على مدى الثلاثين عاما التي عشتها في الأردن،
والعشرين التي عشتها في فلسطين، ومن خلال سفراتي وعلاقاتي الشخصية، وقراءاتي
ومطالعاتي ومناقشاتي مع الكثيرين.. أي من خلال خبرتي الشخصية المتواضعة، تكونت لدي
فكرة عامة يمكن من خلالها فهم الأطر العريضة التي تحدد أنماط العقلية العربية، وطريقتها
في التفكير.
بصورة عامة، مع الأخذ بالاعتبار التباينات
والاختلافات بين الأفراد والمجموعات، والفروقات من بلد إلى آخر، ومن مرحلة لأخرى..
إلا أن النقاط الواردة تاليا، يمكن اعتبارها قواسم مشتركة (إلى حد ما) بين معظم
الأفراد في عموم المنطقة العربية، خاصة تلك التي تأثرت بأطروحات الإسلام السياسي،
وبشكل خاص الإخوان المسلمين، وهذه النقاط تشكل أبرز ما يؤمن به المواطن العربي،
والتي تشكل مرجعيته في التفكير، واتخاذه للمواقف:
= جميع الملوك والرؤساء العرب عملاء للأمريكان،
الحكومات خائنة وعميلة، الأنظمة كافرة وعدوة للشعوب.. الشرطة والجيش مؤسسات غير
وطنية، وهي مجرد أدوات فاسدة بيد الحكومات الأفسد..
= العرب ليس بيدهم حيلة، وإذا أتى أي قائد شريف
ومخلص، فإن أمريكا وإسرائيل ستقتله (أي قائد يظل متهما بوطنيته، إلا أن يثبت
موته).
= كل ما يدور على الساحة من صراعات وحروب واتفاقيات
إنما هو مؤامرة غربية، جرى إعدادها بدقة، وما القادة العرب إلا بيادق على رقعة
الشطرنج، وكل ما يفعلونه عبارة عن مسرحيات معدة سلفا..
= الغرب كافر، وهو عدو لنا، ولا يريد بنا خيرا.. والمجتمعات
الغربية منحلة، وقيمها منحطة، والأسرة مفككة، الأب ليس له سلطة على البيت، الجريمة
والمخدرات متفشية، ولا يوجد هناك أمان.. وكل ما يأتي من الغرب حرام، وهو مؤامرة
على الإسلام: عيد الحب، عيد العمال، الأزياء، الاحتفالات، المسابقات، الاختلاط،
حرية الفرد، الليبرالية، العلمانية..
= لا داعي للحديث عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان،
وحقوق المرأة، وحقوق الطفل لأنها بضاعة غربية مستوردة ومشبوهة، ولدينا الإسلام
تناول هذه المواضيع كلها، وقدم بدائل جاهزة..
من خلال هذه المقولات (وهناك مقولات أخرى مشابهة،
قد نتناولها لاحقا)، يمكن الاستنتاج بأن العقلية العربية عموما (مع الإقرار بوجود
الاستثناءات) متشبعة بنظرية المؤامرة، وتستسهل إطلاق الأحكام النهائية، والتعميم،
وتصنيف الآخرين، وفقا للثنائيات القاطعة (أبيض/أسود، حرام/حلال، حق/باطل،
خائن/وطني، مسلم/كافر..). وبالرغم أنها عقلية مأزومة ومستلبة؛ إلا أنها استعلائية،
وعنصرية.. المتحدث غالبا ممتلئ باليقين، ويتكلم بنبرة وعظية، وبأحكام مسبقة، ولا
يتقبل أي اختلاف.. وبأسلوب تطهري، يلجأ عادة للتبرؤ من تحمل المسؤولية، وتصديرها
إلى الآخرين.. والمواطن العربي عموما تحكمه نظرة عدائية للأنظمة، ولأية جهة رسمية،
وينظر بشك وريبة وعدم تصديق كل ما يصدر عنها.. ويصدق على الفور ما يقوله
"الأعداء"، ويميل للتعاطف مع المعارضة، وخصوصا الإسلاميين، ينخدع بسرعة
بالشعارات البراقة، والخطاب الشعبوي. وهذا متوقع لأن الإنسان العربي يفكر بعاطفته
وتمنياته، ولذلك يصبح متقلبا، مزاجيا، حاداً، بذاكرة قصيرة للغاية..
إجمالاً، ولأن المقال لا يتسع لتفنيد تلك المقولات
والمرجعيات التي تنبني عليها العقلية العربية، سنكتفي، وبشكل سريع بإلقاء الضوء
على بعض منها: بالنسبة للفساد مثلا؛ لا شك أن الأنظمة العربية غارقة في الفساد،
ولكن، وللأمانة التاريخية، ليس كل القادة
العرب فاسدون وعملاء.. بعضهم كان وطنيا مخلصا، لكنه أخطأ بالممارسة، أو أن السلطة
أفسدته، وخنوع الشعوب شجعه على المضي بالفساد.. "عبد الكريم قاسم" بعد
إعدامه وجدوا في مقتنياته كمبيالات لثلاجة اشتراها بالتقسيط، "عبد الناصر"
أقصى عائلته كليا عن السلطة، ولم يترك وراءه أي ثروة.. "بورقيبة"،
"بومدين"، "صدام" وغيرهم حققوا إنجازات مهمة لبلدانهم، بالرغم
من سلبياتهم وأخطائهم، إضافة إلى أن بعض رجالات الدولة (رؤساء حكومات، قادة
أمنيين..) خدموا بلدانهم بأشكال متعددة، وبعض الجيوش العربية بنت عقيدة وطنية
قومية، وقدمت تضحيات، ومن الخطأ التعميم بتخوينها..
حتى من نعتبرهم عملاء للغرب، هؤلاء ليسوا مجرد
أدوات؛ فدوما لكل نظام هامش معين يتحرك فيه، ودوما هنالك مصالح متضاربة، حتى
الجاسوس الرسمي يتحرك أحيانا خلافا لرغبة أسياده.. وقد يتمرد..
وهنا، المسألة ليست دفاعا عن أحد، بقدر ما هي
محاولة لتفنيد آليات التفكير السلبية، التي غالبا ما تؤدي إلى فهم خاطئء ومضلل
للواقع السياسي، نتج عنها استخدام أدوات وأساليب خاطئة، لأنها بُنيت على منطلقات
خاطئة؛ جعلتنا نتعاطي مع السياسة بعاطفية مبنية على التمنيات والأهواء، وهذه أدت،
وما زالت تؤدي إلى مزيد من التراجع والتدهور، ومع ذلك، لا ينبغي التقليل من أهمية
تسليط الضوء على الفساد، ومكافحته، ولكن بأسلوب منهجي صحيح.
القضية الثانية: وضع الغرب كله في سلة واحدة، والتي
تُعد واحدة من أغبى التعميمات.. فلا يكفي التمييز بين الشعوب، والحكومات،
وسياساتها الخارجية.. بل ينبغي أيضا النظر للقوى الفاعلة في المجتمع، ومصالح
الطبقات المختلفة، ومراكز القوى المؤثرة في صنع القرار، وهامش الحريات الواسع
المعطى للإعلام، واستقلالية القضاء، وغير ذلك مما تتسم به المجتمعات الغربية، فضلا
عن تباين المصالح بين الدول والتكتلات الدولية..
وكذلك اعتبار أن كل ما يأتي من الغرب معادي
بالضرورة، من التعميمات الخاطئة، لأنه يعني وضع الحضارة العربية الإسلامية في جهة،
والحضارة الإنسانية في جهة مضادة، أي جعلهما على طرفي نقيض، وبالتالي تأسيس علاقة
مع العالم مبنية على الشك والعداء.. في حين أن الحضارة الإنسانية (والحضارة
الغربية جزء أساسي وفاعل منها، بل هي الأكثر تأثيرا) هذه الحضارة أتت خلاصة
التجربة الإنسانية برمتها، على مدى العصور، ساهمت فيها كل الشعوب بمقادير وأدوار
متباينة، وهي عملية تطورية واسعة ومفتوحة، لكنها لا تنتظم في إطار قالب محدد يمكن نسبه
لدولة أو حضارة بعينها، فهي عملية تخترق المجتمع الإنساني برمته، وعلى كافة
الأصعدة.
والأمة العربية لا يمكن لها أن تظل منغلقة ومعزولة
ومتأخرة عن ركب الحضارة الإنسانية، فبدلا من التشكيك بكل ما يأتي من الغرب، لنترك
الأجيال الطالعة تتفاعل مع العالم الخارجي بحرية وتلقائية، وبنفَس إنساني تقدمي،
منفتح على كل ما تنتجه الحضارة الإنسانية (دون وصاية من أحد).
كل ما يلزمنا إيجاد معادلة مرنة تفك الإلتباس
"المفتعل" بين الأصالة والحداثة، بين التراث والتجديد، دون تفريط، ودون
تعصب وانغلاق، وبلا أيديولوجيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق