أهلا بكم

على هذه الصفحة نثير التساؤلات ،، ونفكر ،، ولا نعرف حدوداً للتوقف

آخر الأخبار

يوليو 23، 2016

البحث عن بيت نبالا


لم يكن الأمر فجائيا؛ فهناك عشرات الشواهد التي بدأت تتوضح منذ سنوات طويلة، إلا أن الناس ترفض تصديقها.. لكن القذيفة الأولى التي سقطت على أطراف القرية كانت مرعبة على نحو مفاجئ.. تتالت القذائف بسرعة، كان صوتها يهز أركان البيت.. أعتقد أنه في تلك الليلة لم ينم أحد.. مع ساعات الفجر الأولى بدأت الأهالي تحزم متاعها المتواضع بارتباك، وتغادر على عَجل..

كانت حبات التين ضئيلة ويابسة، وأكواز الصبر غضة، وسنابل القمح في أول امتلائها، كانت تعِد بصيفٍ شهي.. ولا تعلم أنها على موعد مع النكبة..


كنا في الثلث الأخير من تموز، حين توجهنا إلى "بيت نبالا" أول مرة، زياد خداش وأنا.. مع اقترابنا من مدخل القرية، بدأتُ أشعر بالدوار، وتزايد في وتيرة النبض، وزوغان في الرؤيا، وأخذ صدري يضيق بأنفاسه، إلى أن سقطتُ مغشيا عليّ.. صار المشهد في غاية الوضوح.. شعرتُ بخشوع غير عادي.. سمعنا أصوات يرغول وزغاريد نسوة، حتما هو العرس.. سرنا باتجاهه، وأمامنا الآلاف من الناس يروحون ويجيئون، نسمع أحاديثهم، ونشتمُّ رائحة التراب على أياديهم، دون أن نراهم.. مشينا بوجلٍ وتأنّ، ومع ذلك تعثّرتُ بذكريات عاشقيْن لم يتزوجا، ثم قفزت عن ضحكة شاردة لولدٍ هارب من أبيه، أما زياد فداسَ على تنهيدةٍ عبرتْ الطريق أمامه مسرعة.. التفتنا إلى الجنوب حيث وادي خليف يتدفق بمائه المنساب، ومن بعده وادي كريكعة، وقد بدا شاحبا وجافا.. ومن الشمال لمحنا جامع الزاوية، وسمعنا صدى آذان الظهر.. مشينا في شارع ترابي ممتد، بعيدا عن أعين الجنود، على يمينه ثمة معصرة زيت لدار مصلح، وعلى يساره معصرة ثانية لدار زيد، وصلنا مضافة البلد، ثم ساحة الزغلول، ثم حوش دار سلامه.. وقفت هناك مطولا، تأملتُ الأبواب الخشبية، ومفاتيحها الصدئة، حتى وجدت دار سيدي، كان المنزل مهدما، طرقتُ الباب وانتظرت قليلا، كان أبي يوشك أن يفاتح والده بموضوع طلب يد أمي، سينشغلان بقصة حب لأكثر من نصف قرن، إذن، سأستغل غيابهم، دخلت، لم أجد أحدا، ووجدت كل شيء على حاله: صدى الكلام، رائحة الصبح الطازج... حدقت في السقف، فتّشتُ بين الردم عن الصندوق الذي كانت تخبئ فيه ستي الملبّس والقُطّين وقطع الشوكولاته التي كان يجلبها سيدي من "الكامب".. لم أجده، من المؤكد أنه سُرق، فتحتُ النملية؛ على الرفوف أوراق مهترئة لجريدة الدفاع، ومرتبان لبنة، وصحن زيت، وحبات مكدوس..

زياد، واصل مسيره منفردا نحو البلدة القديمةـ، بعد دار البلدية بأربعة بيوت وجد دار خداش، جدارٌ واحد كان يريد أن ينقضّ، فأقامه، وكَتب عليه عنوان مقالته القادمة..

في هذه الأثناء وصلت دورية إسرائيلية، ترجّل منها ضابطٌ وجنديان، صاح الضابط بعصبية: ألم أطلب منكما مغادرة المكان؟! قلنا له: نحن فقط نعدُّ فيلما وثائقيا عن تأثر النخب الفلاحية بأطروحات عصر النهضة.. ونريد أن نجري حوارات مع المواطنين.. ونلتقط بعض الصور..

استشاط الضابط غضبا، وقال لجنوده بالعبرية: شكلهم جوز مجانين، أو إرهابيين.. فقال له أحد الجنود، بالفعل هم مجانين، كانوا يتكلمون مع الحجارة، ويبتسمون للشجر، ويلقون السلام على العصافير..

نظر إلينا بعينين زجاجيتين، وقال: سأسمح لكما بالتقاط صور للأشجار والطيور فقط، أما إذا صورتم المدرسة، أو معاصر الزيتون، فسألقي بكما في أقدم بئر، حتى تتعفنا.. وهذه المدرسة صارت مركزا للتعليم الزراعي، مخصصة للكيبوتسات المجاورة..

-        تعليم زراعي!! بس إحنا بنعرف نزرع من ألف سنة..

كانت الحقول ساكنة، بلا حراك، والأشجار تنمو غير آبهة بعدم وجود سكان، لكنها عند الظهيرة كانت تبدو تعبة، وهي تجادل الشمس، وتستغرب أن أحدا لم يعد ينام تحت ظلها..

أخذتْ السيارة تحوم حول المكان، وتدور حول القرية مرة بعد مرة، دون جدوى، فأحس كأنها حبل يطبق حول عنقي.. أين اختفت بلدتنا؟ يبدو أن الجيش تمكن من إخفائها وسط الغابة؛ ثم أحاطها بشبكة معقدة من الطرق السريعة والمفارق المتشعبة؟ وعشرات اليافطات التي تشير إلى كل شيء إلا إلى بيت نبالا.. "بيت نحيمن"، "موديعين"، "بيت شيمش"، وعشرات الأسماء التي استعاروها من التوراة..

وصلنا إلى الشارع الفرعي المؤدي إلى القرية، كانت هناك يافطة تشير إلى معسكر آدم، مشينا بضعة أمتار، وبصورة غير متوقعة انتهى الشارع المعبد، وبدأ شارع ضيق يتخذ مساراً متعرجاً بين الأشجار الباسقة، اقتربت منا سيارة عسكرية، نزل منها الضابط، وسألنا بعصبية: شو بتعملوا هون؟ والله يا خواجا رايحين على بيت نبالا.. معزومين على عرس، وتأخرنا عليه، بسبب الحواجز..
نظر إلينا بتعجب كما لو أننا مخلوقات فضائية.. بيت نبالا!! هاي روحت قبل سبعين سنة.. من هذاك اليوم ما حدا دخلها.. قلنا له بكل برود: بس المدرسة لسه موجودة، وكمان شوية برن الجرس، وأنت حضرتك عم تأخرنا... إسمع إنت وياه، مش ناقصني مجانين، يلله روحوا من هون، قبل ما أطخكم..
عدد كبير من العمّال الذين اشتغلوا في الكيبوتسات المجاورة، أكدوا رواية الضابط، وذكروا أيضا أن المستوطنين على مدار عام كامل كانوا يأتون للقرية، ويحملون حجارة البيوت، كانوا يسرقون كل شيء؛ شواهد القبور، الظلال، الذكريات.. ولو دخلت القرية الآن لن تجد فيها شيئا..

لكني كنت هناك في شهر أيار، ولن أنسَ يوم خروجنا الأول، كنت قد اختبأت في مغارة شقبا، التي اختبأت فيها أول مجموعة بشرية غادرت أفريقيا، ومن هناك كنت أراقب الأحداث، وتداخل الأزمان، وتغير الأسماء، أذكر جنود سرجون الثاني، ووجوههم الصارمة.. وحين جاءت جيوش الروم، وقتلت المئات من القرى المجاورة.. وأذكر عبد القادر الحسيني، قبل معركة القسطل بأسبوع مرَّ من هنا، وأذكر المقهى المقابل للمدرسة، في الشهر الماضي احتسينا فيه كوبين من الشاي..

أوشكت الشمس على المغيب، ولم نهتدِ بعد إلى بيت نبالا.. وحتى لو عثرنا عليها الآن، لن نستفيد شيئا، فسيهبط الظلام قريبا.. في العتمة لن نميز النقوش على أثواب الصبايا.. واصلنا المسير غربا، حتى يافا.. كان بحرها صاخبا عالي الموج.. لم أعرف هل كان مرحّبا بنا، أم غاضبا من شيء ما!!

تجولنا في العجمي، وأزقة يافا القديمة، وصعدنا أدراجها الناعمة، وهناك، قبالة تل الربيع، على مقعد خشبي يطل على بناياتها الزجاجية وهي تعكس وهج الشمس في ساعتها الأخيرة، جلسنا باسترخاء، وقد تشبعنا برائحة البحر وهوائه الرطب.. يا لهذا الجمال الباذخ.. واصلتْ كرةُ الشمس تدحرجها، وقد بانت كتلة متوهجة توشك أن يطفئها البحر.. وقبل أن تغطس فيه بلحظات، جاءت غيمة رمادية وفردت أطرافها قبالة قرصها النحاسي، وغطت أجزاء منه، فأخذت ألوان الغسق تتبدل بسرعة، إلى أن هيمن عليها الأسود.. وحينها شعرت بغصة ومرارة، وقد أيقنت أننا ضيعنا بيت نبالا..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق