أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

أغسطس 31، 2016

في الطريق إلى صفد


خرجتُ من القدس مع طلوع الفجر، قاصدا صفد.. هناك في أقصى الشمال، في الجليل الأعلى.. ثمة قريب لي يدعى كنعان، وعدني أن يساعدني في إيجاد فرصة عمل، وأنا وعدته بزيارة منذ سنتين، آخر مرة التقينا في عرس عدنان ابن خالي على رحاب ابنة عمته.. يومها قال لي: تعال في الربيع، أريدك أن تركّب لي "زيتونة نبالية" على زيتونتي البرية، وأن تزرع "مشمشة جفناوية" في فناء بيتي..

في الطريق سأعرج على رام الله أولاً، أما نابلس، وجنين، فقد أمر بمحاذاتهما لاختصار الوقت، لكني حتما سأمر على ما بينها من عشرات القرى والبلدات.. قبل أن أعبر حاجز "الجلمة"، وصولا للعفّولة ومن ثم صفد، التي آمل أن أصلها قبل حلول المساء..


سيارتي من طراز "بيجو 206"، مع إنها صغيرة، لكني دوما أحس أنها ثابتة وقوية، وتهدر بانسياب ونعومة في مسيرها على الطريق، تحملني على صهوتها مثل جواد صقلاوي، يعدو عبر البراري دون كلل.. لم تخذلني يوما، رغم إنها تعرضت لعشرات الحوادث، وقفزت فوق مئات المطبات، ولا تكاد تخلو فيها بوصة من كدمة أو صدمة.. لونها بني، يشبه لون التراب، وهذا الأمر طالما أفادني بعدم الحاجة لغسلها، حتى في أيام الريح المحملة بالغبار؛ فشكلها دوما يظل منسجما مع بيئتها..

في "قلنديا"، المنطقة الأشد إزدحاما، أخذت السيارة المجاورة لي تزاحمني بطريقة مزعجة، وهي من طراز "فورد" ذات دفع رباعي، ضخمة، سوداء، زجاجها معتم يخفي هوية ركابها.. لوحتها صفراء، ما يعني أن صاحبها إسرائيلي، أو فلسطيني من سكان عكا، أو من راهط، أو يهودي مناهض للصهيونية، أو أمريكي جاء يقضي عطلة الصيف على شاطئ يافا..

شمالا نواصل المسير.. مع رائحة الصبح الندية وأغنيات فيروز انتعش قلبي مثل عاشقٍ مرتبك.. تجاوزنا البيرة، على اليمين معسكر "بيت إيل"، وعلى اليسار مخيم الجلزون.. الشارع هادئ نسبيا.. ويكاد يخلو من السيارات.. في الأفق القريب، غطت سحبٌ  منخفضة أسفل الوادي، حيث تسكن جفنا.. هنا استراح المسيح في صعوده إلى الناصرة.. وصلنا "عيون الحرامية"، كلما مررت بهذا الشارع، تذكرت "أبو جلدة"، و"ثائر حماد".. سيارة "الفورد" تجاوزتْ عني مسرعة.. الطريق مراقَب بكاميرات الرادار، ومع ذلك، هذا الغبي يتجاوز السرعة المقررة..

الشمس الآن في كبد السماء، تخفي نصفها غيومٌ رمادية.. مدخل "سنجل" فُتح أخيرا.. إلى الشرق منه، بدت لنا "ترمس عيّا"، واحدة من أجمل البلدات الفلسطينية؛ على سفح خصيب تطلُّ بهيبة الملوك، بيوتها حجرية مسقوفة بالقرميد الأحمر.. تذكرت "زياد أبو عين".. وزيتونته، بعد دقائق، ولسبب غير مفهوم وجدنا أنفسنا على تلال "اللّبن"، نسير في طرقها الوعرة.. تذكرت "أبو محمد" وباصه الذي أودى بحياة عشرات الجنود الإنكليز في أربعينيات القرن الماضي.. تبّـا لهذا اليوم.. كله ذكريات.. أريد أن أنسى، أدرتُ إبرة الراديو، متجاوزا كل نشرات الأخبار والطقس حتى جاء صوت وردة "في يوم وليلة"، هبَّ علينا مثل نسمة عليلة.. سيارة "الفورد" تأتي من الجهة المقابلة.. وتتجه نحونا مباشرة، وتكاد تصطدم بنا وجها لوجه.. بالفعل سائق مستهتر..

سهل "الساوية"، خَضارٌ مبهر لحقول الحنطة الممتدة بخيلاء، تبعتها بعيني حتى تلاشت عند بطن الجبل، حيث تبدأ أشجار اللوز والزيتون.. كان اللوز قد بدأ يطلق نواره البهيج، ليرسم لوحة خلابة، لا يفسدها سوى منظر المستوطنات على رؤوس الجبال.. الشارع مخطط بوضوح، أسهم بيضاء تشير للأمام، يتفرع عنها أسهم تشير لليمين، وأخرى لليسار.. الجميع يلتزم بهذه الخطوط، حتى سيارة "الفورد" السوداء، خط أبيض متواصل ينصّف الطريق بالتساوي، يتعرج مع تعرجه، ويستقيم على استقامته.. لا سيارة تتجاوز عن الأخرى، بما في ذلك سيارة "الفورد" التي ظلت ورائي لعدة أميال، فيما ظل سائقها الغامض يعطي ضوءاً خاطفاً (فلاشر) طالباً مني إذنا بتسهيل تجاوزه.. ينفرج الشارع دفعة واحدة؛ فأزيد السرعة.. ولشدة دهشتي تدخل سيارة "الفورد" فجأة من الشارع الجانبي، حتى ارتطمت بطرف السيارة الأمامي، والأغرب أن سائقها أخرج رأسه من الشباك وهو يصيح مثل المجنون.. إنت أعمى!!

منذ الصباح، وكلانا على الطريق، مرة أسبقه، ومرة يسبقني.. لا أدري من يلاحق الآخر.. تارة أصدمه، وتارة يصدمني.. ومع ذلك، لاحظتُ أنه مثلي، يتقيد بإشارات المرور، وقواعد السير.. لكنه يتجاوز الضوء الأحمر، إذا تأكد من خلو الشارع من السيارات، ومن الشرطة.. عند حاجز"زعترة" سلك طريقا خاصا، لم يعترضه أحد.. أما أنا فوجدت نفسي خلف طابور طويل من السيارات القديمة، لأكثر من ساعة، وحين وصل دوري، أشار لي المجند بطرف إصبعه لأمرّ.. على الطرف الثاني وجدت سيارة "الفورد" تمشي ببطء، لشدة حنقي، ضربتها من جناحها الأيمن، شتمني فشتمته..

من هم هؤلاء، ركاب السيارة اللعينة؟! وماذا يريدون؟ عند محطة البنزين، ترجلوا لشراء بعض الحاجيات، هيئاتهم مريبة، وجوههم غريبة بعض الشيء، يرتدون ملابس رياضية خفيفة، لكنهم كانوا يخفون رشاشات آلية ومناظير عسكرية في صندوق السيارة الخلفي، هذا ما لمحته عندما فتحوه لوضع أكياسهم فيه.. ولكن، هل هم جنود نظاميون، أم مستوطنين؟ تولدت لدي قناعة بأنهم "مستعربين" في طريقهم لاغتيال أحد.. الله يستر، قلت في نفسي..  

عند مدخل مرج بن عامر تتكثف الغيوم، حتى تغطي الأفق، فيما يتسع الطريق لمسربين أو ثلاثة أحيانا، بما يغري للسرعة، وقفتْ سيارة "الفورد" بجواري، تبادلت مع سائقها نظرات الإزدراء من خلف شباكه المعتم، كانت النوافذ مغلقة، ونحن نشتبك بالشتائم والصراخ.. انطلقنا بأقصى سرعة.. ومع ذلك، كنا حريصين على عدم التجاوز حين يكون الخط الوسطي متصلا.. كان ينتظر أي شارع فرعي يؤدي إلى حاجز عسكري، أو إلى مستوطنة.. حتما يريد أن يقودني إلى هناك؛ ليطلقوا عليّ النار.. دون تردد.. أما أنا فكنت أريد أن أقودهم إلى المخيم، أو إلى أي حارة فلسطينية.. هناك سينهال عليهم الفتيان بالحجارة، وقد يبرحهم الشبان ضرباً..

الطريق طويلٌ... طويل جداً، ومتعرج، ووعر.. وكلانا ماضٍ نحو هدفه.. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق