كانت أول مرة أدخل فيها جبل اللويبدة وأنا في المرحلة الابتدائية، نهاية
السبعينات، حين أخذنا الأستاذ وصفي رحمه الله، للمشاركة في مسابقة المطالعة، التي
كانت تنظمها مديرية التربية والتعليم هناك في شارع الباعونية، ومن بعدها تكررت
الزيارات إلى ذلك الحي العتيق؛ حيث معهد اللغات الذي كان ينظم دورات في اللغة
الإنجليزية بالتعاون مع المركز الثقافي البريطاني، ومنذ ذلك الوقت ارتبط اللويبدة
في ذهني بكل ما له علاقة بالشأن الثقافي والتعليمي.
وكان جبل اللويبدة حينها أحد أرقى أحياء عمان؛ حي سكني هادئ ونظيف، معظم
سكانه من الطبقة المثقفة، لكن زياراتي لهذا الحي انقطعت كليا، في حين استمرت
للأحياء الراقية الأخرى من عمّان، وهي آنذاك كانت فقط: جبل عمان، وجبل الحسين
والشميساني، في حين كانت بقية عمّان عبارة عن أحياء شعبية... بعد أكثر من ثلاثين
سنة، تغيرت كل عمّان، أحياء جديدة وُلدت، استجابة لمتطلبات العصر والعولمة، وأحياء
أخرى تكثفت وتكومت أبنيتها فوق بعضها استجابة لتكاثر سكانها، أما تلك الأحياء
الراقية العتيقة فصارت مناطق تجارية تتكدس فيها الأبنية الشاهقة والأبراج العالية
والمولات الضخمة والفنادق الفخمة .. وحده جبل اللويبدة ظل مجهولا بالنسبة لي،
تربطني به فقط تلك الذكريات البعيدة..
قبل أسبوع تلقيت دعوة من الصديق الشاعر عامر بدران لزيارة مقهى
"أرسطو" قرب ساحة باريس، الذي يديره مع الشاعرة جمانة مصطفى، صعدت في
التاكسي، جلست واثقا قرب السائق وقلت له: إلى جبل اللويبدة لو سمحت، وقد بدأت
تتواتر إلى ذهني تلك الصورة الجميلة المتخيلة عن شوارعه الأنيقة الوادعة.. رمقني
السائق بطرف عينه، وقال بلوم: والله لو بعرف إنك رايح عالويبدة ما ركّبتك... طيب
ليش؟! يا زلمة أكره ما عليّ أدخل هالمنطقة، الله وكيلك هيك من الله بكرهها... طيب
إذا المنطقة خطرة، خلص نزلني هون... لا لا مش خطرة ولا (...) بس هاي منطقة
موبوءة..
أنا من ناحيتي صار عندي فضول أن أعرف سبب كراهيته لهذا الحي، وهو من جانبه
استغل فرصة جهلي، وبدأ يحكي عن "مصايب" اللويبدة، وأخذ راحته عالآخر،
ولو كانت الطريق تستغرق ساعتين وأكثر ربما ما كفته للحديث و"فشة الخُلق"
.. تصور يا أستاذ قبل عشر سنين ما كان في اللويبدة إلا أكم من دكان، والشوارع في
النهار شبه فاظية، وفي الليل حظر تجول، وبالصدف حتى يطلع معنا زبون عالويبدة ..
اليوم مش ملحقين عليه طلبات، وهسه بتشوف؛ غير الأزمة، ولعانة الوالدين والمناظر
اللي بتخزي.. شباب مايعين، وبنات مفرعات... يا زلمة إذا الله بده يسخط عمّان رح
يكون السبب اللويبدة ..
ما أن وصلنا مدخل اللويبدة، حتى زادت عصبية السائق، وأخذ يشتم ويسب يمينا
وشمالا.. وأنا من عادتي أساير السواقين، ونادرا ما أجادلهم، وفي داخلي أقول: الله
يعينهم، من كثر ما بشوفوا مصايب من الركاب.. وأتعاطف معهم على نحو خاص، ومع ذلك
كثيرا ما تنتابني رغبة لأن أقول لأحدهم "يا زلمة خلص سكّر ثمك وجعتلي
راسي".. ولكني أتراجع احتراما لحقهم في التعبير ..
أشار إلى صبية ترتدي بنطال جينز ضيق؛ شوفلك هال(...) وين أهلها عنها، دايره
في نصاص الليالي (الساعة كانت الثامنة مساء)، شايف قللة الترباية، وقلة الحيا.. ثم
أشار إلى شاب آخر، وقال بغيظ لم يحاول كتمه: شوف هال(...)، رابط شعره زي البنات...
أخ بس لو تيجي داعش تربيكو يا عرصات ..
شوفلك هالمناظر، اللي بلطلونه ساحل، واللي عامل حاله فنان، واللي بفكر حاله
مثقف.. وكلهم يا مجانين يا همل.. بتصدق يا أستاذ إنه الشيوعية خلصت في موسكو ولسه
اللويبدة بتّاجر فيها.. يا لطيف تلطف ..
على جانبي الشوارع رأيت البيوت العمّانية العتيقة المبنية على الطراز
العثماني كما عهدتها، وقد فهمت لاحقا أن بعضها حوّلها أصحابها إلى معارض للفنون،
أو مراكز للرسم والنحت والتصوير، والبعض حوّلها إلى مقاهٍ ثقافية، لتستقطب بشكل
خاص طلبة الجامعات، الذين يرتادونها نهارا للدراسة أو للقاء الأصدقاء، بسبب هدوء المنطقة،
وهربا من الضوضاء، ولتتحول في المساء إلى تجمّع صاخب للفنانين والمثقفين، حيث تنظم
أغلب تلك المقاهي العديد من النشاطات مثل عروض الأفلام والأمسيات الشعرية والندوات
الثقافية والمعارض الفنية ودروس الموسيقى...
وصلنا دوار باريس أخيرا، ناولتُ السائق أجره، ولما لاحظتُ أنه يتلكأ في
إرجاع الباقي قلت له "خليه عشانك"، فقال لي: الله يهديك يا أستاذ، إذا
بدك أرجعلك بعدين بعطيك رقمي، فشكرته، وأنا أتنفس الصعداء فرحا بأنه لم يشملني مع
الكفرة...
سألتُ مضيفي عن سبب حقد السائقين عاللويبدة؟! فأجابا: ربما بسبب الإزدحام،
أو لأنه محسوب عاليسار والكفار، وفي الحقيقة يتعرض اللويبدة لحملة تشويه لأنه أصبح
معقلاً للثقافة والفنون، والملاذ الأخير للطبقة الوسطى المثقفة، التي تمارس هنا
حريتها، وأسلوب معيشتها المختلف، وكما تلاحظ، ليس هنا أثرياء، ولا خليجيين، ولا من
أي جنسية أخرى، فقط من يعتبرهم الآخرون غريبي الأطوار...
على أنغام أم كلثوم، لعبنا المحبوسة، وشربنا القهوة والشاي الأخضر، وبعد أن
انفضت السهرة، أوقفت "التاكسي" وجلست بجانب السائق، وقلت له: عالحي
الشرقي في صويلح لو سمحت.. فرمقني بنظرة غضب، وقال معاتبا: والله لو بعرف إنك رايح
هناك ما وقفتلك.. طيب ليش يا زلمة؟! خلص من الله بكره الأحياء الشعبية، الاولاد
هناك زي السعادين بنطوا قدام السيارات ..
ومع ذلك، تظل عمّان في القلب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق