورة دينية إسلامية، أم كانت ثورة شعبية؟
تجادل
هذه المقالة في مقولة أن الثورة الإيرانية كانت حركة احتجاجات شعبية واسعة، هدفها
إسقاط الشاه، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وكل ما في الأمر أن الخميني جاء على
الطائرة الفرنسية، واستولى على الثورة، وحولها إلى إسلامية، بعد أن فرغها من
مضامينها الاجتماعية والسياسية.
وقد
خرجت تقارير إخبارية عديدة تشير إلى تواطؤ أمريكا في إسقاط الشاه، وتسهيل مهمة
الخميني.. ولكن، دون الوقوع في تعميمات ونظريات المؤامرة، تعالوا نحلل واقع الحال
قبيل اندلاع الثورة.. وهذا مهم، لأن الثورات الشعبية تكون بالضرورة استجابة للبيئة
الاجتماعية والسياسية، ونتاجا لها، بما فيها الثورة
الإيرانية نفسها.
في هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي الإيراني "سعيد
ليلاز": "إن الثورة الإيرانية أتت نتاج للتطورات الاجتماعية والاقتصادية
التي حدثت في السبعينات"، مضيفا: "بدأت المؤشرات الاقتصادية في إيران بداية
السبعينات (مع ارتفاع أسعار النفط) تتجه نحو زيادة معدلات التضخم، مع هجرة نشطة من
الريف إلى المدينة، التي لم تكن مؤهلة لاستيعاب الأعداد الضخمة من المهاجرين،
بالرغم أن معدل الدخل القومي السنوي صار أكبر بعشرة أضعاف من معدل دخول العقود
السابقة، إلا أن الناس كانت تسكن أكواخا من الصفيح في ظروف جدا بائسة، وأخذ النمو
الاقتصادي يعاني من عدم الانسجام والترابط، وكانت الأجور متدنية والتضخم مرتفعا،
فتكونت فجوة كبيرة بين طبقتي المجتمع غير مسبوقة، حيث بلغ مؤشر "جيني" في أواخر
السبعينات 0.53 بعد
أن كان في السابق دون 0.41 وعندما
تصل الأمور عند هذا الحد يعني أن الانفجار موشك في أي لحظة، بسبب اتساع الفجوة بين
الطبقات، وغياب العدالة الاجتماعية، وتفشي الفقر والبطالة، وفي العام الذي سبق
الثورة الإيرانية بلغت الأوضاع الاقتصادية أسوأ حالاتها، وكان الغليان الاجتماعي
في ذروته".
إذن، مع انتشار الفقر والبطالة والتضخم، وتأزم الأوضاع
الاقتصادية، صار الانفجار الشعبي مسألة وقت، وما ساهم في تأجيج الأوضاع سياسات
الشاه؛ الذي عادى طبقة التجار في "البازار"، واضهد الأقليات القومية
والإثنية، وقمع الأحزاب السياسية، إضافة لتفشي الفساد والبذخ في الأسرة الحاكمة..
وهذا يفسر طبيعة الثورة الإيرانية الشعبية، وانخراط كافة أحزاب وطبقات وفئات
وشرائح وطوائف المجتمع الإيراني فيها.
تشبه هذه الحالة ما حدث في ثورة يناير في مصر، حيث خرجت
جموع الجماهير الشعبية المصرية، تطالب بأمرين: إسقاط مبارك، وتحقيق العدالة
الاجتماعية، لكن "الإخوان المسلمين" ركبوا الموجة، واستولوا على الثورة،
وحاولوا تصويرها على أنها ثورة إسلامية، وأن الشعب يريد حكم الإخوان.. كما فعل
"حزب الله" من قبل، حيث عمل على إقصاء القوى الوطنية اللبنانية
والفلسطينية من الجنوب اللبناني، وتحويل اسم المقاومة الوطنية اللبنانية إلى
"المقاومة الإسلامية"..
بالعودة لإيران، ومع مجيئ نظام ولاية الفقيه، سنجد أن طبائع
الاستبداد كانت واضحة في تركيبته؛ وملامح الحكم الثيوقراطي الشمولي واضحة في
الدستور.. لذلك، ما أن استولى الخميني على الحكم، حتى بدأ بإقصاء كل خصومه، بل كل
من اشترك في الثورة، لكنه من خارج الحوزة الدينية؛ فقتل وسجن وأعدم عشرات الآلاف،
ضمن حملة تطهير للدولة، والمجتمع.
وعلى
مدى العقود الثلاث الماضية، تحولت الدولة
إلى سلطة كهنوت؛ في البداية ركزت على شعار "تصدير الثورة"، وخاضت حربا
طويلة مع العراق، وأخذت تنحدر في أكثر من مجال: مصادرة الحريات، قمع الأقليات، تراجع
دور النخب والطبقة الوسطى، وتراجع دورها الحضاري، إضافة لتفشي البطالة والفقر،
وانعزالها عن العالم حتى قبل أن يفرض عليها الحصار والعقوبات الاقتصادية. ورغم أن
السلطة يتم تداولها من خلال الانتخابات وبصورة سلمية، إلا أن هذا لا يعكس أجواءا
ديمقراطية حقيقية.
ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية (غلاء، بطالة، فقر)، وظهور
تقارير تشير إلى تفشي الفساد في مؤسسات الدولة (بما في ذلك المؤسسة الدينية)،
وبسبب تورطها في أربعة صراعات عربية (لبنان، اليمن، العراق، سورية)، ومع الموازنات
الضخمة التي تخصصها لحلفائها في الخارج (حزب الله، الحوثيين، الجهاد، حماس سابقا)؛
بدأت تظهر علامات تململ شعبي، كانت بوادره في 2009، بعد ظهور تقارير تشير إلى
تزوير الانتخابات، ثم في أواخر العام 2017، بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، وهذه
الأيام احتجاجا على قمع الحريات، واستمرار عزل البلاد عن العالم.
صحيح أن النظام ما زال متماسكا وقويا، ولكن إلى أي مدى
بوسعه الصمود أمام متغيرات العالم العميقة والجذرية، في شتى المجالات، التي ستجتاح
إيران عاجلا أم آجلا؟ هل ستخضع "الثيوقراطية الإيرانية" للحراك الشعبي
المدني؟ أم ستواصل قمعه؟
من يعش يرى..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق