في تجربة علمية، وضع أحد العلماء خمسة قرود في قفص، ووضع قرب السقف قطفا من الموز، وصار كلما اقترب أحد القردة من السقف لالتقاط موزة يقوم بمعاقبة جميع القرود برش الماء البارد عليهم، ومع الوقت امتنعت القرود عن محاولة التسلق والاقتراب من السقف، فقام العالِم بإخراج قرد واحد، وإدخال قرد جديد مكانه، على الفور حاول القرد الجديد تسلق السقف، فقامت بقية القردة بمنعه من ذلك خشية العقاب، ثم أخذ العالِم بإخراج قرد وإدخال آخر مكانه وهكذا، إلى أن انتهت جميع القرود القديمة، وحلت محلها مجموعة جديدة، ولم يعد العالِم يعاقب القردة بالماء البارد، لكنها واصلت الالتزام بقانون منع الاقتراب من السقف، دون أن تعلم السبب والعلة لهذا المنع.
وفي تجربة مشابهة على البشر، قام أحد العلماء (اسمه "جونان برغر" من جامعة بنسلفانيا) باستدعاء مجموعة من المتطوعين، وأجلسهم في صالة انتظار معدة على أن تكون عيادة تقدم فحصا مجانيا لمن يرغب، وطلب منهم أن يقفوا لثانية واحدة كلما سمعوا الصافرة، وبعد برهة دخلت المواطنة (س) والتي لا علم لها بالاتفاق بين المتطوعين، وجلست بينهم بشكل اعتيادي، فلاحظت أنهم كل دقيقتين ما أن يسمعو الصافرة حتى يقفوا جميعا ثم يعاودوا الجلوس فورا، في البداية لم تتفاعل معهم، لكنها أخذت تستغرب من الظاهرة، وما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسها تنساق وراء ما تفعل المجموعة، وتفعل مثلهم تماما، وفي سياق التجربة كان المتطوعون يدخلون إلى غرفة الطبيب "المفترضة" وبالتالي يتناقص العدد تدريجيا، إلى أن بقيت المواطن (س) بمفردها، ومع ذلك، ما أن سمعت الصافرة حتى وقفت بشكل آلي، وبعد برهة دخل المواطن (ص)، وهو أيضا لا علم له بما يجري، فلاحظ أن الفتاة تقف كلما سمعت الصافرة، وعندما سألها عن سبب وقفتها أجابت بأن قانون العيادة ينص على ذلك، وهكذا أخذ المزيد من المواطنين يأتون العيادة، ويفعلون ما تفعل المواطنة (س) بالضبط دون أن يعرفوا لماذا ..
في التجربة الأولى لم يكن هناك أحد من الخارج يمنع القردة الاقتراب من السقف، وفي التجربة الثانية لم يكن هناك نص قانوني يفرض على المراجعين الوقوف إذا سمعوا الصافرة، ولكن الذين أجريت عليهم التجربة وجدوا أنفسهم يفعلون أشياء غير منطقية، ويمتثلون لقوانين وهمية ترسخت في عقلهم الباطن، ببساطة، لأنهم إنما يفعلون ما يفعل الآخرين .. وهذا ما يسمى الامتثال الجماعي، أو ثقافة القطيع، أو انتظام العقل الجمعي على نسق نمطي واحد. وفي حياتنا، معظم الأفكار والعادات والمعايير التي تحكم ممارساتنا اليومية إنما هي تطبيق حرفي لقانون الإمتثال الاجتماعي، والعيش بثقافة القطيع، لأن الفرد يرتاح نفسيا إذا كان منسجما مع الجماعة التي يعيش في وسطها، ونادرا ما يرغب أو يمتلك الجرأة لمخالفة ما هو سائد.
قد تكون بعض الأعراف الاجتماعية قد جاءت استجابة لظرف تاريخي معين، أو أن بعض التقاليد كانت مناسبة في زمن مضى، لكن هذه الأعراف والتقاليد ما زالت حاضرة لليوم وتواصل تأثيرها، رغم تغير الظروف والمعطيات، ومن النادر أن يسأل أحدٌ نفسه لماذا نفعل هذا، ولا نفعل ذاك ؟ باختصار، ما زال الماضي يحكم تفكيرنا، ونحن نمشي على خطاه دون إدراك، ودون إرادة حقيقية واعية .. {إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على آثارهم مهتدون}، والمشكلة أن كل فرد يعتقد أنه على صواب، وأن جماعته أو طائفته هي التي تمثل الحق، ويعتقد أنه توصل لهذا الاستنتاج بعبقريته وذكائه، وفي حقيقة الأمر أن الصدفة البحتة هي التي أوجدته في هذا المكان، وهذا الزمان، وجعلته يحمل في عقله الباطن كل الموروثات الثقافية والأعراف والمعايير التي تحكم تفكيره، حتى بات يظن أنها كل الحقيقة ..
هذه الذهنية المستلبة، والتي تبني مواقفها وتمارس أفعالها وفقا لمحددات سابقة، هي أساس تخلف أي مجتمع؛ فهي تورث وهما لكل مجموعة بأنها تمتلك الصواب المطلق، كما تبقي على أنماط تفكير المجتمع وفق نسق معين، وتجمده مكانه، وتجعل من كل فرد فيه متبلدا، يؤدي مهامه ويمارس عاداته بشكل روتيني آلي، حتى يتحول إلى آلة صماء تتحرك ضمن النطاق المحدود الذي تحدده القوى المحافظة، والتي غالبا ما تستغل خوف المجتمع من التغيير ومحاربة أي تجديد للإبقاء على هيمنتها عليه وتحكمها به. وبالتالي، لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم، إلا إذا أعاد النظر في كل موروثاته الثقافية والشعبية، وأخضعها لمحاكمات قاسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق