في الطريق إلى بيت لحم، بعد أن تجتاز أزمة "قلنديا" وتمر عن
حاجزي "جبع" و"الكونتينر"، وتجتاز طريق "وادي النار .. وهي تسميات متداولة
ومعروفة تماما في فلسطين، ستصل إلى بلدة "العبيدية"، وهي بلدة جميلة تطل من شاهقها على مدينة
القدس. إلى الشرق منها، ستعبر في طريق فرعي ملتوي مسافة 10 كيلومترات، ستتوغل أكثر
بين الجبال، مخلّفا وراءك المدينة وسكانها، لتنعزل أكثر فأكثر عن العالم .. وبعد
آخر وأخطر انحناء للطريق ستطل في منظر مهيب يحبس الأنفاس على "البحر
الميت" .. وسترى تحتك مباشرة وعلى طول الأفق تلالاً رملية مصفوفة بجمال
أخّاذ، تكتسي بالأصفر المبهج كلما أطلت عليها الشمس من الضفة الأخرى، وبالنحاسي
المحروق كلما غابت وراء البحر، ما يضفي على المكان سحر الغموض..
وبعد أن تكون قد تشبّعت بكل هذه الروعة، ستكون على موعد مع
المفاجأة، التي ستكشف عن نفسها دفعة واحدة: "دير القديس مار سابا".
ينتصب الدير على قمة شاهقة، في مكان منعزل كليا، كما لو أنه مختبئ
عن فوضى الناس ومشاكلهم، صرحٌ ضخم مبني من الحجر الفجاري، تحيط به بعض التلال التي
تحميه من عيون الفضوليين والغزاة، وإلى الأسفل منه يمر جدول ماء، يبدو أنه الكائن
الوحيد في المكان الذي تجرأ على شق بكارة الصمت، إذْ ينحدر قويا هادرا بين الصخور
فتسمع خريره من شرفة الدير، كموسيقى تعزف للطيور والأشجار وسكان الدير سيمفونيته
الخالدة..
تأسس الدير سنة 483 م، ومنذ ذلك التاريخ، تجمد الزمن في هذا المكان
البعيد .. فرغم أننا في عصر التكنولوجيا، إلى أن الدير يخلو كليا من كل ما يتصل
بالعصر؛ فلا كهرباء، ولا أجهزة اتصال، ولا شيء هناك مما اعتدنا عليه، وصار من
أساسيات حياتنا .. فقط رهبان ونسّاك نذروا
حياتهم للتعبد، والزهد
..
لا يُسمح للمرأة بدخول الدير، فمنذ تأسيسه لم تطأه أنثى قط .. وعند
سؤالي للراهب عن سبب هذه الممارسة العنصرية بحق المرأة، أجاب بأنه تقليد خاص بهذا
الدير فقط. وليس هذا وحسب؛ إذْ لا يُسمح للزوار والسواح بدخوله أيضا؛ فهو مكان
مخصص فقط للتأمل والتقشف والرهبنة، ولكني بحيلة ما تمكنت من الدخول، فيما بقيت
خلود وياسمين وربى يتسلقن التلال المحيطة بالدير، ويتأملن جمال الطبيعة ومهابة المكان
.. وينتظرن عودتي محملا بالصور التي تكشف أسرار الدير، وتصف بعض جماله.
ما أن دخلتُ البوابة الرئيسة، حتى شهقتُ مأخوذا بسحر الدير وجماله،
منعني الراهب من التقاط الصور، ثم أخذني بجولة على بعض الأقسام التي يُسمح
بزيارتها، كل ردهة أو صالة داخلية منفصلة عن الأخريات، يفتحها الراهب، وبعد أن
ندخل يقفلها، ونخرج من باب آخر، وهكذا. الأرضيات نظيفة تماما، ومبلطة بالحجر
القديم الناعم، الجدران مليئة باللوحات الثمينة، وتزينها النقوش الملونة والعبارات
الآرامية، وبعض الأعمدة الرومانية والبيزنطية والشواهد المتعددة على تقلبات الزمان
وتوالي الفاتحين والغزاة ..
والكثير من السردايب والغرف ظلت مقفلة أمام فضولي، تحتفظ بأسرارها لنفسها
فقط، وتحيط بها الأقاويل والأساطير
..
يحتفظ الدير بخصوصية فريدة، وله توقيته الخاص، فبينما كانت ساعتي تشير للثانية والربع ظهرا، كانت ساعة الدير السابعة والربع (صباحا أو مساءاً، لم أعرف) .. مثل كثير من الأسئلة الأخرى، لم أجد لها جوابا ..
فهمتُ من مرافقي أن بعض النساك يأتون للدير من مختلف أنحاء العالم،
ليعيشوا هنا تجربة الحياة الأولى، المتحررة من مفردات العصر ومتطلباته، في عزلة
تامة، وصمت رهيب يجلل المكان، وبتقشفٍ يصل حد الكفاف، بعضهم ترسله الكنيسة من
الدول البعيدة للتعايش مع حراس الدير، أو ليكفّر عن خطاياه، فيمكث بضعة أسابيع وقد
تمتد شهورا، ثم يعود لبلده، تغمره السكينة، وبعضهم يأتي ليعتكف ليلة أو أكثر،
ينقّي روحه، ويصفّي سريرته وينظف قلبه من الأدران
..
في الجهة المقابلة للدير، على سفح الجبل الصخري المنتصب بشموخ توجد
عشرات الكهوف الصغيرة، يُقال أنها كانت أيضا مكرسة للرهبان، أو لمن شاء التعبد
وحيدا، والاستغفار عن ذنب كبير اقترفه بحق آخرين
...
بعد أن جلتُ ما استطعت في أقبية الدير وسراديبه وردهاته، عند
البوابة الرئيسة، وجدتُ راهبا آخر ينتظرني، ضيّفني فنجان قهوة، ثم طلب مني
الانتظار ريثما يأذن الخوري لي بالخروج، ثم دق جرس الكنيسة، وفُتحت البوابة، وجدت
أمامي دفعة من زوار أجانب: آسيويين، وأفارقة وأوروبيين، ممن أذن لهم
"البطرك" بدخول الدير، دخلوا بسعادة غامرة، وخشوع بادٍ على وجوههم،
ولأني كنتُ واقفا بجانب "البطرك"، همَّ أحدهم بتقبيل يدي، فابتسمت له
معتذرا، فليس كل من دخل المكان قديسا
..
غادرنا المكان، مبهورين بما رأيناه، دون أن نبدد الكثير من الغموض
والألغاز التي ستظل تحرس الدير وسكانه
..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق