أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

مارس 25، 2017

عن تقديس الشهادة


آن الأوان لنتوقف عن تقديس الشهادة، وأن نعترف بأن الموت يعني الموت.. يعني النهايات الحزينة، وأن الذين ماتوا غادروا دنيانا للأبد، وأنهم فقدوا حيواتهم بكل ما كانت تعني وتحتمل.. وأن الموت سيوجع الذين من بعدهم: أهلهم وذويهم ومحبيهم..
وآن لنا أن ندرك قيمة الحياة، وقدسيتها، وأهميتها لأي إنسان؛ مفكرا كان أم قائدا، أم مجرد قابع على هامش المجتمع..

قديما، كان الأباطرة وقادة الجيوش وزعماء القبائل يرسلون أتباعهم للحروب (لمصالحهم الخاصة) وهم على علم بأن الموت ينتظرهم.. ثم يأتي شاعر البلاط فيمجد موتهم، ليجعلهم يقبلون عليه بحماسة.. وليخفف وطأته على ذويهم.. فصار قتيل الحرب شهيدا.. ومن يدافع عن السلطان، ومن يذود عن حمى القبيلة، وعن حدود المملكة.. شهيدا.. وعليه أن يفرح بموته..


القرآن الكريم وصف الذين يموتون في سبيل الله بالقتلى {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا}، {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ}.. وفي كتابه "الكتاب والقرآن"، أكد المفكر الإسلامي "محمد شحرور" أن وصف الشهيد والشهداء في القرآن أتى في جميع الآيات بمعنى الشاهد..

عندما يقتل جنود الاحتلال فلسطينيا نتسابق جميعا للإحتفاء به: لالتقاط صورة لأمه وهي تزغرد، أو لأبيه وهو يهلل، أصدقاءه يتباهون بأنه كان صديقهم، البعض يفتش في صفحته على الفيسبوك ليعثر على أي مقولة نشرها عن الشهادة، وعن استعداده للموت.. بل ويعتبر البعض أنه باستشهاده حقق أغلى أمانيه وأقصى ما يحلم به.. حينها لا يستغرب أحد إذا شكرنا الاحتلال على جريمته! ببساطة لأنه حقق له حلمه، وأدخل الفرح لقلوب أهله، وأعطى لحزبه أو لفصيله فرصة للتباهي وتنزيل بوستر يمجد بطولات الحزب..

عندما نسمع كلمة شهيد، يتبادر إلى أذهاننا تلك الصور الجميلة والمجيدة عن الموت بأبهى أشكاله، نتخيل الشهيد في الجنة، وأنه سيشقع لأهله.. وبذلك يخف غضبنا، وتتلاشى أحزاننا، ونستبدلها بمشاعر رضا غامضة.. أي قبول صامت بتلك النهاية الفاجعة.. بل تستولي علينا مشاعر العز والفخر.. ولهذا السبب نكتفي عادة بشتم العدو الذي قتل، ونطوي أحزاننا بصمت وهدوء.. ونحول حياة الشاب الذي قُتل للتو إلى مجرد بوستر.. ولا أحد يفكر بشكل جدي بعمل شيء حقيقي للرد على الجريمة.. خلافا لما يحدث عند مقتل أحد في أحداث داخلية.. حينها على الفور يظهر الغضب الساطع، وردات الفعل العنيفة، وفي معظم الحالات يتم الأخذ بالثأر، أو على الأقل التفكير به جديا.. ونادرا ما نسامح أو نغفر..

لذلك، أدعو للتوقف عن استخدام كلمة استشهد فلان.. نظرا لفعلها الصامت والمريب في امتصاص غضب الجماهير، وتحويله إلى حزن مكبوت.. لنسمي الأشياء بأسمائها.. لنقل قتلت قوات الاحتلال فلانا.. كلمة قتل تثير مشاعر الغضب الإيجابي، ولها مدلولات قانونية قوية، حينها ندرك أن هناك قاتل، وقتيل، وبالتالي جريمة قتل مكتملة الأركان.. وهذه الجريمة تستوجب الرد الفعلي.. سواء بالتظاهرات الحاشدة، أو بالرد بالمثل (إذا أمكن)، أو اللجوء للمحاكم الدولية.. نعم، بوسع أي مواطن، أو هيئة مستقلة اللجوء للمحاكم الدولية.. فمثلا تمكنت عائلة الشهيد نديم نوارة من رفع دعاوى قضائية على الجيش الإسرائيلي، وأبقت قضيته مفتوحة بعكس ما أرادت إسرائيل.. لماذا لا تلجأ أسر الشهداء والمؤسسات الحقوقية والسلطة الوطنية في كل مرة للمحاكم الدولية؟!

لنتخيل حالتنا وحال الاحتلال لو كان غضبنا على مقتل أبنائنا في كل مرة بالاتجاه الصحيح، وبالفعل الصحيح، وبالقدر المطلوب..

لا أرفض التغني بالشهداء أبدا، ولا أدعو لعدم تمجيدهم، بل بالعكس، الشهداء أكرم منا جميعا.. ولكن هي دعوة للتفكير والتساؤل، كيف أوصَلَنا التغني بالشهداء إلى استسهال الموت، وتقبله بفرح ظاهري، وتسخيف قيمة الحياة!! كيف تسللت إلينا ثقافة الموت محمّلة على معاني رمزية وجعلت حياتنا بلا قيمة؟

هل تساءلنا يوما، لماذا خبر مقتل إسرائيلي واحد يحتل العناوين الأولى في وسائل الإعلام! بينما مقتل 50 عراقيا في تفجير عشوائي، أو مقتل 100 سوري تحت القصف، أو 200 يمني في حرب بلا معنى مثل هذه الأخبار بالكاد يهتم بها أحد!! حتى هنا في فلسطين، بعض الشهداء يمرون بصمت مريب!! الجواب لأننا تشربنا ثقافة الموت، وصار الموت عندنا عاديا، بل مقبولا..   

معركتنا مع الاحتلال طويلة.. سننتصر حين نكف عن الاحتفال بالموت، وحين ندرك أن الأهم من إظهار الشجاعة في المواجهات، وقبل الإقبال على الموت، أن نتعلم كيف نحب الحياة، وأن التضحية لا تعني الموت بالضرورة.. سننتصر حين نفكر ونحلم بالمستقبل، ونبدأ بالتفكير كيف نحقق أحلامنا.. حين نؤمن بأن الإنسان هو حجر الزاوية في العملية النضالية برمتها، وأنه هدفها وأداتها وغايتها ومبتغاها.. هو كل شيء، وقبل أي شيء..

الحياة مقدسة، وقيّمة، وتستحق أن تُعاش، هي هبة الخالق العظيم، ولا يجوز أن نفرط بها مقابل تصفيق الآخرين، أو لقاء أي وعد طوباوي..

وأخيرا، إذا رأيتم أُمّا تزغرد في جنازة ابنها الشهيد، أو سمعتم أبا يقول أنه سعيد بشهادة ابنه.. فلا تصدقوهم، لا توجد أم تفرح لخسارة ابنها، ولا يوجد أب يسعد بموت ابنه، مهما كانت التسميات جاذبة وخادعة، بالطبع هم لا يكذبون، لكنها حيلة دماغية تسمى مرحلة الإنكار، يلجأ إليها عقلهم الباطن لحمايتهم من هول الصدمة، وحتى يمكنهم إستيعابها، ولجعلهم يتشربون الخبر المفجع على دفعات.. المأساة أن الإعلاميون والحزبيون يستغلون هذه اللحظات الموجعة شديدة الخصوصية إما لسبق صحفي، أو لرفع أسهم الحزب، أو للدعاية الأيديولوجية..



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق