في
الزمن القديم، لم يعرف الناس الصور والتصوير، وبالتالي، لم يكن أحد يعرف غيره
بالوجه، إلا إذا كان قد عاش معه، أو التقاه.. حتى الأشخاص المشهورين، ممن ذاع
صيتهم وملأوا الدنيا بأخبارهم، كانوا إذا زاروا منطقة جديدة "يكزدرون"
في الشوارع بكل حرية، دون أن يطلب منهم أحد توقيعهم مثلا، أو التقاط
"سلفي" معهم.. وما لم يعرّفوا عن أنفسهم، لن يحفل بهم أحد.. حتى الملوك
والأباطرة، لم يكن الشعب يعرف شكل وجوهم، فقلة قليلة جدا من الناس من أتيحت لهم
فرصة اللقاء المباشر بهم.. ما يعني أن الإمبراطور إذا تجول في الأسواق بملابس
عادية، ودون حراسات وحاشية، فغلى الأغلب لن يعرفه أحد.. وأيضا كان قادة الجيوش
مجهولين "شكلا" بالنسبة للأعداء، فإذا ما هُزم الجيش، ووقع قائده في
الأسر، فبوسعه تبديل زيه المدجج بالنياشين، بزي جندي عادي، والإدعاء بالهبل، وفي
هذا منجاة له من القتل، وفرصة أكبر للإفلات من الأسر..
وفي
تلك الأزمن الغابرة، كان تناقل الأخبار صعبا، وبطيئا.. ربما يستغرق أسابيع أو
أشهر.. وكانت تقع أحداث كبرى في منطقة ما، تُحدث دويا هائلا، ولا يعرف بها إلا
سكانها، وربما القليل من جيرانهم.. أما سكان المناطق البعيدة، فتأتيهم الأخبار
متأخرة، وغير دقيقة.. حيث يلعب الرسل والرواة دورا كبيرا في صياغة الخبر وتحويره..
فإذا كانت الأخبار سيئة فإن الناقل سيحاول صياغتها على نحو ملطف.. وإذا كان شامتا
سيبالغ فيها حتى يرتوي غليله، وإذا أراد أن يُدخل الفرحة على قلوب السامعين سيتفنن
في وصف الأحداث.. بعض الرواة، خاصة في جلسات السمر، يحلو لهم إضافة البهارات
الخاصة على الرواية، فمن أجل شد الانتباه وتشويق السامعين، يبدأ بتلفيق أخبار لا
علاقة لها بالخبر الأصلي.. وكان من المتعذر على أحد التحقق من صحة ما يقول.. فما
عليهم سوى التسليم والتصديق، وإذا أراد ناقل آخر بث القصة إلى جمهور جديد، فإنه
سيضع عليها لمساته الخاصة أيضا.. (هل انتهت هذه الظاهرة الآن؟!)
كان
هذا ساريا في كل العالم القديم، باستثناء مصر القديمة وبلاد الرومان والفرس
واليونان والصين؛ فأولئك عرفوا الكتابة والتوثيق منذ آلاف السنين.. في بلادنا
العربية، كان نقل الأخبار والسير والروايات يعتمد على الألسن والذاكرة، وخاصة قول
الشعر والسجع.. والسبب أن العربية كانت لغة محكية، ولم تتحول إلى كتابية حتى عهد
قريب جدا من مجيء الإسلام.. بعد أن تطورت عن النبطية والآرامية.. وعندما صارت
الأبجدية العربية لغة متاحة للكتابة، لم يكن العرب حينها يعرفون الورق والطابعات..
فكانوا يكتبون على جلود الحيوانات.. وهذا أمر شاق ومضنٍ، وأحيانا كانوا يجلبون
الورق من الصين، وورق البردي من مصر، ونظرا لندرته، وقلة عدد من يجيدون القراءة
والكتابة فكانت الكتابة تقتصر على المواثيق والعهود السياسية والتجارية، أما في
مجالات الأدب فبالكاد نجد المعلقات وبعض النقوش الأخرى، وأقدمها يعود لقرنين بعد
المسيح..
لم
تعرف الجزيرة العربية القصور والمعابد والمسلات، كما هو حال الحضارات القديمة،
لذلك لم يجد الباحثون نقوشا على الجدران والصخور والأضرحة بما يعطي فكرة عن تلك
الأزمنة وتفاصيلها.. وربما أقدم نقش ما وجدوه على شاهد قبر الملك إمرؤ القيس
(223م).. بعد الإسلام أقدم النقوش المكتشفة هي الآيات القرآنية المنقوشة على جدران
قبة الصخرة في القدس.. وحتى مع وجود نقوش أخرى هنا وهناك، فهي شحيحة، وتعطي فكرة
غامضة عن تلك الحقب.. أما العملات التي عُثر عليها فجميعها بيزنطية وفارسية، وأول
عملة عربية كانت في بدايات العصر الأموي..
بعد
قرنين من مجيء الإسلام، انتشرت صناعة الورق والكتابة في عموم المنطقة، وصار
بالإمكان طباعة الكتب والمجلدات.. وكان طباعة الكتاب تتطلب جهد عشرات النساخ ولمدة
أسابيع متواصلة.. وحتى مع انتشار الكتب على نحو أوسع بما يتيح إنشاء مكتبات عامة؛
ظلت مشكلة التوثيق والتحقق قائمة؛ فما يحتويه الكتاب من معلومات وبيانات يعتمد على
جهد المؤلف وأمانته.. فإذا كان من بطانة القصر، أو عماله سيكتب ما يسر الحاكم، ولا
يثير غضبه.. ومن كتبوا بمحض إرادتهم الحرة، حرقت كتبهم بأمر من السلطان، أو على يد
الغوغاء، أو على يد الغازين والناهبين.. وحتى ذلك الوقت ظلت السير والأحداث تروى
على ألسنة الحكّائين والرواة، الذين كانوا يسلون الناس في المجالس والدواوين
والحمامات العامة بحكاياتهم المشوقة.. دون أن يخلو الأمر من تهويل أو حذف، أو
إضافة أو تعديل بحسب رغبة الرواي، وجمهوره..
وبسبب
ندرة النقوش واللقى الأثرية والعملات، نشأت معضلة كبرى في فهم ومعرفة التاريخ
العربي والإسلامي، خاصة في بداياته الأولى، وفي مهده.. وما فاقم من المشكلة أن
السعودية ترفض بشدة قيام أي بعثات علمية أو تنقيبات أثرية في أراضي المملكة، ومنذ
وقت مبكر عمدت "الوهابية" لتدمير كل الأضرحة والمباني الأثرية التي تعود
لعصر فجر الإسلام، وهي تخطط لهدم الكعبة نفسها، وبناء كعبة جديدة (بحجة التجديد
والصيانة)، وفوق هذا ملأت مكة بالبنايات الحديثة والفنادق دون مراعاة إمكانية
العثور على آثار ومعالم تاريخية قد تشكل كنزا علميا للباحثين والدارسين..
التاريخ،
لا يكون تاريخا حقيقا إلا بما تسنده الأدلة الأثرية والحفريات والعملات وما نقش
على المسلات، وما حوته المخطوطات.. خلاف ذلك يبقى أدبا مرويا، يمكن أن يكون حقيقة،
وممكن أن يكون أسطورة..
الخلاف
على رواية التاريخ، ما زال قائما، حتى في عصرنا الراهن، حيث كل الأحداث مثبتة
بالصورة والصوت، وشهود العيان.. ومع ذلك، تحدث خلافات هنا وهناك، على تفسير حدث
ما، أو تأويل مقولة، أو شرح صورة.. أي أن إمكانية التزوير ما زالت قائمة، ولكن
تقنيات العصر الحديث تمكّن من تفنيد أو دحض أو تثبيت أية رواية..
عندما
نقرأ تاريخ المنطقة قبل مائتي سنة، نمر على الأحداث مر الكرام، فلا يعنينا شيء عن
شخصية نابليون وحروبه مثلا (باستثناء طلبة المدارس، ومن أجل إجتياز الامتحان فقط)،
رغم أنها كانت أحداثا بالغة الأهمية في حينها، بل ومصيرية.. ما يحدث أيامنا هذه
نظن أنه بالغ الخطورة، وحاسم لمستقبل الكوكب.. وهو في حقيقة الأمر لا يغدو عن كونه
حدثا عاديا في سياق تاريخ الناس الطويل والمتشابه..
تعالو
نسافر إلى المستقبل، ونتخيل العالم بعد مائتي سنة.. ونقرأ تاريخنا الحالي بعيون
أحفادنا.. ماذا سيكتبون عنا؟ تخيلوا آلاف الصور المفبركة، والفوتوشوب، والأخبار
الملفقة، والشخصيات المظلومة، والمنسية، والمدعية، وقد باتت تاريخا معتمدا لمقررات
المدارس..
ما
أشبه اليوم بالبارحة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق