أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يناير 25، 2018

مقاربة بين جنوب إفريقيا وإسرائيل

 1~2
تكتسب المقارنة بين حالتي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أهمية خاصة، وقد ازدادت أهميتها أكثر بعد انهيار النظام وخروج الحزب الوطني من الحكم في جنوب إفريقيا أواسط التسعينات من القرن الماضي؛ والهدف هذه المقارنة الوصول إلى فهم أعمق لطبيعة النظام الإسرائيلي، من خلال كشف عنصريته بالمقارنة بنظام الأبارتهايد السيئ السمعة في جنوب أفريقيا، والذي تمت إدانته عالميا.

بالنظرة الأولى للتجربتين الاستعماريتين في جنوب إفريقيا وفلسطين؛ نجد أوجهاً عديدة من التشابه؛ فكما ادّعى "جان ريبيك" - وهو أول مستوطن تطأ قدماه أرض جنوب إفريقيا- بأنه اكتشف أرضاً خالية من السكان، ادّعت الحركة الصهيونية أنّ فلسطين أرضا بلا شعب. وكما ادّعت الكنيسة الهولندية بأنّ البيض المستعمِرين هم شعب الله المختار، وأن السود خُلقوا عبيدا لهم؛ ادّعت الصهيونية بأنّ اليهود هم شعب الله المختار، وأن باقي البشر ما هم إلا أغيار. الغزاة الهولنديون أطلقوا على جنوب إفريقيا اسم "معسكر الأمل"، والمستوطنون اليهود الأوائل أطلقوا "نشيد الأمل" (هتكفا).
وفي الحالتين نجد تشابها ليس في الخدع والأكاذيب لتبرير سلوكهم العنصري وحسب، بل حتى في سياقات التاريخ الاستعماري؛ فقد تشابهت مجريات الأحداث في البلدين على نحو لافت؛ إذْ تعرّضت كلّ من جنوب إفريقيا وفلسطين لغزو استعماري بريطاني، نتجَ عنه نظامان عنصريان، قاما على بناء سياسي أيديولوجي يزعم التحضّر والتفوّق، ويؤسّس للفصل بين الغزاة والسكان الأصليين. وقد أضاف هذا الفصل العنصري شبَهَاً إضافيا بين الحالتين؛ إذْ شكَّلَ معضلة وجودية للنظامين العنصريين، وأزمة تاريخية استعصى عليهما حلها؛ وعنوانها: الحضور التاريخي للشعب صاحب البلاد، وحتمية الاعتراف بحقيقة وجوده، وبحقوقه الطبيعية والسياسية.
وقد شكّل العام 1948 لحظة تاريخية فاصلة في التاريخ الاستعماري للبلدين؛ سيسهّل علينا إجراء المقارنات الزمنية بينهما؛ فهو العام الذي أُقيم فيه الكيان الإسرائيلي، وعلى أثر ذلك حلت بالشعب الفلسطيني نكبة ما زالت مستمرة، وهو نفس العام الذي استلم فيه الحزب الوطني دفّـة الحكم في جنوب إفريقيا، والذي تحولّت بعده ممارسات الفصل العنصري إلى سياسة رسمية معلنة للدولة. فإذا قامت إسرائيل باحتلال الأرض، وبطرد من تمكّنت من طرده من السكان، وتحويلهم إلى لاجئين، ثم عمدت إلى إبقاء من تبقّى في تجمّعات عربية محدودة المساحة ومعزولة قدر الإمكان عن الوسط اليهودي؛ فإنّ النظام العنصري في جنوب إفريقيا قام بتجزئة البلاد إلى مناطق بيضاء وأخرى سوداء، ونفي المواطنين السود من أراضيهم، وعزلهم في بانتوستونات خاصة بهم، مع فرض إجراءات تقييدية عليهم؛ لتحقيق تفوّق الأقلية البيضاء، وضمان أمنها. وفي الحالتين تمّ اقتراف العديد من المذابح ضدّ السكان، وتم تطبيق النظام بواسطة أجهزة أمنية في منتهى القسوة؛ كان للسجون والتعذيب دور هام ورئيسي في فرضه.
والغريب أنّ دولة البيض في جنوب إفريقيا كانت تدّعي أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في القارة الإفريقية، تماما كما تدّعي إسرائيل بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، رغم كلّ ما تمارسانه من تمييز عنصري واضح ضد الشعب، ورغم كل جرائمهما ضد السكان. ومع ذلك لا بد من الإقرار بأن البلدين كانا يقومان على مؤسسات حديثة، تتمتع بنظام قضائي قوي، وفصل بين السلطات، وقد مارسا نظاماً ديمقراطياً فريداً من نوعه؛ إذا أنّ ديمقراطيتهما كانت مخصصة لفئة معينة من السكان، يمكن وصفها بالديمقراطية العنصرية. ومع ذلك فإن هذا الشكل (المشوَّه) من الديمقراطية ضَمِنَ للفئات المسيطرة استقراراً في الحكم، وتداولاً سلمياً للسلطة، وحرية التعبير والمشاركة السياسية ومحاصرة الفساد (خاص بالفئة المسيطرة وحكرا لها).. في حين كانت الدول المجاورة تشهد الاضطرابات والانقلابات العسكرية وقمع جميع السكان وأسوأ أشكال الفساد المالي والإداري.
التشابه الأهم بين الحالتين، يتمثل بسلسلة القوانين العنصرية التي يقرها الكنيست الإسرائيلي، خاصة في الآونة الأخيرة، فكما أسلفنا، كان نظام بريتوريا قد بدأ يشرعن ممارساته العنصرية بمجرد وصول الحزب الوطني للحكم، وكان قبل ذلك ولمئات السنين يمارس تلك العنصرية ولكن دون أن يشرعنها، أو يثبتها على شكل لوائح وقوانين، وبمجرد أن فعل ذلك، لم تمضِ سوى أربع عقود ونيف إلا وكان النظام قد انهار، وقد ساعدت تلك القوانين مناضلي حزب المؤتمر الوطني (بزعامة مانديلا) على كشف حقيقة هذا النظام، وبناء جبهة وطنية وتحالف دولي، أدى إلى فرض عقوبات على بريتوريا، وإلى عزلها، وصولا لإسقاط النظام.
اليوم، ومنذ ثلاث سنوات تقريبا، أقر الكنيست عددا غير مسبوق من القوانين العنصرية، التي تستهدف الفلسطينيين، وفي دراسة أعدها المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية "مدار"، بينت أن الكنيست أقر خلال الدورة الحالية (انتخابات آذار 2015)، 25 قانونا عنصريا بالقراءة النهائية، إضافة إلى 15 قانونا في مرحلة التشريع، و 136 قانون مطروح على جدول الأعمال. وأضافت الدراسة أن هذه القوانين تعكس حالة تصاعد التطرف المستفحل في رأس الهرم السياسي الإسرائيلي، وكل المؤشرات تدل على ان هذا العدد سيواصل تسجيل قفزات حتى الانتخابات المقبلة. وبالمقارنة، ذكرت الدراسة التي قام بها الباحث برهوم جرايسي أن الكنيست السابع عشر (2006- 2009)، أقر 6 قوانين عنصرية، وفي الدورة 18 (2009- 2013) أقر 8 قوانين عنصرية. و 12 قانون في الدورة 19، ويجري الحديث عن 37 قانونا مباشرا، من بينها 30 قانونا تهدف إلى فرض ما يسمى "السيادة الإسرائيلية" على المستوطنات، أو على الضفة الغربية المحتلة ككل.
من هذه القوانين: قانون نهب الأراضي المسمى "تسويات" للاستيلاء على الأراضي الخاصة في الضفة الغربية، وهدم البيوت في المجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر، وقانون إعدام الأسرى، وضم القدس، ومنع الآذان، ومنع اللغة العربية في المواصلات العامة، ومنع نشطاء المقاطعة من دخول إسرائيل، وغيرها، أما القانون الأكثر عنصرية، حسب الدراسة، فهو قانون الموازنة العامة الداعم للحرب وللاحتلال والإستيطان.
بهذه القوانين العنصرية، تتشابه إسرائيل أكثر مع نظام بريتوريا السابق، وتتضح صورتها العنصرية كدولة أبارتهايد، الأمر الذي سيسرع بنهايتها. تماما كما انتهى النظام العنصري الجنوب إفريقي، وأصبح مجرد ذكرى بائسة في تاريخ الإنسانية، وندبة عار على جبينها.
(2~2)
بعد استعراض أوجه التشابه بين النظامين (الإسرائيلي والعنصري في جنوب إفريقيا)؛ سنستعرض أوجه الاختلاف؛ فمن حيث المبدأ، الغرض من الاحتلال الإسرائيلي يختلف عن الغرض من الفصل العنصري؛ فقد كان الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، نظاما يقوم على أساس التمييز العنصري، ويرتكز عليه، أي أن النظام أنشأ مؤسساته وشكّلها لهذه الغاية؛ بينما أقيم الكيان الإسرائيلي لغايات مختلفة، وفي سياقات تاريخية مختلفة، وحتى لو مارست إسرائيل العنصرية، إلا أن شكل مؤسساتها لا يقوم على العنصرية بنفس الوضوح الذي كنا نراه في جنوب أفريقيا.
ومن ناحية ثانية، فقد جاءت دولة البيض في جنوب إفريقيا في سياق التنافس على المستعمرات الخارجية بين الدول الأوروبية،  لوقوعها على خط التجارة الدولية، على الطريق نحو المستعمرات الآسيوية، لكن أهميتها الإستراتيجية تضاءلت بعد شق قناة السويس، وصارت أشبه بمشروع استعماري محلي مستقل، لطبقة من البرجوازية الأوروبية الطامعة، ولحفنة من المغامرين والهاربين من بلدانهم، والذين ظلوا على صلات تجارية قوية مع دول المركز في أوروبا.
بينما جاءت إسرائيل في سياق مشروع أوروبا الاستعماري، لتكون أداة لها، وموقعا متقدما يحمي مصالحها في واحدة من أهم المناطق في العالم، ثم وفي مرحلة لاحقة حوّلت إسرائيل ولاءها وتبعيتها للولايات المتحدة. بمعنى أن إسرائيل كانت وما زالت تمثل مشروعا حيويا للمنظومة الغربية، ما زال يستمد أسباب قوته، ومبررات وجوده من خلال العلاقات المتميزة بدول الغرب، ومن خلال دوره الوظيفي.
لذلك، لم يجد المجتمع الدولي صعوبة كبيرة في تخلّيه عن دولة البيض في جنوب إفريقيا، ونزع الشرعية عنها، بعد أن كان قد عزلها وفرض عليها عقوبات تجارية، خاصة بعد أن اشتد الصراع هناك، في مرحلة كان العالم يشهد فيها تحوّلات إقليمية ودولية كبيرة وعميقة. في حين أنه بسبب الخصوصية الدولية للقضية الفلسطينية، وأهمية إسرائيل الفائقة بالنسبة للغرب؛ لم يكن من السهل أبداً تقبّل فكرة نزع الشرعية عنها، أو عزلها، أو فرض عقوبات عليها، وظلَّ المجتمع الدولي يكيل بمكيالين ويتعامل بمعيار مزدوج معها، ويغُض الطرف عن ممارساتها وجرائمها وتجاوزاتها للقانون الدولي. فإذا كان في الحالة الإسرائيلية ثمة دولة منحازة بالكامل وبكل قوة لصالحها، وهي الولايات المتحدة، فإنه في حالة جنوب إفريقيا لم تكن تلك الدولة موجودة.
 ربّما ساعد إسرائيل في ذلك، أنها كانت أكثر ذكاء وحنكة وبُعد نظر من الحزب الوطني في جنوب إفريقيا؛ ففي البداية قدّمت إسرائيل نفسها على أنها "الدولة الضحية"؛ ضحية الكارثة والنازية، وضحية الدول العربية التي تريد إلقاءها في البحر، لذلك حظيت بقبول العالم، واعترافه بها، وهي إن كانت تمارس العنصرية والتمييز بين سكانها، إلا أنها لا تعلن عن ذلك صراحة، وتموّه على ممارساتها بالحيل الإعلامية، بينما تبنّى الحزب الوطني الحاكم العنصرية سياسة علنية رسمية للدولة، ومارسها بأكثر أشكالها بشاعة وفظاعة، لذلك لم تحظ جنوب إفريقيا بدعم العالم وتعاطفه معها، بل كانت تسهّل المهمة على المناضلين الإفريقيين لفتح جبهة دولية مضادة لها.
ومن ناحية ثانية، فقد كان الحديث عن جنوب إفريقيا يدور حول تغيير شكل الحكم، وإسقاط حكومة، بينما في الحالة الفلسطينية الحديث يدور عن تغيير حدود سياسية في الحد الأدنى، قد يؤدي ذلك إلى تغير المشهد السياسي بالكامل.
في القضية الفلسطينية كان للصراع أبعاد قومية ودينية وادعاءات تاريخية من قِبَل الجانبين، أما في قضية جنوب إفريقيا فقد كان للصراع أبعاداً عرقية وإثنية، ولكن دون خلافات على رواية تاريخية لملكية الأرض؛ فقد كان كلٌ من السود والبيض يعرّفون أنفسهم بأنهم إفريقيون جنوبيون، وكان أغلبهم من نفس الديانة (المسيحية). أما في فلسطين فالأمر مختلف تماما؛ فالفلسطينيون والإسرائيليون شعبان مختلفان، من أصول مختلفة، وينتميان لحضارتين متباينتين، لكل منهما دين مختلف، وتطلعات وطموحات مختلفة.
في جنوب إفريقيا حاولت السلطة الحاكمة توظيف الدين لفرض سيطرتها على المجتمع، وإضفاء مشروعية دينية على نظامها العنصري، وأقنعت جمهورها بأن الممارسات العنصرية تمثل وصايا الرب، ومع ذلك لم يلعب الدين دوراً محورياً في الصراع. ولكن في الصراع العربي الصهيوني كان للدين حضور طاغٍ، وقد لعب دوراً أكثر أهمية؛ فهو في صُلب العقيدة الصهيونية، وأساس ادعاءاتها التاريخية بملكية الأرض. كما بتنا نلحظ تنامي دور الحريديم، وزيادة تأثيرهم على السياسة الإسرائيلية على نحو بات يهدّد بتغيير بُنية وهوية الدولة. وفي المقابل هناك حضور قوي ومؤثر ومتنام للأحزاب والحركات الإسلامية في الطرف الفلسطيني، وكلا الطرفين يسعيان لتحويل الصراع إلى صراع ديني. ومن الملاحَظ أن الدين (في فلسطين وجنوب إفريقيا) كان يُنتِج اليمين واليمين المتطرف في جانبي الصراع (اليمين المتدين أو القومي أو العرقي)، اللّذَيْن رغم تناقضهما الظاهري كانا متحالفيْن ضد القوى الوسطية التي تدعو لحل سلمي، وكانا يؤثران على الخارطة السياسية.
وثمة فرق جوهري آخر بين الحالتين الإسرائيلية والجنوب إفريقية، يكمن في سعي إسرائيل لتعريف نفسها كدولة يهودية؛ وهذا التعريف الإثني/ الديني غير موجود في دستور جنوب إفريقيا، لا الآن، ولا في فترة الفصل العنصري. وتعريف إسرائيل لنفسها كدولة يهودية يعني وضع الأيديولوجية الصهيونية كأيديولوجية عليا للدولة، وفي هذه الحالة تصبح العنصرية الصهيونية هي مبدأ الدولة الرسمي المعلَن والمتبع –كما فعل الحزب الوطني في جنوب إفريقيا– وليس كما تحاول إسرائيل تصوير نفسها للعالم على أنها دولة القانون والمساواة وحقوق الإنسان وواحة الديمقراطية... حيث أن يهودية الدولة تتناقض جذريا مع الديمقراطية.
والفرق الآخر بين الحالتين؛ أن العرب القابعين تحت الاحتلال الإسرائيلي داخل الخط الأخضر يمثّلون الأقلية السكانية (حوالي 20%)، بينما كان البيض في جنوب إفريقيا -وهم قوة الاحتلال والسلطة الحاكمة- يمثلون الأقلية (حوالي 15%). لذلك جاء الدستور في جنوب إفريقيا (بعد انهيار النظام العنصري) ليحمي ويضمن حقوق الأقليات، ويساوي بين جميع المواطنين تحت قومية واحدة، ودولة واحدة. بينما تقترح السلطة الحاكمة في إسرائيل تقديم دستور يحمي الدولة اليهودية الإثنية، ويُبقي على الأقلية الفلسطينية كهوية وطنية غير مندمجة، ولا تمتلك نفس حقوق اليهود.
ورغم كل هذه الفروقات بين النظامين، إلا أن النهايات ستكون متشابهة..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق