أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 16، 2016

أوهام التاريخ اليهودي


أُعلن قبل أسابيع عن اكتشاف أقدم مقبرة فلسطينية، قرب عسقلان، الأمر الذي أثار الجدل من جديد حول أصول الفلسطينيين القدماء.. وقد حاولت الدعاية الإسرائيلية تصوير أصحاب الرفاة بأنهم غزاة، بدائيون، هاجموا السكان المتحضرين (الإسرائيليين).. ولحسن الحظ، فإن للعلم والتاريخ ما يقوله بهذا الشأن..

فقد ظهرت في الآونة الأخيرة العديد من الدراسات العلمية الحصيفة، التي تتناقض مع الرواية التوراتية، بل وتبين الكثير من الحقائق الصادمة والمفاجئة فيما يتعلق بتاريخ فلسطين, وعلاقة اليهود بها؛ وهذه الدراسات تطورت بشكل نوعي بدءاً من ثمانينيات القرن العشرين، مع تطور أدوات البحث والتحليل، ومع الاكتشافات الأثرية التي كانت في كل مرة تفند جزءأ من الرواية التوراتية، حتى أتت عليها كلها، خاصة بعد خيبة أمل علماء الآثار "التوراتيون" الذين عجزوا عن اكتشاف حجر واحد يسند روايتهم..


وقد رفض الكثير من العلماء الرواية التوراتية، باعتبارها مجرد سرد ملحمي أسطوري لقصص متخيلة، مثلا، "كيث وايتلام"، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة "ستيرلينغ" في سكوتلاندا، اعتبر في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة"، أن الدوافع السياسية هي التي لعبت دورا حاسما في إعادة بناء الماضي المتخيل لإسرائيل القديمة، وأن الدراسات التوراتية اللاهوتية تورطت في عملية تزوير التاريخ لخلق جغرافيتها الخاصة ورؤيتها الخاصة.
عالم الآثار الأمريكي "توماس طومسون"؛ أوضح في كتابه "التاريخ المبكر للشعب الإسرائيلي" أن مجمل التاريخ اليهودي يستند إلى قصص من صنع الخيال. المفكر الفرنسي "روجيه جارودي" فنّد في كتابه "الأساطير المؤسسة" رواية اقتحام أريحا على يد "يوشع"، وبرهن على أن المدينة كانت قد دُمرت ثم هُجرت قبل الزمن المفترض للاقتحام بمئات السنين.

الباحث المصري "سيد القمني" تتبع أصول النبي إبراهيم ومسار رحلته، وبرهن في كتابه "إبراهيم والتاريخ المجهول" أنه ليس من أصل عربي، ولا علاقة له بالعبرانيين. المؤرخ العراقي "أحمد سوسة"، في كتابه "العرب واليهود في التاريخ" أكد أن علم الآثار أسقط وإلى غير رجعة رواية "عصر الآباء"، وأثبت أن جميع الأنبياء والشخصيات الذين ورد ذكرهم في أسفار التوراة تحت مسمى عصر الآباء عاشوا وماتوا في العصر البرونزي الوسيط، أي قبل ظهور اليهودية بقرون. والزج بأسمائهم يأتي في سياق المحاولات الدؤوبة التي عمد إليها محررو التوراة، في محاولة منهم اختلاق أصول نبيلة لليهود، وابتكار تاريخ خاص بهم، ومن ثم إدماج تلك الشخصيات في التاريخ لإضفاء صبغة من القداسة عليه، وادعاء أسطورة الأرض الموعودة على لسانهم.
الباحث الفلسطيني "جودت السعد"، في كتابه "أوهام التاريخ اليهودي"، فند أسطورة عصر العبودية، وقصة الخروج من مصر والتيه، مبيّنا أن محرري التوراة بعد أن ابتكروا أصولا تاريخية لِ"بني إسرائيل"، ادعوا أنهم عاشوا في مصر أربعة قرون متتالية، حافظوا خلالها على هويتهم المميزة، حتى جاء المخلّص "موسى" وفر بهم من مصر إلى سيناء، حسب قصة الخروج والتيه... وأكد "السعد" أن الشواهد والبيانات الأركيولوجية تنفي هذه الرواية في معظم أجزائها، وأنه لا يوجد خارج النص التوراتي أي شاهد تاريخي يمكن أن يدعمها؛ فجميع المصادر المصرية لا تذكر شيئا عن وجود إسرائيليين في مصر طوال الفترة ما بين دخول أبناء يعقوب وميلاد النبي موسى. ومن ناحية ثانية، فإن عائلة يعقوب التي أتت من فلسطين اندمجت في المجتمع المصري، والتوراة تتجاهل الحديث عن هذه الفترة.
وهو ما أكده المفكر السوري "فراس السواح" في كتابة "آرام دمشق وإسرائيل"، حيث فنّد قصة الخروج بالصيغة المذكورة في التوراة، مبيّنا أنها استحالة مطلقة؛ فالزمن المفترض لها يأتي في أوج قوة الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة، حيث كانت جميع بلاد الشام تحت القبضة الحديدية للفراعنة، والعدد الخيالي الذي ذكرته التوراة لبني إسرائيل في الخروج لا يمكن له أن يعبر البحر بين ليلة وضحاها دون أن يتمكن جنود الفرعون من اللحاق بهم، وحتى لو استطاعوا العبور والتخفي فلن يستطيعوا النجاة من قسوة صحراء سيناء، وحتى لو نجوا فإن وصولهم إلى فلسطين سيجعلهم تحت قبضة القوات المصرية الموجودة أصلا هناك، ولو أن قصة الخروج حدثت فعلا، لوجدنا لها ذكرا في السجلات المصرية القديمة، إذْ لا يمكن للمصريين أن يغفلوا عن توثيق حدث بهذه الضخامة؛ وهم الذين كتبوا على مسلاتهم جميع انتصاراتهم وحروبهم الكبيرة والصغيرة!
وتدعي التوراة أن الإسرائيليون واصلوا مسيرهم من سيناء إلى فلسطين، واقتحموها بناءً على أوامر الرب، وأبادوا شعبها، وهناك عاشوا فترة سميت عهد القضاة.. وطالما أن قصة الخروج والتيه أصلا قصة خيالية، بالتالي فإن ما بني عليها لن يكون سوى مزيدا من الخيال، كما أن الشواهد الأركيولوجية من الفترة الانتقالية بين عصري البرونز والحديد تنفي رواية سفر القضاة وسفر يوشع واقتحام كنعان، ذلك لأن نتائج التنقيب الأثري في مواقع المدن التي يدعي النص التوراتي تدميرها كأريحا وعاي، تظهر عدم تطابق تاريخ تدمير تلك المدن مع التاريخ المزعوم في أسفار التوراة.
كما بيّن "السواح" أن نتائج المسح الأركيولوجي الشامل للمنطقة التي قامت عليها فيما بعد مملكتي إسرائيل ويهوذا، تنفي إمكانية ظهور مجموعة إثنية جديدة في تلك الفترة المفترضة لعصر القضاة حتى نهاية القرن العاشر قبل الميلاد، وجميع المواقع في فلسطين تُظهِر استمرارية ثقافية محلية غير منقطعة فيما بين عصري البرونز والحديد، فجميع القرى في ذلك العصر كنعانية، وأنه حتى ذلك التاريخ لم تتوفر القاعدة السكانية اللازمة والأساس الاقتصادي لقيام مملكة قوية، فإضافة للفقر المدقع في منطقة السامرة، فإن منطقة يهوذا كانت خالية من السكان تقريبا آنذاك، أما القدس فقد كانت مجرد بلدة متواضعة لا تصلح لأن تكون عاصمة مملكة قوية. 

يواصل "فراس السواح" تفكيك الرواية التوراتية بشأن مملكة داود وسليمان، والتي حسب التوراة، قامت في القدس، في القرن العاشر ق.م، ومثّلت العصر الذهبي للتاريخ اليهودي في فلسطين.. مبيناً أن نتائج المسح الأركيولوجي للمناطق الهضبية التي كانت نواة المملكة تنفي وجود قاعدة سكانية في هذه المناطق خلال القرن العاشر ق.م تسمح بقيام مثل هذه المملكة، فهي ليست مستبعدة تاريخيا فقط؛ إنما مستحيلة الوجود، ناهيك عن نتائج التنقيب الأثرى في القدس نفسها التي أكدت أن المدينة كانت حينها مجرد بلدة متواضعة، يضاف إلى هذا عدم العثور على أي حجر أو أثر يدل على قيام هذه المملكة في يوم من الأيام.
وتزعم الرواية التوراتية أنه بعد موت سليمان انقسمت المملكة الموحدة إلى دويلتين (يهودا والسامرة).. والحقيقة التاريخية التي يذكرها "فراس السواح" أن دولة السامرة (إسرائيل) قامت لأول مرة في التاريخ عام 880 ق.م، أما دولة يهوذا فقد قامت 735 ق.م، أي بعد الزمن المفترض لقيام المملكة الموحدة بنحو قرنين، حين نضجت الظروف الذاتية اللازمة لقيامهما. وهاتان الدويلتان (إسرائيل ويهوذا) إنما كانتا دويلتان فلسطينيتان محليتان، نشأتا في البيئة الكنعانية، وجميع آثارهما وفنونهما وآلهتهما ومخلفاتهما إنما تعكس نمطا كنعانيا، وطوال عمر هاتين الدولتين لم يكن أي أثر لأي معتقد توراتي أو ما يمكن تسميته ديانة يهودية، وهاتان الدويلتان لا يربط بينهما إلا أوهى الروابط، وقد عاصرتا بعضهما البعض لفترة قصيرة جدا من الزمن، إذ قامت يهوذا على أنقاض إسرائيل، ولم يسبق وجودهما أي مملكة موحدة، ولا علاقة لهما بإسرائيل التوراتية، وكما نشأتا تباعا فقد دمرتا تباعا أيضاً، واختلفت مصائرهما التاريخية أيما اختلاف.
وإمعانا في التزوير، دمَجَ محررو التوراة بين إبراهيم الذي ظهر للوجود في عصر البرونز الوسيط، وبين موسى الذي ظهر قبيل عصر الحديد الأول، أي بعده بنحو خمسة قرون، وبين مملكة إسرائيل التي أقيمت في العصر الحديدي الثاني، أي بعد موسى بنحو أربعة قرون، فضلا عن هذا الخلط التاريخي هنالك تجاهل تام لكافة التغيرات والتحولات العميقة والجذرية التي ألمت بالمنطقة وبنيتها السكانية وتركيبتها الإثنية، وللتغطية على هذا الخلل عمدوا إلى الخلط بين المصطلحات والمسميات التي لكل واحد منها معنى ومدلول مختلف ومستقل ويعبر عن مرحلة تاريخية معينة، أو عن قوم معينين، وهكذا صارت تلك المصطلحات تعطي نفس الدلالة وتسـتخدم للتعريف على نفـس الجماعة، وهذه المصطلحـات هي (العبرانيون، بنو إسرائيل، الموسويون، اليهود).
ويؤكد "السواح" أن اليهودية التوراتية نشأت في العهد الفارسي في بابل، واستُكملت في القدس على يد كهنة أورشليم، الذين كتبوا التوراة البابلية، وهذه الديانة لا تمت بصلة بديانة التوحيد التي جاء بها النبي موسى قبل هذا التاريخ بنحو ثمانية قرون من الزمان، أما المجتمع اليهودي الذي نشأ في القدس؛ فكان مكونا من العائدين من بابل، إلى جانب شعوب أخرى فقدت ارتباطها بأوطانها الأصلية، وقبائل أخرى كانت تبحث عن حظوظ جديدة في المناطق التي تخطط الإمبراطورية الفارسية لإعادة تعميرها، ومهما كان الشعب الذي أُعيد إلى فلسطين قسرا أو طوعا، فهم بالتأكيد لم يكونوا إسرائيليين (بالمعنى التوراتي) لا إثنيا ولا روحياً، ورغم ذلك أصبح الفُرس يعتبرونهم إسرائيليين، وأصبحوا هم يعتبرون أنفسهم سكان إسرائيل المفقودة منذ زمن والعائدين إلى أرض إسرائيل من منفى مرير، بعد أن خلصهم سيدهم "كورش"، وهكذا بمساعدة الفرس تم تحديد الهدف: إعادة ديانة يهوه القديمة. وهذا الخليط البشري وجد نفسه أمام خيارين: إما القبول بشريعة الملك الفارسي والتكيف مع القوانين الجديدة، أو مواجهة أقصى العقوبات – كما ورد في رسالة "داريوس" إلى أهل أورشليم – ولا شك بأن المجتمع الأورشليمي الجديد قد أخذ بالخيار الأول.
هذه الحقائق ذكرها مؤرخون يهود وإسرائيليون، منهم: ميخائيل هرسيغور، شلومو ساند، إسرائيل شاحاك، إسرائيل فنكلشتاين، موريس سترون، سيغمون فرويد..
المؤرخ الإسرائيلي "شلومو ساند" في كتابه "اختراع الشعب اليهودي" يقول: "تقوم فكرة ما يسمى بِ"الشتات اليهودي"، على أسطورة طرد الرومان لليهود سنة 70 م، بعد تدمير الهيكل.. فمن ناحية، فإن طرد "الشعب اليهودي" من وطنه لم يحدث أبداً، ومن ناحية ثانية فإن رواية الطرد والتشريد كانت ضرورية من أجل بناء ذاكرة للمدى البعيد، وُضع فيها شعب عرقي "متخيَّل" ومنفي، باعتباره استمرارا مباشرا للشعب التوراتي القديم... في حين أن اليهود لم يُطردوا أساسا من فلسطين، بل خرجوا منها طوعا، ولم يعودوا إليها بإرادتهم الحرة". ودلالة على وهن العلاقة بين اليهود وفلسطين فإن موضوع الهجرة إلى فلسطين بقي ولقرون عديدة خارج نطاق التفكير الجماعي لليهود ومقتصرا على المستوى الفردي فقط، على الرغم من أنها ظلت مفتوحة للحجيج ومتاحة للراغبين من اليهود للإقامة فيها طوال عهـد الدولة الإسلامية؛ إلا أن عدد اليهود المقيمين فيها عام 1880 بلغ 25 ألف فقط مقابل ملايين اليهود في العالم.
ويؤكد "ساند" على أن مقولة وحدة الأصل مجرد أسطورة، فالأغلبية الكبرى من يهود العالم في الوقت الحاضر، هم من أصل أوروبي شرقي (أي من العرق الآري)، وتحديداً من أصل خزري، وهذا يعني أن أجدادهم لم يعبروا نهر الأردن، بل عاشوا على ضفاف نهر الفولغا، ولم تطأ أقدامهم أرض كنعان، بل أرض القوقاز، وهم من حيث التركيب الوراثي يعودون إلى قبائل الهون والآوجور، وبالتالي لا صلة لهم بذرية إبراهيم، وبالتالي فإن تعبير معاداة السامية سيكون خاليا من معناه.. وقضية أن أصول أغلبية اليهود تعود لقبائل الخزر تعني أن المزاعم الدينية والتاريخية لليهود في فلسطين هي أكبر خدعة في التاريخ.
وتزعم الصهيونية أن اليهود يمثلون قومية تنتمي لأصل عرقي واحد، حافظت على نقائه طوال القرون الماضية، حتى أن بعضهم تحدث عن جينات يهودية.. وهذا الادعاء ما هو إلا خدعة ابتكرتها الدعاية الصهيونية، ولا يمكن لها أن تصمد في وجه حقائق التاريخ، أو أبجديات المنطق وعلوم الاجتماع، أو حتى العلوم البيولوجية، فكيف لطائفة متعددة الأصول والمنابت أن تصبح فجأة ذات أصل نبيل؟ وكيف لها أن تحافظ على هذا النقاء في منطقة خبرت الفاتحين والغزاة حيث كانوا يتعاقبونها تباعا؟
أما الفلسطينيون، فقد ذكر "عبد الوهاب المسيري" في موسوعته عن الصهيونية، أنهم من شعوب البحر، وهم قبائل مهاجرة أتت من بحر "إيجة" بسبب ظروف مناخية أدت إلى انهيار الزراعة، باحثين عن موطن ومستقر، فوجدوا الملاذ على ساحل فلسطين، بدءا من العام 1194 ق.م، وقد جاء ذكرهم في المصادر المصرية، حيث اسموهم "بلست" وكذلك في المصادر الأشورية، حيث أسموهم "بلستو"، وكان المؤرخ "هيرودوت"، هو من أطلق تسمية "فلستيا" على المنطقة التي سكنها الفلستيون.
ولأنهم لم يكونوا غزاة؛لم يلبثوا أن اندمجوا مع أهل البلاد الكنعانيين وبدون حروب، وضمن فترة وجيزة، فمنحوا فلسطين اسمها، وعليها نموا وأبدعوا وجودهم الإنساني والحضاري، وتواصل وجودهم في كل الحقب والأزمان اللاحقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق